الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الانتخابات الفلسطينية بين حرّاس الأزمة واستعادة المشروع

نشر بتاريخ: 28/11/2019 ( آخر تحديث: 28/11/2019 الساعة: 23:23 )

الكاتب: المتوكل طه

كلّما قُرِع جرسُ الانتخابات، نرى النُخَب السياسية على اختلاف مستوياتها، تنهض من غفوتها وتقوم بتجميع الخيوط، مرّة أخرى، في يدها، لإعادة إنتاج نفسها، في وقتٍ يعزف فيه الكثير من الناس عن الفعاليات، لأنه يحسّ أن “حفنة” أو “فئة” هم المستفيدون ! وفي وقتٍ لم يتبقَ فيه من مشروعنا الوطني غير الاسم والشعارات.

ذلك أنّ مكونات المشروع ليست كلمات، لكنها فعل يذهب نحو ترجمة المشروع (العودة، القدس، الدولة).

وأعتقد أن النُخب ستصبح حارسة ومكرّسة للأزمة إذا بقيت على حالها.. بل وتُمسي حارسةً للاحتلال، بطريقة غير مباشرة، إذا تمسّكت بمصلحتها الذاتية والفصائلية على حساب المشروع الوطنيّ. أي أن الانتخابات التي نذهب إليها مُكْرَهين ومُجْبَرين، ستكون عملية آلية ميكانيكية وشكلانية، توقِظ العشائرية بمعناها المباشر والفصائلي وتكرّسها، وستُعمّق آليات التآكل الذاتي و”الانفصال” و”الانقسام”، ولن تُنتِج إلا صيغة أكثر تعقيدًا وتركيباً للواقع الحالي المهترئ. أما إذا ذهبنا إلى الانتخابات باعتبارها قرارًا فلسطينيًا خالصًا، وآليّة قادرة على إعادة اللحمة الوطنية وتُرْهِص لرؤية جامعة وقادرة على إنهاض مؤسساتنا التمثيلية الشرعية على أساس الشراكة، فإنّها ستكون المخرج المطلوب. والسؤال هو: هل سنذهب للانتخابات لأن أحدًا طلب منّا ذلك، أم لأن الانتخابات واحدة من استراتيجياتنا وسبيلنا للخروج من عنق الزجاجة إلى فضاء مُدْرَك ومُعَدّ وقادر على بعثنا من جديد؟

وعلى كلّ حال، نحن في أزمة ! وتنشأ الأزمات الإقتصادية والسياسية في حضن المجتمع، بغض النظر عن مكوّناتها وأسبابها، وتؤثّر في بنيته وتشكيلاته، لذلك، لا بدّ من النظر بعمق إلى حالة المجتمع، ونسأل ماذا فعلت به هذه الأزمات؟  وأوّلها الأزمة الوطنية السياسية، أو ذلك الاستعصاء في التحرر الوطني والاستقلال الذي  أدى إلى مشهد ينبيء سطحُه بحالة من التعايش مع الاحتلال أو قبوله، ويتم ذلك في غياب وضوح أي طريق تؤدي للوصول إلى ترجمة الشعارات التي نتداولها في خطابنا السياسي (العودة والقدس والدولة). كما أن الاستعصاء في عدم إنجاز الوحدة الوطنية أدى إلى ثلاثة مجتمعات فلسطينية؛ هي (الشتات الذي يبحث عن العودة، والضفة التي تبحث عن مواجهة الاستيطان المتغوّل الذي وصل إلى أبواب البيوت وأثّر في كل تفاصيل الحياة، وقطاع غزة الذي يبحث عن فكّ الحصار وتحسين شروط المعيشة، عداك عن أهلنا في الأرض المحتلة العام 1948 الذين يبحثون عن المساواة) فأين مشروعنا الوطني والموحّد؟ كيف تجزّأ ومَن المسؤول عن هذا التشظّي في المشروع الوطني والمجتمعي؟

وباعتقادي فإن النُخبة السياسية جميعها، ومن كلّ الفصائل التي تُعطّل المصالحة والشراكَة، هم المسؤولون عن انتاج هذه الحالة المزرية، لأنهم غلّبوا المصالح الفصائلية والذاتية على المشروع الوطني والمجتمعي. أي كيف نقول إنّنا حركة تحرّر وطني، وإننا “مقاوِمون” و”نحمي القلاع” و”ندافع عن الثوابت” و”لن نترك القدس وحدها”، و”نُغَلِّب المصلحة العامة”.. ولم نستطع إنجاز وحدة وطنية، بحدودها الدنيا، هي شرط أساس وأرض الفعل الحقيقي الراسخة؟ كيف؟ أي ديماغوجية وكذبٍ وتسويقٍ فاقع وإجهاشٍ.. هذا الذي نسمعه، بعد أن شرعنت الإدارة الأمريكية المستوطنات، وبات الغور ومعظم الضفة الغربية نهباً لشهوة الضمّ والابتلاع الاستيطاني العنصريّ؟!

ماذا بقي من خسارات مُفجِعة حتى تحرّكنا حساسية الانتهاكات.. هذا إذا ظلّ لدينا حساسية أخلاقية ووطنية ! وماذا ننتظر من خرابٍ أكثر من هذا.. لنُؤثِر الوطن على مصالحنا الضيّقة المشبوهة؟ وماذا لدينا غير الشجب والتنديد اللفظي الخاوي لنواجه غول الاستلاب الاحتلالي؟ وهل بهذا الأسلوب “العاجز” المتهدّم الكابي سنردّ على كل ما يجرفنا ويحملنا نحو العدم؟  وهل صيغ العمل المجزوءة الهشّة الحالية التي بين أيديكم، هي التي ستنقذ فلسطين ومشروعها؟  أيّ وقاحة يحمله خطاب الانقسام والانكفاء المشبوه هذا؟!

إن السادرين في غيّ الانقسام والمتلاعبين على حِبال مصالح بقائهم وانتمائهم خارج فلسطين.. هم الذين يدّعون أنهم يمتلكون الحقيقة وأنّ حقيقتهم مُقدّسة.. لهذا سيرجمون كلَّ مَن يخالفهم ! وهم على باطل كبير. وعلى رأي أحدهم؛ فمن الصعب أن تتعايش مع أُناسٍ يرون أنهم دائمًا على حق . لهذا، هم أكثر من يتحمّل مسؤولية الخراب الذي يلفّنا ويعرّضنا للهباء.

لهذا أتوقّع أن يبحث الناخبون عن قائمة مُغايرة جديدة غير مُلوَّثة.. إذا بقي الحال الوطني الفصائلي المُشقَّق على وضْعه البائس. وعليه لا بدّ من عملية مُراجعة حقيقية شاملة وجادّة وفوريّة وقاسية، تُنتج ورقة تجمع شتات الأمر والطرائق والأطياف.. إذا أرادت نُخب الفصائل أن تنجو وينجو معها الوطن.

الحركة الوطنية في مفهموم الثورة، تحافظ على نفسها وتدافع عن وجودها وتخوض حروبًا من أجل ذلك، عندما تلتزم بحفاظها على خطّها وأهدافها، وليس على ذاتها. وعندما يصبح الحفاظ على الذات (الخاص والفصيل) هدفًا بحدّ ذاته، وتستبدل به أهداف الثورة، تتحوّل لُحْمة هذه المجاميع إلى ما يشبه العصابة، وتغلّف كلّ مصلحة ذاتية بثوب وطني ! ويصبح المساس بهذا الثوب جريمة وخيانة وشُبهة وخروج عن الخطّ ! بقصد أو دون قصد.. ومع هذا، فإن ذلك لن يوصلها إلى برّ الأمان.. وسنرى هذه المجاميع المنفرطة ترقص رقصة المذبوح في قاع الهاوية.

لقد تعرّض الفلسطينيون لأكبر عملية تخريب في وعيْهم الجَمْعي، ساهمت فيه النُخب السياسية التي تعاطت مع القوى الدولية والإقليمية، ويبدو أن تجلّيات الجَزْر والتراجع في الوعي الجمْعي الفلسطيني بادية للعيان، منها تمزيق الذات،  وتوجّه بعض الكوادر نحو الخلاص الشخصي، والابتعاد عن الفعل الجماعي، وعدم الثقة بالعمل الطوعي والجمعي، عداك عن الذهاب للانتماء إلى الحلقات الصغيرة كالبلد أو العشيرة أو الشلّة، وكذلك فإن تقمّص البعض للقاتل هو أحد تجليات الإرتكاس، إضافة إلى أن استخدام البعض للغّة النهائية هي لغة المهزومين، علاوة على أن الكفر بالحضارة والتاريخ والثقافة والجذر الأصيل هي من مميزات المقهور والمهزوم، كما أن إشاعة لغة الكآبة والإحباط والسواد والتعبير عنها هي من مفردات المهزوم، إضافة إلى أن تمزيق الذات الوطنية والإساءة إلى الرموز وإهانتها هي من مسالك المهزوم وسجاياه العقيمة.. وإن كل شيء، وبالذات المتناقضات تتساوى، في زمن الهزيمة والانهيارات، وكذلك تنمحي الفروق والخصوصيات، وقد يتراءى للبعض أن المناضل في زمن الجَزْر والانكسار يتساوى بالمتنازل والبائع. إن وجهات النظر المتعارضة، تجد كل منهما لنفسها مرافعة وجيهة، تصدّ بها مرافعة الأخرى، حتى يجد المرء نفسه حيراناً ضائعاً أمام براهين الطرفين المتغايرة، ما يؤكد أن وجهة نظر المُغْرِض لها قوة وجهة نظر المُقاوِم، في زمن الارتباك والالتباس. عدا عن أن المنطق الساذج سيقول بأن هاتين هما وجهتا نظر، لا فضل لواحدة على أخرى، ولا يمكن إدانة واحدة وتشريف الثانية. وهذا ما يجعل المهمة أمام الجماهير صعبة إلى حدّ كبير.

لهذا فإننا مدعوّون لمواجهة ذلك، بعد إدراكه وتفهّمه، ووضع العلاجات الأكثر مناسبة، للبدء بتأريخ جديد، تبدأ مع هذه الانتخابات لتؤسّس مرحلة معافاة وانطلاقة جديدة. ومع ذلك ما فتئت إرهاصات ونتوءات، في الوعي الجمْعي، تحاول إستعادة الطريق لإستكمال المشروع، وقد رأينا ذلك أكثر من مرّة خلال الانتفاضتين وهبّة الأقصى والبوّابات.

والآن، ونحن أمام سؤال الاستحقاق السياسي الذي تأخّر، هل المطلوب استعادة اللقاء بين مكوّنات النظام السياسي على قاعدة المفاهيم المستخدمة (الوفاق الوطني، التضامن، إعادة إنتاج الصورة الحالية السيّئة..) أم استعادة الوحدة الوطنية ووحدة الوطن، ببطانة العقيدة الأولى المُقاوِمَة (وحدة مشروع التحرر الوطني)؟.

إذا كان هدف الانتخابات هو إعادة توزيع “الكعكة” بين القوى المتصارعة، وتثبيت الواقع المُتردّي، فما الداعي لها؟ بمعنى أن المطلوب هو تشكيل المكوّنات الإجتماعية والسياسية على أساس واحد (وحدة الوطن، وحدة المشروع، وحدة الشعب)، ويتم ذلك بشروط وقواعد لهذه الانتخابات، أهمها: اعتراف النخبة السياسية بأنها وصلت إلى طريق مسدود، ما يعني ضرورة فتح الطريق لحوارٍ مُختَلِف يُنتج قماشة عريضة قوية تحمل التصوّر الذي نتغيّاه.. وإذا لم يكن لدى هذه المكوّنات ما تقدّمه، فعليها رعاية وحماية الانتقال الآمن لجيل، أثبت في غير محطّة، أنه قادر على مواجهة الأسئلة واجتراح الإجابات لها. وبظنّي أن هذا لن يكون، للأسف الشديد.

وألاحظ أن الناس ينزعون نحو وجوه جديدة غير مبذولة أو مجروحة، وقد رأينا أن المكوّنات السياسية والاجتماعية في الإقليم ذاهبة باتجاه أسماء مستقلّة “نظيفة”، بمعنى مستقل ببُعده الوطني.

وأرجو ألّا يُفهم من كلامي بأن حركة التحرر الوطني هي التي وصلت إلى طريق مسدود، بل النُخب السياسية هي التي وصلت إلى طريق مسدود، لأن من أهم قوانين حركات التحرر هو أن حركة التحرر (الثورة) لا تُهزَم ولا تنتهي، حتى تبلغ أهدافها، وإن ضعفت أو تراجعت أحياناً، أما الذي يُهزَم فهم النُخَب، التي تبيع الوَهم، وتشتري الزمن لنفسها، وعندما تغادر قانون الثورة الذي يقوم على قاعدة “ألّا تعايش مع الاحتلال”.

إننا نعوّل على الوعي الجمْعي الذي يحاول سدّ الفراغ، لكنّ “المستفيدين” سيحاربونه بإدارة ظهورهم وإغلاق أسماعِهم، وبمصطلحات جاهزة مثل (المشبوه، المُخْتَرَق، أجندات…).

وأرجو من هذه الانتخابات عدم إعادة إنتاج وتقديم الأسماء والوجوه المستهلَكة، وأن يبتعد الجميع المُختَلِف عن المقولات الممجوجة والمفردات السوداء التي تُشيطِن وتُخَوِّن، وعن اللغة النهائية التي تُغْلِق أي إمكانيّة للحوار، وأن نذهب نحو الخطاب الوطني الذي يعلو على الأزمة، وأن تكون هناك جرأة قادرة على فتح الجراح لتنظيفها. ونتمنّى ألا نذهب نحو ما يعمّق الانفصال، بمعنى أن عناوين الخلاف من كل الأطراف عليهم أن يغادروا المشهد دون أن يُسَجّل عليهم (ثانيةً) أنهم ذهبوا دون أن يعيدوا الوحدة، رغم إحساسي بأنهم سيحتلّون المقاعد ذاتها مرّة أخرى، ولن يذهبوا نحو الخلاص الجماعي القائم على الرؤية الجامعة ! وأقول لهم: الزمن وملء الفراغ  والتغيير لا ينتظر أحدًا.. فانتبهوا حتى لا تكونوا لعنة التاريخ، واستعيدوا الوحدة إذا لم تستطيعوا إستعادة فلسطين.

وليس آخرًا: أن يكرهك الناسُ لصراحتك أفضل من أن يحبّوك لنفاقك.. على رأى شريعتي.