الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

الحر كريم يونس

نشر بتاريخ: 18/04/2015 ( آخر تحديث: 18/04/2015 الساعة: 14:02 )

الكاتب: جواد بولس

اجتزت حاجز قلنديا العسكري فشعرت أنني أحرزت فوزين: الأول- على أولاد محتل استطابوا، برعونة، الجثم على صدورنا الملساء العارية، والثاني،- على سيل من البشر يتصرّفون كما يتصرّف العاجز المحتاج، أو كمن لا يقوى على الحمار فيتشاطر على البردعة.
توجّهت يمينًا، فقطعت المنطقة الصناعية "عطروت" حيث يندلق مدرّج ما كان يومًا يعرف بمطار القدس كلسان مقطوع، تكسوه أعشاب لا خضرة فيها، وعطش مزمن.
على جهتيِ الشارع ترتفع أسوار إسمنتية تجعلك تتحسس الإنسان فيك، وتتمنى أن تصير عصفورًا أو غيمة.
من بعيد تتشاهق أمامي مجموعة بنايات تحيطها من كل الجهات أسوار مكلّلة بدوائر من أسلاك شائكة وظلال أبراج شاحبة ليلكية، كلون وجه يختنق، إنه سجن "عوفر" أحد منجزات الاحتلال ومنشآته، الذي يؤوي ما يقارب الألف سجين أمني فلسطيني.
كان مزاجي متعكّرًا، لم أهتد إلى سبب لذلك، فبعض الصباحات، في شرقنا، تولد خالية من شهيّتها للضوء، وتُبقي روحك ثقيلة كظلمة. أحاول أن أسترد بعضًا من نشاطي ولياقتي قبل أن أصل إلى سجن "هداريم"، لمقابلة أسرى الحرية.
تبدو المسافة أطول مما اعتدتها. على شارع ٤٤٣ تسافر سيارات إسرائيلية فقط، أقطع حاجز "موديعين" العسكري، وهو ما ينقلنا خارج الاراضي المحتلة، بدون عناء ومحاشرة، لأصل، بعد نصف ساعة، إلى باحة السجن، الذي صار يشبه قرية صغيرة تدب في أرجائها حياة تذكّرني بعالم من أفلام الخيال، تسكنه روبوتات آلية صغيرة وكبيرة، كأنها استنسخت عن جد واحد، رحل عن بلادنا ذات قرن، وقد يكون اليوم مقيمًا في مجرة أخرى.
في المدخل الرئيسي للسجن، أُسأل عن وجهتي، وأُدخل إلى ردهة يجتمع فيها عدة سجانين وبعض المحامين، ينتظرون كلهم إنهاء اجراءات تفتيشهم. أحاول أن أتماسك حتى عندما طلبوا أن أخلع ساعة يدي وحزامي وحذائي، ففعلت كي لا أعطيهم ما يبرر منعي من إتمام الزيارة.
في غرفة صغيرة، مقاساتها تهدد زيارتي مستقبلًا، اذاما لم أنتبه إلى وزني، أجلس على كرسي يلم جنباتي بصعوبة، ورائي باب من حديد سميك يفضي إلى إيوان طويل ينتهي بباب حديد سميك آخر، أمام وجهي زجاج مضغوط ومقوى، يفصلني عمّـن سأزورهم من الأسرى.
بعد برهة من الانتظار، وقبل أن نلتقط سمّاعتي الهاتف ونباشر حديثنا، وقف أمامي منتصبًا، يلبس سروالًا بنيًا وقميصًا بنفس اللون مفتوحًا على سترة برونزية، مدّ يمناه وألصق كفّه بالزجاج، فمددت يدي لتلتقي التحية بالتحية، تهاوت من وجهه بسمة لا أعرف إن كانت أعرض من تلك التي غطت وجهي وفضاء الغرفة، الذي صار بوجوده جميلًا كحضن كرمة.
في طريقي إليه كنت حائرًا، حاولت، مثل ولد يراجع مادة امتحانه، أن أرتب مواضيع حديثي معه، فليس من السهل، أن تدير محادثة، ذات مغزى ومعنى، مع أسير ككريم يونس، الذي دخل عامه الثالث والثلاثين في الأسر الإسرائيلي.
لم تكن تلك زيارتي الأولى له، ولكن في كل مرة أقرر فيها زيارة السجن، أتبيّن أنني لم أشفَ من رعشة اللقاء الأول، ويبدو أن سنين عملي الطويلة لم تسعفني على ترويض قلبي الذي في هذه الأماكن وأمام كريم ورفاقه، كي يستعيد صباه.
بعد أن تبادلنا ما يقتضيه الحال من أسئلة روتينية وتقارير لازمة، سألته كيف يقضي ساعات يومه، بعد هذه الأعوام الطويلة في الأسر؟ توقعت كل الأجوبة، إلّا ما أجابني به، فانا لم أتوقع أن يكون سؤالي هذا فاتحة لحوار، ما تمنيت أجمل منه وأثرى لمعنوياتي، خاصة وقد بدأت صباحي وقد بحت نايه وغاب عنه صوت العندليب.
"إنني أشكو من ضيق الوقت"، قالها بهدوء، وبدون أن يشعر أنه يوقظ مسامات جلدي الذي بدأ يستعيد بعضًا من شبابه الضائع! "أتمنى لو كان النهار أطول، فعلاوة على ما أقوم به من تمارين رياضية ضرورية ودراسة منهجية حثيثة للقب الجامعي الثاني، ألتزم مسؤوليتي، كأمين لمكتبة السجن التي تزود زملائي الأسرى بالكتب وغيرها".
توقف حين تيقن أنني غبت عنه، فلقد كنت أحادث نفسي وأتساءل كيف يمكن لسجان، مهما كان قاهرًا وعتيا، أن يكسر روح هذا الكريم؟ لم أطل الغيبة إلا للحظات، وعدت مستفسرًا، "من أين تأتي يا كريم بهذا الأمل؟". كان لدينا الوقت كله، فمضى يشرح لي عن بداياته، حين اعتقل وهو طالب في السنة الدراسية الثالثة في جامعة بن غوريون، وحكم عليه في مطلع العام ١٩٨٣ بالسجن المؤبد. وقتها كان فتى يشاكس الريح ويناكف القمر، وكان يسعى وراء حلم لم يعد يتذكر اليوم كثيرًا من تفاصيله.
"هل ظل قي قلبك مكان للحب؟" سألته، وتابعت "وما هو أكثر شيء تشتاقه وسيكون أول ما تراه أو من تلقاه؟"
لم يصبر ولم يتردد، جاء جوابه بتلقائية لافتة ورزانة عاشق، فقال: "لا أعرف كيف يبدو العالم الخارجي اليوم، سيكون التأقلم صعبًا علي، ولكنني أشتاق لحريتي وشوقي اليها يمدني بكل أسباب الحياة والصمود والانتظار .. "ثم، بنقاوة قلب مناضل عتيق، أضاف: "لم أجرّب ذلك الحب، إن كنت تقصده، وللحقيقة لا أعرف إن كان موجودًا وكيف يكون، لكنني أعرف الحب بمفهومه العام والشامل وهو يملؤني اليوم أكثر من الماضي..".
كنت أنظر مباشرة إلى وسط وجهه، وأطابق حركات شفتيه لكلامه الذي يتساقط في أذني كوشوشة فجر، وعلى خديه بدا يظهر تورد خجول أنيق، وكرات صغيرة من مياه العزة حاولت أن تنهمل من عينيه، ففاتحته متسائلًا: "هل تحاول أن تحجب ماء الورد عن خدك؟"
لم يتهرب، وأفهمني أن السجن قد غيّره كثيرًا، وأن العالم قد تغير كثيرًا كذلك، وأن السنين علمته أن يكبت عواطفه ويحكّم عقله. وحكى كيف تكون اليوم واقعيته، وعن معنى المصلحة الوطنية، وعن النضال بين المأمول والممكن، وعن تصويته للقائمة المشتركة في انتخابات الكنيست، وعن شؤون أخرى لن يكفيها مقال عابر.
في طريقي إلى خارج السجن يسألني السجان عن لقائي وهو يعرف من يكون كريم يونس، أجبته: دعني أوجز لك القصة بحكمة تعلمتها اليوم من هذا الحر؛ فهو يؤمن، أنه ما دام الموت ليس خيارًا، فإما أن يعيش بحفاوة وكرامة، وإما أن يمضي أيامه في الهباء والعدم!.
لم يفهمني ذلك السجان، مع أنه يجيد العربية، فحاولت إن أبسّطها له موضّحًا أن كريم أكد لي ما تعلّمه من كنوز حكمة كبار سابقين: "لا أحد يستطيع أن يمتطي ظهرك إلا إذا وجدك منحنيًا.."، كنت أسبق السجان بخطوتين، سمعت الغضب في صمته وأحسست سهام عينيه تناوش صفحة ظهري. تركته وأنا مبتسم.