الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

سحر إدماج الموسيقى تربويا

نشر بتاريخ: 05/05/2015 ( آخر تحديث: 05/05/2015 الساعة: 17:51 )

الكاتب: تحسين يقين

في ظل انشغالاتنا الثقافية والتربوية، من الضروريّ تأمل أنفسنا من الطفولة حتى الآن، لعلنا نستطيع تفسير الظواهر بشكل صادق، وبما يكون له معنى خاص.
لم نكن ونحن أطفال، نفصل بين الموسيقى والغناء، فكنا نربط الفنين معا، فن الغناء وفن الموسيقى، وفن آخر هو الشعر الغنائي المتضمن في كلمات الأغنية.
ولكل مرحلة عمرية كان لها ذائقتها، وأغانيها، وقد واكبت أيامنا، فعاشت معنا حتى الآن. وكنا نقبل عليها، ونحلم من خلالها، وما زلنا نحلم حتى الآن.
ذاتيا، جميع الأفراد كانوا يقبلون على الأغاني حسب ميولهم وثقافتهم، أما اجتماعيا فقد كان لها أوقات ومناسبات، في حين كان الكبار ينصحوننا بالقراءة.
لو تتبعنا أثر الاستماع للموسيقى والغناء علينا أطفالا وطفلات، لتذكرنا السرور الذي كنا نشعر به، والطاقة التي كنا نشحن بها، إلى درجة السحر، فما السحر إلا الجاذبية.
ولكل منا قصصه وتجربته مع الأغاني والموسيقى، ولكن لو حاولنا الآن تذكر تأثيرها علينا نفسيا واجتماعيا ووطنيا، فسيكون ذلك رائعا بالنسبة لموضوع مقالنا هذا، ولنا هنا تذكر هذا الأثر، من حيث زيادة إقبالنا على التعلم الذاتي، حين كنا نمارس الاستماع للفن الغنائي خلال إنجاز ما يعرف بالواجبات البيتية، وفيما بعد حين صارت أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ عونا لنا في التحضير للامتحانات.
ثقافيا وتربويا ، كانت كلمات الأغاني مجالا للقراءة والتأمل، خصوصا في الأغاني الوطنية والعاطفية.
وتقريبا، بقينا عند هذا الحدّ، حتى كان يوما استمعت فيه للموسيقى وحدها، ورحت أنتظر الغناء، لكن لا غناء حتى انتهت القطعة الموسيقية، فلاقت في قلبي صدى وفي عقلي احتراما، وأكبرت هؤلاء العازفين الذين يعزفون بحرية، كما رحت أيضا أكبر عازف الناي أو اليرغول في قريتنا حين كان يعزف مقطوعة من تأليفه بدون غناء. وفي يوم بيّت الفتى الصغير شراء كاسيت موسيقى من المدينة عندما زارها، وشعر بالحياء حين سأله بائع الأشرطة في القدس القديمة عن نوع الموسيقى، فأجاب أي موسيقى..وأردف: كلاسيكية!
لا هو يعرف أنواع الموسيقى ولا البائع، وهكذا طار الفتى الريفي بشريطي كاسيت ظلا لديه، حتى تمت مصادرتهما منه على الجسر مع أشرطة أخرى من قبل المفتشين، وهو عائد من السفر.
ما أعرفه، أنه خلال الاستماع للموسيقى تعلمت التركيز أكثر فأكثر، ورحت أكرر الاستماع فأجد دوما شيئا جديدا. وهكذا صار استماعي أفضل للأغاني، وصرت أتعرّف على الثقافات المختلفة، وتعلمت أن جميع ما أسمع مهم. وكل شعب له موسيقاه، فعدت أستمع لما هو محلي ووطني وعربي بوعي أكثر، وبالشعور بلغة الموسيقى العالمية.
كانت هذه قراءتي البسيطة في التذوق وترقيق الطباع والتهذيب، كذلك وفي الوعي والفكر. وتابعنا ذلك كبار ومثقفين وتربويين وهكذا بقينا نفكّر في هذا السحر حتى الآن.
ويمكننا قياس الغائب على الشاهد، في تفسير الأثر الموسيقي علينا حين كنا أطفالا، نمن خلال تأمل أطفالنا وهم يستمعون للموسيقى، أو يتعلمونها في مدرسة للموسيقى.
يحبّ الأطفال الموسيقى لما تثيره في النفوس من سرور وحيوية، ولكن مع تعلمها فإنهم يطورون تلك المحبة لذاتها أيضا، حيث وجدت مثلا أطفالي وأطفالا آخرين يتحدثون عن موسيقى الأغاني، وهالني تحليلهم مثلا لأغنية لفريد الأطرش، فهم في عمر 12 عاما استطاعوا الوصول إلى ما لم نصله نحن الآباء.
كما انتبهت لقدراتهم في التواصل الاجتماعي والتعبير عن النفس بطلاقة تفوقنا عندما كنا في أعمارهم. ولاحظت أن استماعهم لما يقال حولهم أفضل، وأنهم يملكون من التفكير النقدي ما لم نملكه على كبر في الصفوف الثانوية.
اليوم ونحن نتابع برنامج الموسيقى للجميع في مدارسنا، نجد أنفسنا متأملين ذواتنا، كي نعود إلى الموضوع، ليتكامل الذاتي بالموضوعي.
حول إدماج الموسيقى في التعليم
ما تحدثنا عنه سابقا هو النشاط الذاتي في الاستماع، أو في تعلم الموسيقى. أما الآن فسنحاول مقاربة إدماج الموسيقى في التعليم.
دخل البرنامج منذ عام مرحلة تطويرية بحيث صار يجمع ما بين النشاطات الطلابية، وبين الإشراف التربوي لإدماج الموسيقى في التعليم، خاصة أن البرنامج يشمل 160 مدرسة و320 معلما ومعلمة، من معلمي الصفين الأول والثاني.
منذ تطبيق البرنامج في المدارس، وبرنامج الموسيقى للجميع يتلمس طريقه للنهوض بالموسيقى في المدارس والمجتمع. ومن خلال تصميم مناهج للصفوف الأولى والتدريب عليها، مضى البرنامج في توسيع قاعدة المشتركين في المدارس والمديريات. حيث تم تدريب 47 مشرف مرحلة على المواد للإشراف على المعلمين المُدرَبين وتم تأهيل 19 مشرفا لتدريب معلمي جدد.
ومن خلال المشاركة في ورشة عمل تربوية خاصة بعروض التربويين حول جهودهم وتجاربهم في تدريب المعلمين غير المتخصصين موسيقيا، والذين خاضوا قبل عام تدريبات على توظيف الموسيقى في الصفوف الأساسية من الأول حتى الرابع؛ لاحظت كيف وقد أجمع تربويون وموسيقيون على الأهمية الإستراتيجية للشراكة بينهما لتوظيف الموسيقى في التعليم؛ ففي الوقت الذي يطمح الموسيقيون وجود الموسيقى كفن وإبداع في النظام التربوي؛ فإن التربويين على قناعة بالدور الحيوي للفن في التعليم، خصوصا فن الموسيقى، لما يشكل عامل جذب للطلبة. هذا ما ذكره الأستاذ عودة ترجمان مستشار مؤسسة صابرين في التربية الموسيقية.
جميل وضروري أن يكون التعلم من خلال الموسيقى ينسجم وخطة منطلقات التربية والتعليم، باتجاه أن تصبح الموسيقى في بنية الحصة الصفية لطلبة المرحلة من الأول حتى الرابع، في سياق توظيف الفنون في العملية التعليمية كالدراما والرسم.
كيف تعدى تربويون غير متخصصين موسيقيا متابعة المعلمين في عمليات الإشراف، إلى تدريب معلمي الصف موسيقا؟
الجواب هو سحر الموسيقى!
كنت أظن أن إنجازات التربويين في هذا المجال ستكون محدودة إن لم سيخفقون؛ لكن، ومن خلال سحر الموسيقى، فقد كانت النتيجة مفاجئة، حيث أظهرت عروضهم في الورشة نجاحات ملموسة في الوصول إلى الطلبة ودمجهم بالنشاطات الموسيقية ليس في حصص الموسيقى بل في دروس التعليم التكاملي، كذلك في محاولاتهم تعليم المباحث أيضا.
تأملت حديث الصديق جورج غطاس من مؤسسة صابرين، عن النقلة النوعية التي طرأت على البرنامج من حيث الفكرة والتطبيق وإمكانية التنفيذ، وحق الطالب في التعلم بالموسيقى، ودور العنصر البشري(التربويين) في نجاح البرنامج، وأثر ذلك كله على جميع أطراف العملية التعليمية. ووقفت عند نصيحته بالتأمل في البرنامج، باتجاه توظيف الطاقة التي يتمتع بها الطلبة، وربط التعلم بالحياة؛ فكان القسم الأول من هذا المقال هو تأمل ذاتي في محاولة تذكر أثر الموسيقى علينا حين كنا أطفالا، والانتباه لملاحظة أثرها على أطفالنا الآن.
خلال عروض المشرفين في الورشة التربوية-الفنية المذكورة، ظهرت نجاحات الدمج الموسيقي في عمل المعلمين الذين تلقوا التدريب من المشرفين، والتي أعادها المشاركون إلى مزايا الموسيقى نفسها في بث الحيوية وإثارة الخيال والجذب وتشجيع التواصل والتركيز خصوصا في ظل ميل حب الطلبة للتعلم من خلال الترفيه.
من جهة ثانية تحدث المشاركون عن التحديات والصعوبات التي واجهتهم هم والمعلمون في الإدماج الموسيقي، ومن بينها عدد الطلبة وما يخص ضبط الحصة، وقلة المصادر ومحدودية الأدوات، حيث طالبوا بزيادة التدريب والاستفادة من خبرات المشرفين في الدمج الفني، ومتابعة أكثر للمعلمين وتوفير ما يلزم تحقيق حصة تربوية ناجحة، وتوفير حصص نموذجية مصورة وتوعية المعلمين بدور الموسيقى.
لعلّ هذا التفاعل التربوي-الفني يؤدي إلى إعداد أدلة تساعد المعلمين في الإدماج الموسيقي في التعليم، والذي بنظري سيكون مساعدا في هذا الإبداع، في حين أرى أن العامل الرئيس هو إقبال التربوي على الموسيقى ذاتيا، والفضل هنا سيكون لسحر الموسيقى أيضا!
الجميل في هذا البرنامج هو تنوعه وتطوره، وتعاون القائمين عليه من فنانين وتربويين، ومن موسيقيين لديهم خبرة في التربية أيضا. إنها خبرات غنية تتواجد معا فتتواصل وتتبادل الخبرة. كذلك فهناك أثر واضح لشراكة مؤسستين موسيقيتين فلسطينية ووافدة، هما مؤسسة صابرين والمعهد النرويجي للعروض الموسيقية ريكسكونسيرتنة.
إنه التأمل الذاتي والوطني والعالمي في تعليم الموسيقى لذاتها أو لما تثيره من شعور ووعي، بما تتكامل عناصر الحياة البشرية، تربويا واجتماعيا وثقافيا ووطنيا وإنسانيا.