الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

عن اشتباكي الاول على الهواء...ويوم نسيت العناوين في صالة التحرير!

نشر بتاريخ: 15/02/2012 ( آخر تحديث: 19/04/2012 الساعة: 14:26 )
كتب ابراهيم ملحم - كان يوما صيفيا عاديا،لحظات قبل هبوط طائرة الرئيس ابو عمار في المهبط الخاص لاستقباله في مدينة اريحا، في يوم من ايام تموز القائظ من عام 94.

الجميع كان هناك،الوزراء ،وكبار المسؤولين من مدنيين وعسكريين،وصحفيون متعددو الجنسيات، وجمع غفير من المواطنين،كنت واحدا ممن يغطون الحدث على الهواء للاذاعة الوليدة، تحت جذع نخلة على ضفاف النهر المقدس .

في تلك اللحظات كان هاجسي الوحيد ،هو تقديم تغطية مهنية غير عادية، لحدث غير عادي، يليق بالمناسبة، ولم يخطر ببالي انني ساخضع لاول اختبار مهني على الهواء لي وللاذاعة الوليدة، يقيس منسوب الجرأة ،والحرية، والمهنية، والقدرة على التصرف في اللحظات الحرجة، للطائر الجديد وهو يحلق في اثير مزدحم بالاقمار، والاسرار،واعلام رسمي عربي، مكوي ،ووجل، ومتردد، يفتقد للمبادرة ،والجرأة، ومساحات الحرية، والقدرة على القاء الحجارة في المياه الراكدة.

ولم يكن يدر في خلدي ،انه بينما كانت طائرة ابو عمار،تهبط في مدينة اريحا،كان ذلك ايذانا باول اقلاع ناجح للاذاعة الوليدة، بعد اشتباك جرى على الهواء في ساحة المهبط،مع احد وزراء اول حكومة فلسطينية بعد اوسلو،وطالبتُ الرئيس باقالته من منصبه، بسبب ما بدر عنه من عبارات على الهواء .

فبينما كان الوزير -طيب الله ثراه- يقف بين المسؤولين بكامل أناقته،ووسامة طلته،حتى حسبته واحدا من اعضاء السلك الدبلوماسي الغربي فلم اشأ أن اخاطبه بغير اسمه ولقبه،حيث أشرت الى وكيل الوزارة الذي كان يقف بجانبه ،فكتب لي اسمه الذي ناديته به ،وأنا أساله عن مشاعره في هذا اليوم قبل أن يفاجئني صارخا : أنت منحاز... أنت منحاز ! حسبته يمازحني حتى حذرته بأننا على الهواء فرد غاضبا " بلا هوا بلا.....!!" ولم تشفع لي تدخلات المرحوم فيصل الحسيني، وصائب عريقات اللذين قالا له: هذا ابراهيم ملحم من الاذاعة فرد "بلا ابراهيم ملحم بلا....."!! عندها كنت مضطرا أن اسال السيد الوزير عما يقصده بانحيازي فرد بغضب: كيف تتحدث مع وكيل الوزارة قبلي ؟.... عندها كنت امام خيارين اما أن ابلع الاهانة وتنكسر عصاتي في أولى غزواتي .. أو أنتصر لمهنتي ،ومهنيّتي ،واختبار الحرية، للاذاعة التي ملأت الدنيا ،وشغلت الناس، في انظلاقتها الجديدة،فاخترت وبسرعة الخيار الثاني، دون أن احسب أي حساب للثمن الذي قد أدفعه .. فطالبت الرئيس باقالة الوزير الجديد ،لما بدر عنه من اساءه..على الجانب الاخر كان زميلي يوسف القزاز رحمه الله يسندني من غرفة الاستوديو ،برماية من مدفعيته الثقيلة ،رفع بها معنوياتي في تلك المعركة المفاجئة .

في ساعات المساء كانت القضية حديث المدينة المحتفية بوصول الضيف الكبير،قبل أن يصل في أول تفقد له للاذاعة،حتى أشار اليه أحد مستشاريه قائلا : هذا هو ابراهيم ملحم الذي اشتبك مع الوزير،فرد بينما كان يضع يده على كتفي مخاطبا المستشار، لماذا يتكبر على الشباب في اشارة للوزير...عندها اطمان قلبي على سلامة الحريات الاعلامية ،فاقترحت برنامج "فلسطين صباح الخير" الذي شاركتني فيه الزميلة العزيزة دانييلا خلف والذي قدمنا من خلاله تجربة اعلامية متميزة، بشهادة المستمعين،كسرت الصورة النمطية السائدة عن الاعلام الرسمي الوجل،متسلحين بجرأة تتكي على قاعدة مهنيةتتوخى الصدقية والموضوعية والتوازن، وجرأة السؤال،استمعنا خلالها الى اوجاع المواطنين،وهمومهم وشكاواهم من الماسورة المكسورة في رفح، الى الشيخ المريض الذي ينتظر الدواء في عيادة في جنين، الى سيارة الاسعاف المتوقفة لاشهر بسبب نفاذ وقودها ووجود بنشر في احدى عجلاتها في يطا ،وليس انتهاء بالوزير المتعجرف الذي يغلق ابوابه في وجوه المراجعين ،فما أن يتصل به البرنامج حتى تصبح ابوابه مفتوحة في خدمة المواطنين، وغيرها الكثير ... انها تجربة طافحة بالاثارة ،ومساحات الحرية ،ودرجة عالية من المهنية حتى لا أقول المسؤولية لتكون قابلة للقياس والتقييم.

بعد ذلك التقيت الوزير ونشأت بيني وبينه علاقة طيبة لاكتشف بانه وان كان عصبيا الا انه على درجة عالية من طيبة القلب ونظافة اليد .. رحمه الله .

ابو صالح ..في الدانمارك!

أشارت الساعة الى تمام السادسة مساء موعد النشرة الاخبارية المحلية، بينما كنت وصديقي يوسف المحمود نستعد لقراءتها داخل الاستوديو الشديد الحرارة ،والذي كنا نطلق عليه "غرفة الساونا" اتفقنا أن نتشارك بالنشرة لكي ننهيها بأسرع وقت ممكن .

قدم يوسف تقريرا لمراسلنا بالخليل الزميل الطيب سالم ابو صالح وما أن بدأ التقرير حتى أخَذَنا الحديث تحت الهواء، وبينما كان التقرير يتجاوز الدقائق الخمس كان العرق يتصبب منا ،فسمعت سالم يقول عبارة" وفي الدانمارك يواصل اطفال الخليل.....!" فقلت ليوسف "ابو صالح بعدو في الدانمارك "... فانفجرنا بالضحك، وبقينا في نوبة الضحك حتى انتهى التقرير وأصبحنا وجها لوجه مع الميكروفون على الهواء ،لم يستطع أحدنا أن ينطق بحرف واحد من النشرة التي ما زالت في بدايتها ، فساد صمت مدوٍ للحظات قبل أن اتجرأ للاقتراب من المايكروفون، لانهي النشرة بكلمات مقتضبة، مفخخة بصحكة مكتومة أحس بها المستمعون.

يوم نسيت العناوين في صالة التحرير!!

كان الحماس يشتعل في كل زاوية من زوايا المبنى القديم الحاضن للاذاعة في اريحا ، حيث كان المقر الصغير بمثابة خلية نحل فيه نعمل ونأكل وننام.

لم تتجاوز "صالة" الاخبار التي كنت أتولى رئاسة تحريرها الامتار الثلاثة المربعة ،كنا نطبخ فيها الاخبار ،قبل أن تذروها في الهواء، أصوات مذيعين جرى اختبارهم على عجل .

لم يتوفر يومها لدينا جهاز كمبيوتر أو طابعة لطباعة الاخبار ،فكنا نخط الاخبار بخط اليد،ووقع اختيارنا على الصديق الروائي المبدع احمد رفيق عوض -الذي كان اول من اطل بصوته من الاذاعة في الافتتاح السريع لها - لكتابة الاخبار لجمال خطه ، وما أن اقتربت الساعة من الثانية موعد نشرة الاخبار حتى سارعت الى الاستوديو ، وبينما بدأت موسيقى العناوين ،حتى اكتشفت الا عناوين معى فقد نسيتها في صالة التحرير،بسرعة ارتجلت اربعة عناوين استذكرتها من أخبار النشرة خلال تحريري لها بدون ترتيب دون أن يشعر المستمع باي خلل ..كانت تجربة صعبة اجتزتها دون أن أتلعثم.

ذبابة واحدة تكفي!!

وما أن بدأت قراءة النشرة حتى ظهرت ذبابة ثقيلة الدم كذبابة الجاحظ التي حطت على انف القاضي الوقور ، ظلت تحوم في الاستوديو صعودا وهبوطا حتى اقتربت مني، فتصديت لها بما تيسر من اسلحة تقليدية ،غير كيماوية ،لكنها لم تكف عن محاولاتها للوقوف على الميكروفون حيث لا أستطيع ضربها لان المعركة معها ستكون على الهواء .. هادنتها حتى أبتعدت قليلا لكنها لم تستسلم ، ظننتها تحاول الخروج ،لكنها وبعد أن لم تجد منفذا للخروج في الاستوديو محكم الاغلاق حتى وجدت منفذها ،الى فمي لتستقر في حلقي، كابرت على نفسي ،وابتلعت ما التصق به ،وأكملت قراءة نشرتي وكأن شيئا لم يكن ،كان مهندس الصوت يتابع المعركة من خلف زجاج الاستوديو ،فسارع لاسعاف فمي بكوب من الماء أزال الغصة من حلقي .

"القدس" قبل عشرين عاما!

يزخر العمل الصحفي بالكثير من النكات والطرائف والمواقف المحرجة،حيث قُيّض لي أن امارس حتى الثمالة كل اشكال العمل الصحفي مكتوبا ومقروءا ومرئيا، والكترونيا، وهي أشكال تتباين فيها تقنيات العمل وأدواته ،وابداعاته ،وتوهجاته ، ومفاجآته، واخفاقاته ،ونجاحاته.

في نهاية عام 86 من القرن الماضي ،توليت رئاسة تحرير جريدة الشعب المقدسية خلفا لصديقي واستاذي في الصحافة أكرم هنية الذي أبعدَته سلطات الاحتلال في أواخر ذلك العام ،حيث واظبت بعده على كتابة الافتتاحية اليومية للجريدة والتي كان يكتبها برشاقة عصفور وجزالة قاص وروائي،كانت افتتاحيتي الاولى بمثابة تحد للرقيب الاسرائيلي ،مررتها للنشر دون أن أخضعها لمقص الرقيب ،حتي تلقت الجريدة في اليوم التالي انذارا باغلاقها اذا تكرر النشر بعيدا عن عين الرقيب وكانت بعنوان " كُلّنا أكرم"مع صورة لاكرم في المقال ،وهو امر غير مألوف في المقال الافتتاحي.

كان صاحب الجريدة رحمه الله ظريفا في احاديثه،فكان أن دخلت عليه ذات صباح ،فوجدته يضع صحيفة القدس ذات الانتشار الواسع أمامه ليقارن اخبارها باخبار جريدته، واعلاناتها باعلانات جريدته، واذا به يقول لي بصوت لايخلو من اللوم "لماذا هذا الخبر ينشر بالقدس ولم ينشر عندنا ،ولما كنت لم اسمع بالخبر من قبل، بعد ان قرأت كل ما طيرته وكالات الانباء في الليلة الماضية، سالته بثقة واستغراب أين هو هذا الخبر؟ فأشار بيده اليه وكان بالفعل في الصفحات الداخلية لجريدة القدس ،لكنه نسي أن الصفحة التي يشير اليها هي "القدس قبل عشرين عاما" فضحك وضحكت ،وضحك من كان يتابع القصة معنا .

أهي لعبة استغماية؟!!.

ومن الطرائف في عالم الصحافة ما يتعلق باللغة وضبطها ،ومما قرأت عن الصحفي والشاعر المصري الكبير كامل الشناوي أن اول ما بدأ عمله في الصحافة هو التدقيق اللغوي ثم جاءت الفرصة لكي يظهر مواهبه ،وفي مقدمتها خفة ظله، فقد كان يتولى أعمال سكرتاريا التحرير في جريدة كوكب الشرق رجل ممن كانوا يسمون باعيان الريف لاهو بالصحفي ولا هو بالاديب لكن اختياره تم على اساس حزبي.

وذات يوم وفد على مصر زائر كبير هو ملك الافغان وكانت الصحف تفيض بانباء تنقلاته في القاهرة مع ملك مصر وكان لزاما أن يذكر اسما الملكين بلقب صاحبي الجلالة...مرة تكون الجملة "صاحبا الجلالة" ومرة تكون "صاحبي الجلالة" حسب موقعها في الاعراب.

لم يعجب هذا الخلاف سكرتير التحرير فكان يصحح تقارير المراسلين بأن يجعل العبارة كلها اما "صاحبا" أو" صاحبي" كما يتراءى له وكانت تجارب الاخبار تصل الى يد كامل الشناوي المدقق اللغوي فبعد أن يصححها حسب قواعد اللغة ويرى سكرتير التحرير التصحيح على تصحيحه يغضب وينادي كامل الشناوي ليقول له : أهي لعبة استغماية فكلما أكتبها "صاحبا" تصححها" صاحبي" وكلما أكتبها "صاحبي "تصححها "صاحبا " وأخذ كامل الشناوي يقص حكايته أمام الاديب الكبير طه حسين بحركات الظرف التي اشتهر بها حتى انفجر طه حسين بالضحك وقرر دون مقدمات نقله من وظيفة التدقيق اللغوي الى رئاسة التحرير ومن هنا كانت بداية لمعان كامل الشناوي الصحفي والشاعر والعاشق صاحب اغنية لا تكذبي واغان اخرى لام كلثوم ،وهام الشناوي حبا بالفنانة نجاة الصغيرة حتى توفاه الله.