الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

أعمدة النضال الفلسطيني: في نقد وتطوير مسيرة العودة الكبرى

نشر بتاريخ: 08/06/2019 ( آخر تحديث: 08/06/2019 الساعة: 16:25 )

الكاتب: حيدر عيد

إسرائيل ليست دولة كولونيالية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل هي دولة استعمار استيطاني. وبالتالي فإن سبل المواجهة التي اعتمدتها المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها تحتاج لمراجعات نقدية مبينة على أساس هذا الفهم.
على الرغم مما قد يمثله العمل العسكري الذي تمارسه بعض الفصائل، وهو حق كفلته الشرعية الدولية، من تحدٍ وإحراجٍ لنظام الأبارثهيد والاستعمار في أحيانٍ كثيرة، فإنها كانت ولا تزال الخصم المفضل والحل الأسهل أمام المنظومة الاستعمارية مقارنةً مع المقاومة المدنية، لا سيما إذا كانت متسعة وتستند إلى قاعدةٍ شعبيةٍ عريضة. بيد أن وصول الصراع إلى مرحلة السجال المسلح، يجعل اليد العليا لإسرائيل من دون أدنى شك بسبب الخلل الهائل في موازين القوى. قد يكون في مقدور المواطن العادي أن يقاطع المنتجات، أو أن يشارك في مسيرة، وأن يعتصم في الشارع أو يتظاهر، إلا أنه سيجفل حتماً عن المواجهة المسلحة العنيفة، خاصةً مع نظام يمارس جرائم الحرب بكل أريحية ولا يقيم وزناً أو اعتباراً للحياة البشرية طالما أنها تتبع ديانة أخرى، وطالما أن المحاسبة لم يتم تطبيقها حتى اليوم.
إن معركة المؤسسة الحاكمة الصهيونية في الأساس هي ضد فتح أي إمكانية للحديث عن الحرية والعدالة والمساواة كونها مجتمعة تشكل النقيض الأساسي لمشروعها. ويكمن الغرض الأساسي لتلك المؤسسة ليس بناء نظام ديمقراطي مدني لكل المواطنين على أرض فلسطين التاريخية، وإنما في احتكار أدوات العنف، وإرساء مبدأ رد الفعل غير المتناسب مع أبسط أشكال الاحتجاج والتعبير، ليصبح معلوماً أن أي اعتراضٍ سيتم الرد عليه بمنتهى القسوة.
ولمقاومة سياسات الاحتلال القمعية، لابد من التطرق لنضال المقاومة الجنوب-أفريقية ضد نظام استعمار استيطاني والتي هي من أكثر التجارب قربا من القضية الفلسطينية. أعتمدت المقاومة الجنوب-أفريقية في مقاومتها لنظام الابرتهايد على ما أطلقت عليه أعمدة النضال الأربع والتي تمثلت في الكفاح المسلح، النضال التحت-أرضي، التعبئة الجماهيرية (المقاومة الشعبية)، والتضامن الأممي ممثلاً بحركة مقاطعة عالمية. ما يهم في هذا السياق هو تبني الكل الجنوب-أفريقي للعمودين الأخيرين بالذات في مرحلة الثمانينات وبداية التسعينيات وصولا لسقوط نظام الأبارثهيد عام 1994. أثرت التعبئة الجماهيرية والتضامن الأممي في جعل الوضع داخلياً "غير طبيعي" من خلال جعل إمكانية حكم البلاد صعبة، وخارجياً من خلال عزل كل ما ينتمي للطغمة البيضاء الحاكمة، أي مجتمع الاستعمار الاستيطاني العنصري.
في الحالة الفلسطينية الغنية بأشكال المقاومة المتنوعة نجحت حركة المقاطعة الفلسطينية بالبناء على التراث الكفاحي الفلسطيني من ثورة 1936 إلى انتفاضة 1987 المجيدة والهبات الجماهيرية المتلاحقة، بالإضافة للدرس الجنوب-أفريقي. وبالرغم من الإنجازات الكبيرة التي حققتها حركة المقاطعة منذ انطلاقتها عام 2005 بإصدار نداء المقاطعة الذي تبنته الغالبية الساحقة من منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية، إلا إن رد الفعل العملي للكثير من الفصائل التي اعتمدت العمل العسكري أسلوباً وحيداً للمقاومة، وأحياناً احتكارياً، تميز بفوقية لا تنم عن فهم ثوري حقيقي للعمل المقاوم الجماهيري والإبداعي. بل أن النجاح اللافت للنظر لحركة المقاطعة (البي دي أس) في تشكيل "خطر استراتيجي" على إسرائيل، أسال لعاب بعض الفصائل المهيمنة ذات التوجه الأيديولوجي الإقصائي، لمحاولة ركوب الموجة والبدء بإعادة خلق العجلة من جديد بعد سنوات من انطلاق المقاطعة. ولكن كل هذا يأتي في إطار تفضيل العمل العسكري واعتباره أرقى أشكال المقاومة/الجهاد، على الرغم من نخبويته وعدم شموله قوى الشعب المتعددة. أو على أساس اعتبار أنها محاولة من المؤكد ستفشل وأننا سنعود للقاعدة الوحيدة التي ثبت صحتها، أي العمل المسلح العنيف.
اتضح هذا التوجه بدرجة أكبر في مسيرة العودة الكبرى، قبل تحولها إلى مسيرات كسر الحصار. وما هذا التحول في الإسم إلا تجسيداً لما تم طرحه من قصور النظر لدى بعض الفصائل ذات التوجه الإحتكاري لمفهوم المقاومة، وعدم قدرتها الفكرية على التأقلم والتكيف مع متطلبات النضال ضد أشكال الإضطهاد المركبة التي تمارسها إسرائيل كدولة استعمار استيطاني ذات طابع عسكري بحت غير مهيأ لمواجهة "غاندي"، على حد تعبير احد الضباط الكبار. والحقيقة أن هناك أخطاء عديدة صاحبت تحول المسيرة وتركيز قيادتها على كسر الحصار، و ذلك مطلب ضروري، دون ربطه بالسياقات السياسية الكبرى.
وهنا لا بد من الإشارة الى إن الهدف الرئيسي والمعلن منذ بداية الدعوة لمسيرة العودة الكبرى هو تطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الذي ينص صراحة على حق اللاجئء الفلسطيني بالعودة وتعويضه. وفي حين تم التوصل في بداية عام 2017 لاتفاق بين معظم القوى السياسية وفصائل العمل الوطني والإسلامي بالشراكة مع قطاعات المجتمع المدني في غزة لإصدار دعوة لمسيرة كبيرة تحت اسم مسيرة العودة الكبرى، وبسبب كون المسيرة شكل إبداعي من أشكال المقاومة الشعبية، فإننا، كقوى مؤسسة للمسيرة لن نقبل ان تُستخدم المسيرة كورقة تفاوض على تحسين شروط الإضطهاد من قٍبل قوى سياسية ثبت عدم نجاحها في الاستثمار السياسي الإيجابي للتضحيات الهائلة التي قدمها أبناء الشعب الفلسطيني في غزة.
لذلك، ومن منطلق النقد الذاتي، الذي لن ينال رضى الجميع بالضرورة، نقترح الاتفاق على اصدار نداء جديد مع بيان سياسي يأخد بعين الاعتبار تذكير العالم بـ71 عام من حرمان اللاجئين الفلسطينيين من حقوقهم المكفولة في القانون الدولي، ومن ضمنها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194، وضرورة رفع الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع كمقدمة ضرورية لتطبيق القرار. كذلك، إعادة تأكيد التبني الكامل لنداء حركة المقاطعة BDS، كشكل رئيسي من أشكال المقاومة الشعبية التي يتبناها المجتمع الفلسطيني. وهذا ما سيصب في تمتين ما يروج له النشطاء البارزين من أن هذه لحظتنا الجنوب-أفريقية، أي تلك التي تم العمل على تعزيز عمودي النضال الذين ميزا النضال ضد نظام الأبارثهيد قبل سقوطه: تعبئة جماهيرية مستمرة وحركة مقاطعة دولية فعالة.
لا شك أن الوصول لبيان سياسي يأخذ بعين الاعتبار مبادئ الإجماع الفلسطيني يتطلب مجهوداً كبيراً، ولكن يجب أن تكون نتيجته التبني الكامل من غالبية مؤسسات العمل المدني الفلسطيني والنقابات والجامعات وحركة المقاطعة والهيئات الخيرية ولجان المخيمات وغيرها من مكونات المجتمع المدني الفلسطيني في كافة أماكن تواجد شعبنا. وعدم حصره بمؤسسات وفصائل سياسية غزية فقط.
ان النجاح الذي أحرزته المسيرة وبعد الحصول على العدد المطلوب من توقيعات التحالفات والكتل التي تعبر عن قطاعات المجتمع المدني والقوى الوطنية في أماكن تواجد الشعب الفلسطيني المتعددة يتطلب التحرك واتخاذ الخطوات التالية:
• تشكيل لجنة توجيهية لمسيرة العودة في قطاع غزة تتألف في عضويتها من أجسام ممثلة للقطاعات الموقعة على البيان. وتشمل هذه اللجنة ممثلين عن اللجان الشعبية للاجئين، الجامعات الفلسطينية، شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، اتحادات النقابات العمالية، اتحادات المرأة، الهيئات الخيرية الأكثر تأثيراً وانتشاراً، الكتل الطلابية ومراكز وجمعيات الشباب، الاتحاد العام للمراكز الثقافية، والأندية الرياضية. يتم تكليف هذه اللجنة بالتواصل مع مثيلاتها في الضفة الغربية ومناطق الـ 48 والشتات لتوسيع المشاركة في المسيرة.
• التحضير لمسيرة سلمية رئيسية امام كل المعابر المغلقة من قبل الاحتلال، بالتوازي مع تنظيم مسيرة سلمية تتجه نحو معبر رفح رافعة شعار مناشدة الإخوة المصريين بفتح المعبر طوال أيام الأسبوع.
• خلق آلية لاتخاذ القرارات في اللجنة التوجيهية بالإجماع، وإذا تعذر ذلك فبأغلبية ثلثي الأعضاء، وبشكل يمنع أي عضو منفرد من تعطيل القرار الجماعية.
• التوافق على اعتماد المرجعية الوحيدة للمسيرة النداء الذي يتم الاتفاق عليه بالإضافة لبيان سياسي يتمحور حول تطبيق قرار الأمم المتحدة 194.
• اختيار متحدثاً إعلامياً للجنة، او اثنين، للتعبير عن قرارات اللجنة المقرة بالصيغة أعلاه، مع السماح لآخرون التحدث بإسم اللجنة التوجيهية بعد الحصول على التفويض اللازم ببشكل ديمقراطي.
• التأكيد على أن المسيرة هي بقيادة مؤسسات المجتمع المدني، بما فيها المؤسسات والاتحادات الممثلة لجميع القوى السياسية الرئيسية (الوطنية والإسلامية)، دون وجود مباشر للفصائل السياسية، وذلك حماية للمسيرة وتنفيذا للاتفاق المبدئي بين منظميها من المؤسسات الفلسطينية، وللحصول على أوسع تأييد دولي ممكن وقطع الطريق على الاحتلال من أي ذريعة قد يستخدمها لتعطيل المسيرة.
• تجنب أعضاء اللجنة التوجيهية الخوض بأي شكل من الأشكال في المواقف السياسية الفصائلية والاكتفاء بالتعبير عن الاجماع الفلسطيني المعبر عنه في وثيقة السياق السياسي.
إن الخطر الوجودي الذي تمثله صفقة القرن التصفوية والبدء بتطبيقها عملياً وصعود اليمين الشعبوي في أوروبا وتسيّد اليمين الفاشي سدة الحكم في إسرائيل لفترة طويلة قادمة ونجاح قوى الثورة المضادة في العالم العربي وهرولتها نحو التطبيع وتحذير الأمم المتحدة من أن مليون إنسان في قطاع غزة قد يعانون من الجوع، يحتم علينا الكثير من المراجعات النقدية وإن كانت مؤلمة. فدماء رزان النجار، وياسر مرتجى، ووصال الشيخ خليل، وأمل الترامسة، وأحمد العديني، وابراهيم أبو ثريا، وكل شهداء مسيرة العودة الكبرى، بل كل شهداء فلسطين، تحتم علينا الاستمرار والبناء على ما قدموه من أغلى التضحيات وصولاً إلى الحرية المنشودة.