الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

فيلم "وباء عام 47" كأنّه عن فلسطين

نشر بتاريخ: 07/10/2019 ( آخر تحديث: 07/10/2019 الساعة: 16:28 )

الكاتب: المتوكل طه

الفيلم الإيرلندي (وباء عام 47) ، يتناول المجاعة الفظيعة التي أتت على إيرلندا منذ العام 1845 حتى ما بعد العام 1847، وهي السنة التي سلّط الفيلم أضواءه عليها .
يبدأ الفيلم بمشهد يصوّر محققاً انجليزياً يخنق معتقلاً إيرلندياً حتى الموت. فيما ينفتح الفيلم ، بعد المقدمة ،على مشهد جمجمة ملقاه في الوحل، وثمة حوافر حصان تدوسها .. والعشرات من البائسين ، شبه العراة الجوعى ، يتناثرون في اللامكان ، الذي هو في كل مكان ، فقير متقشّ بائس ، كأنهم الجثث المرهقة .. الأمر الذي أجبر ثلاثة أرباع السكان على الرحيل إلى أمريكا أو غيرها ، أو الهروب إلى انجلترا ، في اللحظة التي تقوم انجلترا بإجبار الشبان الإيرلنديين على التجنيد ، وتزجّهم في حروبها الخارجية ، فلا يعود منهم إلا نفرٌ قليل ، ليجدوا ديارهم مدافن وخرائب وهياكل عظيمة ، ويكاد البرد أن يطحن ما تبقى في الأشياء .
ويعود أحد هؤلاء الجنود الإيرلنديين فيقول : فعلنا العديد من الأمور لأجلهم ، وكلها لا تغتفر! من أجل ماذا؟ لأعود إلى المنزل من أجل هذا ؟ إن قتلتُ رجلاً يطلقون عليّ اسم القاتل ، أمّا إن قتلوا هم رجلاً .. يطلقون عليها اسم الحرب أوالعدالة أو قضاء وقدر ! من أين ستحصل عائلتي على العدالة إذا لم أحققها لهم ؟
بهذه الكلمات يختصر البطل هذا الفيلم ، الذي يبدأ مع رجلٍ على حصانه وقد عاد من الحرب إلى بلدته في إيرلندا ، أيام احتلال انجلترا لها ، فيجد أن أُمَّه قد ماتت جوعاً وعراءً ، وقد شنق المحتلّون أخاه ، والناس عراة دون طعام ، إذ ينهب السادةُ الانجليز محاصيلهم ، ويتركونهم في أكواخ رثّة لا يجدون سوى الحمّى والموت.
ولأن البطل / القاتل ، كان جندياً في الجيش الإنجليزي وقد خدم في أفغانستان لصالح انجلترا ، فإنه قد احترف إطلاق النار ومراوغة الأعداء ، فتمكّن من اغتيال وقتل معظم الرموز التي جوّعت أهله وقتلتهم وتركت الباقي نهباً لأنياب الأمراض والبرد والتلاشي ، في حين نرى الجنود الانجليز الأنيقين في منتهى الساديّة والغلظة والعنف الذي لا يرحم ، بل ويشترك مع رجال الشرطة كلٌ من القاضي ورجال الكنيسة من الانجليز وبعض الأوغاد الخونة . حتى أن جندياً انجليزياً بريئاً ، أراد أن يعطي الفقراء بعض الطعام ، لكن الشرطة أطلقت عليه الرصاص وقتلته .
إن اللوردات الجشعين بلا قلب ولا يعرفون الشفقة أو الإنسانية ! أليسوا هم وأشباههم الذين ذهبوا إلى العالم الجديد وقاموا بالتطهير العرقي المخيف الذي أودى بقرابة تسعين مليون هنديّ أحمر ؟!
إن مشهد المجاعة التي تفتح فمها الفاغر الشره الدموي ، هو المشهد المتعدد الوجوه والمتكرر ، الذي يأخذ غير شكل ..تؤدي جميعها إلى معنى واحد هو أن الاحتلال وادّعاده ملكية الأرض وتحويل الإيرلنديين إلى عبيد مبذولين للموت.. هو خلاصة الأمر ، وهو القدر الذي يحرّك الأقوياء الغاصبين ، الذين يجدون لأنفسهم ذرائع لما يقترفونه من فظائع ، يجدونها في الكتب السماوية المُحَرَّفة وفي أفكار السادة الذين يقيمون بيوتهم على جماجم العبيد .
إن الأمن لا يمكن أن يتوفّر لأحد من هؤلاء العنصريين المجرمين ما دام هناك جوع واغتصاب وبرد وحمّى وبيوت تهدم على رؤوس أصحابها ، الذين يهيمون في البراري المنهوبة ولا يجدون ما يقيهم الثلج أو يهدّئ بطونهم الفارغة ! إن الظلم والجوع والإذلال والضرائب والسياط والمذابح المجانية والاستعلاء .. هو الرّحم الذي تتخلّق فيه ردّات الفعل من اغتيال وعنف وغيظ وكراهية وغضب .
ولا يمكن للحياة أن تستوي وتتواصل باتزان ، ما دام هناك فندق وثير أو قصر بمدفأة متوهّجة وموائد عامرة ، وعلى مقربة منها أكواخٌ تصفّق فيها أعاصير الشتاء وتصطك الأسنان جوعاً وخوفاً وبرداً !
إن الحياة لا تحتمل هذا التقاطب القائم على الظلم واختلال الموازين .. لهذا لا ينبغي لأحد أن يبحث عن أسباب العنف والكراهية وهو يرى هذا التمايز الذي لن يُطاق ..
ولقد توقفت أمام ما قاله أحد الأدلّاء ، في حواره مع اللورد المحتكِر ، حينما مدح هذا اللورد الفتيات الانجليزيات اللواتي ، حسب رأيه ، لا يشبهن العفاريت البائسة ، ويعني بذلك الإيرلنديات . قال الدليل " خُذ أجمل عذراء إنجليزية ، وضعها لموسم واحد في كوخ إيرلندي ، وأطعمها البطاطا واجعلها تشرب ماء المستنقعات ، وألبسها فستاناً من القماش الخشن البالي ، واجعلها تخوض في الوحل ، واجعلها تنام مع عائلة من الخنازير ، واسلب منها أي أمل ، وعندما تزحف خارج الكوخ .. اجعلها تمدّ يديها النحيلتين وأعطها بنساً واحداً .. فهل ستبدو كأنها فتاة انجليزية عذراء وجميلة ؟ "
إن قصد الدليل واضح تماماً ، فالإنسان ابن البيئة التي يتخلّق وينمو فيها ، بمعنى أن السيد لم يولد سيّداً بالضرورة ، وأن العبد لم يكن عبداً أصلاً في بطن أُمّه .
وأعتقد أن إيرلندا اليوم وهي تقدّم هذا الفيلم ، فإنها بذلك تقوم بتأصيل تاريخها ، بل وتحارب كل المفردات والظواهر السوداء التي حملها الفيلم ، وهذا دليل على قوّة المجتمع الإيرلندي القادر على تثبيت تاريخه ، في اللحظة التي يحذّر فيها من إعادة الماضي أو القبول بمفرداته .
لقد مرّ زمن طويل على تلك المرحلة التي كان الإنجليز لا يطيقون سماع لغة السكان الأصليين في إيرلندا ، وكانوا يعتبرون لغتهم (هراء نجس) .. فهل استطاعت بريطانيا العظمى ، اليوم ، من الالتفات إلى الوراء للعمل على إزالة ترسّبات وتداعيات سياساتها " القديمة " في آسيا وإفريقيا ؟ أم مازالت سادرة في ذلك النهج وتبارك آثاره المدمّرة ؟
أي أن ثمة زوايا أخرى لم ينشغل بها الفيلم ، لأنه ركّز على مرحلة محددة ، وجغرافيا بعينها ، لكنه لم ينشغل بالحروب التي ما زال عجاجها يشوي الأرض والوجوه ، في فلسطين وغيرها .. بسبب سياسات أؤلئك السادة اللوردات.
صحيح أن البطل قد مات مضرّجاً بدمه ، لكن اللورد أيضاً تلقّى رصاصات الموت ، لأنه نسي المعادلة القائلة : إذا أردت إن تحفر قبراً لخصمك فاحفر اثنين ..لأنَّ ثمة ثأراً لا يفتر ولن تخمد عقاربه .
إنه فيلم عظيم يستحق التقدير والثناء ، وقد نجح بامتياز في أن يجعلنا نعيش مع تلك القرى المحطّمة البائسة ، ونكاد نسمع طقطقة العظام وانهدام السقوف ، ويعيد لنا الأمل بوجود مقاتل جسور يعيد الحقّ ويمنع تدهور حياة أهله ودفعهم نحو الهاوية . إنه فيلم شجاع ، صادم ، ساخن ، وحقيقي .. حتى كأنه وثيقة لا تصدأ .
الفيلم إيرلندي 2018 ، من إخراج: لانس دالي.
بطولة : هيوغو ويفنغ، جايمس فرشفيل، ستيفان ريا، فريدي فوكس، باري كيوغن، مو دنفورد، سارة جريني، جيم برودبنت.