الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

الأسير ابو دياك استحلفكم بالله ان اقضي ايامي المتبقية بين احضان والدي

نشر بتاريخ: 19/08/2019 ( آخر تحديث: 19/08/2019 الساعة: 11:36 )

الكاتب: عيسى قراقع

ليس بعد، لازلت حياً اصارع الموت، الامراض الخبيثة تنتشر وتتوحش في جسدي، كل يوم ارتدي ثوب الشهيد، اسابق الموت وانتظر كل صباح، ليس بعد، ربما يمر عيد الاضحى دون ضحية اخرى في السجون، ربما لا ازال على حافة الحياة لاقول لكم كل عام وانتم بخير.
انا الاسير المريض سامي ابو دياك سكان محافظة جنين، محكوم بالسجن ثلاث مؤبدات وثلاثين عاماً، ومعتقل منذ عام 2002، اقبع في ما يسمى مستشفى الرملة الاسرائيلي مع 15 اسيراً مريضا، اعاني من مرض السرطان بالامعاء منذ ثلاث سنوات، المرض يتصاعد بسبب عدم وجود عناية طبية لازمة واهمال متعمد تعرضت له في المستشفيات الاسرائيلية ادى الى تلوث في الدماء ووصولي الى حافة الهاوية، وكل يوم اشعر ان الموت قد جاء وقفز الى جسدي واحتضني، وكل ساعه احس بدبيب الموت بداخلي واني سأرحل دون وداع.
لقد وجهت الكثير من الرسائل والمناشدات، وكشفت عن الحرب الصامتة الخطيرة التي تجري على اجساد المعتقلين، كشفت عن اقنعة اطباء يلبسون ثياب جلادين، عن سياسة ممنهجة ومتعمدة حولت السجون الى مقابر وامكنة لزراعة الامراض القاتلة في اجساد المعتقلين، صرخت بكل شهقات الموت الرابضة في اعماقي من اجل التحرك والعمل لانقاذ الاسرى المرضى الذين يقتلوا رويداً رويداّ في هدوء وصمت العالمين.
لست وحدي، الموت يرقص في هذا المشفى كل حين، الاسير بسام السايح يصارع مرض السرطان، ويعد الساعات، وعثمان ابو خرج بدأيتأمل اللحظات القادمة من الحياة، كل ما حولي صراخ واشتباك مع الاوجاع، المشلولون والمعاقون والمجروحون والمنهكون والمدمرة اجسادهم بالرصاص، منصور موقدة وخالد الشاويش ومراد ابو معاليق وعلاء الهمص وفواز بعارة واشرف ابو الهوى، ومحمد براش ومعتصم رداد ويسرى المصري واسراء الجعابيص وناهض الاقرع، محمد ابو خضر وعز الدين كراجة ومصطفى دراغمة وانس موسى واحمد ابو خضر، والاسماء كثيرة ككثرة الامراض في هذه السجون، الهواء موت، والجدران لها مخالب وافواه جائعة، الليل كثيف ولا قمر يطل من السماء.
انا سامي ابو دياك استحلفكم بالله ان تقوموا بالعمل بشكل جدي على اطلاق سراحي، فأنا على مشارف الموت، واريد ان اقضي الايام المتبقية من حياتي بين احضان والدي، دعوني اتوفى في احضان والدي، لا اريد الذهاب اليهم داخل كيس اسود، اتمنى ان تلقى صرختي آذان صاغية لكل من له ضمير حي.

في كل عام يسقط شهداء في صفوفنا، اعدادنا تنقص، رحل الشهيدين فارس بارود وصابر طقاطقة هذا العام، وودعنا الكثير من زملائنا، عيوننا تحدق في بعضها البعض، كل واحد فينا يعتقد انها النظرات الاخيرة، نظرات الفراق، نظرات الميتين الى الميتين، لا احد كسر حجارة هذا القبر، لا احد يطالب بنا كموتى ولا كأحياء، حتى المؤسسات الدولية والصحية وبكل ما ملكت من تقارير ومواثق فقد شلت فعاليتها و اهميتها على ابواب سجون الاحتلال.

المرض وعدم العناية بالمرضى هي حرب اخطر من صفقة القرن والمؤامرات السياسية على المشروع الوطني الفلسطيني، ان ترك الاسرى المرضى تفترسهم الامراض العديدة هي هجوم على انسان الثورة وعلى رموز الحركة الوطنية، هي الاعدامات المتوارية خلف القضبان، فمن يدق علينا الابواب؟ من يحملنا من الموت الى الحياة ولو مؤقتاً؟ من يمسك بعكازاتنا ويقودنا على عرباتنا المتحركة؟ من يعطينا الدواء في الاوردة؟ من يساعدنا على التبول وزرع الاكياس في بطوننا؟ من ينقذنا من الكوابيس والاشباح لننام قليلاً؟ من يسند ظهورنا في الذهاب الى الحمام او الاغتسال؟ من يعيدنا الى جمال قلوبنا وافكارنا وذكرياتنا السابقة؟ من ينقذنا من الرعشات والرجفات والحبوب المخدرة؟
كل عام وانتم بخير يا ابناء شعبي العظيم، هي كلمات اخيرة، رعشات اخيرة، همسات اخيرة، كنت اتمنى ان القاكم في فرح الحرية وليس في وجوم الجنازات، كنت مشتاقاً لاعانقكلطفلوبنتوشجرة، كنت اتمنى ان اصلي في القدس وفي ساحات الاقصى واغني واقذف حجراً وارفع علماً، اكون ككل البشر على ارض وطني واقفا واقفا وليس ميتا ممددا في كفن.
انا الاسير سامي ابو دياك الناطق باسم الشهداء القادمين من سجون الاحتلال، ادعوا الى قيامة، ادعوا الى غضب، الا يسمع الناس ما يجري من اعتداءات وحشية في عوفر والنقب؟ الا يسمع الناس عن اعتقال الاطفال اليومي وتدمير الطفولة في اقبية التحقيق على ايدي وحوش اسرائيلية؟ الا يسمع الناس هذا الاستهتار العلني بكل القيم والاخلاق والمواثيق الدولية بحقوق الاسرى والانسان؟ من يأتي ليسمع ويرى؟ ليكتب عنا قبل الغياب، ليسجل حضورنا الانساني باسماءنا وملامحنا قبل التلاشي تحت التراب.

انا الاسير سامي ابو دياك الناطق من زمن المؤبدات والامراض والزنازين والظلمات، وحدنا نواجه الموت، وحدنا نحاول ان نسافر في خيالات الحياة، الحياة صارت خيالاً، الحياة صارت بعيدة، الحياة صارت استعارة وتأويل، كيف هي الحياة؟ لا يوجد حولنا سوى قتلة، سجانون وجلادون وسكاكين ومشرحة، لسنا تقريراً طبياً، لسنا عابرين في حوادث عابرة، نحن اسرى الشعب الفلسطيني، نحن بشر، جلودنا هي جلدة الارض، ملوحة دمنا هي ملوحة الارض، فمن ينقذنا لينقذ الارض، ارض الانسان؟

انا الاسير الشهيد الحي سامي ابو دياك، الان استطيع الكتابه والصراخ، بعد قليل لن استطيع، ربما هو النداء الاخير لاقول للجميع: الوطن هو قضية الانسان، ومن يترك الانسان يموت امام ناظريه فقد قتل الوطن، هذا الوطن يتألم فينا، لا اجازات عندنا، لا قيلولة ولا رفاهية ولا مشاريع خاصة، كل همنا ان نتجاوز حاجز الموت هنا وهناك، ان نخرج من العزل والاختناق والحشر المخيف، ان نرفع رايتنا الحرة فوق ارض اجسامنا دون معازل وابراج واسلاك شائكة، ان نكون كما ارادت الحياة ان نكون، ان نتحرر من المؤبدات والسنوات القاسيات، انها لفجيعة ان تتركوا الوطن في اجسادنا يذوب ويختفي تحت جنازير الدبابات والمستوطنات والسجانين ودولة قراصنة وعصابات.

انا الاسير سامي ابو دياك كل عام وانتم بخير، سأزور معكم كل العائلات، الاصدقاء والاحباب صباح العيد، سأقرأ الفاتحة على ضريح الشهداء في مخيم جنين وقباطية، سأزرع معكم شجرة زيتون في ارض مصادرة، وابني بيدي طوب البيوت المهدومة في صور باهر، سأكون معكم حيا في الاعراس وفي المواجهات وفي الاحتفالات وفي المظاهرة.
الاسير المريض سامي ابو دياك يردد في الذكرى الحادية عشرة لرحيل الشاعر محمود درويش :
يا اصدقاء الراحل المريض
لا تسالوا متى يعود
لا تسالوا كثيرا
بل اسالوا متى يستيقظ الرجال