الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

رهانات السرد المستحيل في"القادم من القيامة" لوليد الشرفا

نشر بتاريخ: 06/05/2015 ( آخر تحديث: 18/06/2015 الساعة: 10:06 )

الكاتب: د.عبد الرحيم الشيخ

لا يستحق الواقع الفلسطيني اليوم كثيراً من المديح، اللهم لمن يدركون أن الكتابة لا تكون لمناسبة، بل هي، كما يؤسس مظفر النواب، محقاً، "لدهر من الحزن والتحدي، لا خوف أن يطول ما دمنا ننبض، والأفضلون يحملون السلاح." ومع ذلك، ليس للهجاء أن يسهم في إنقاذ الواقع من فلسطينيته، أي من "فشله المضيء" على حد التعبير المجازي لموريس بلانشو، و"نجاح الفشل" على حد التشخيص البنيوي اللافت لإسماعيل الناشف، وعلى حد المعاينة السياسية الدقيقة لنديم روحانا حين يؤسس أن فشل المشروع السياسي الفلسطيني، أو بالأحرى فشل القائمين عليه... قد أسهم بفاعلية في نجاح تدشين هوية فلسطينية لا تزيدها سيولتها البنيوية إلا صلابة جوهرانية في ميدان المواجهة النبيلة والدامية مع نقيضتها الصهيونية. هنا، ينتحل الهجاء تماماً، وللمفارقة، صفات المديح حين يلتقط "نوابت" الجميل في غابة القبح الشاسعة على امتداد البلاد والتجربة.

في هكذا سياق، يقدم وليد الشرفا، أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية والعربية في جامعة بيرزيت، مقترحاً جمالياً وثقافياً لتصحيح "السياسة" التي ذمَّها فالتر بنيامين، مرةً، حين تكون "بلا سياسة ثقافية صالحة." ولا غرابة في ذلك، إذ ينهل وليد الشرفا من معينه العرفي والمعرفي والعرفاني الذي كرَّسه في أبحاثه وكتاباته الإبداعية على امتداد عقدين ونصف من عمره لدرجة الدكتوراه في "تحليل الخطاب لدى إدوارد سعيد،" والماجستير في "بواكير السردية العربية،" وفي دراساته الإعلامية حول "حركتي حماس والأخوان وقناة الجزيرة من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة،" وفي دراسات طلبته النجباء في الموضوعة ذاتها... فضلاً عن مساهماته الإبداعية من "محكمة الشعب" إلى "اعترافات غائب،" وأخيراً "القادم من القيامة" موضوعة هذه المقالة.

القادم من القيامة: رهانات السرد المستحيل

صدرت رواية الشرفا "القادم من القيامة" عن المؤسسة العربية للدراسات النشر-بيروت (2013)، وكانت قد صدرت في طبعة فلسطينية عن مركز أوغاريت الثقافي-رام الله (2008). وإن كانت طبعتها الفلسطينية قد فاتتنا، بـ"حجاب القرب،" فلا شك أن الطبعة العربية تستدعي الكتابة حول رهانات السرد المستحيل فيها، وإن بمثاقفة عابرة مع ما دشَّنه فيصل درَّاج في وصفها إذ "يحاول في عمله، أن يقدِّم نصاً روائياً، ويطرح فيه أولاً قضايا المسألة الفلسطينية على مستوى المعنى والبناء الروائي معاً، فسؤال الفلسطيني ماثل في "الإقامة المؤقتة" أو "اللا-إقامة" حيث صعوبات الحياة تقصيه عن وطنه المحتل، وحيث عنف المنفى يعيده روحياً ورمزياً إلى الوطن الذي لا يستطيع التخلِّي عنه. ولعل هذه الحركة المأساوية المحكومة بـ"اللا-إقامة" هي التي تجعل رواية وليد الشرفا ترسم إنساناً مغترباً ناقصاً قبل أن يقذف إلى المنفى، وناقصاً أكثر في منفاه الإجباري. ومع أن المؤلف بذل جهداً في تجسيد شخصية الفلسطيني المغترب، الذي يحنُّ إلى الإقامة السوية ويفتقدها، فإن قلق الروح الصادر عن وضع مأساوي لا يعرفه إلا الفلسطيني أملى عليه أن "يصف" المعيش المباشر، قبل أن "ينشغل" ببناء جمالياته، محاولاً أن ينتج رواي-وثيقة. في عمل وليد الشرفا ما يستدعي مصطلح "الرواية المستحيلة" التي تجمع بين وصف القلق الواسع و"التبشير،" ومتاخمة اليأس ورفض الاستسلام، والعمل في الحالين وثيقة مزدوجة عن صعوبات المنفى الفلسطيني، وعن صعوبات إنتاجه في رواية تقرأ الألم ولا تراهن على المستقبل."

لا شك أن درَّاج، في تعقيبه المقتضب على الرواية، يقبض على سبابة الشاهد-الشهيد فيها، وهو اغتراب "راويها المحلِّي" الذي يكاد يتماهى، سيرةً ومسيرة مع الروائي ذاته، عن واقعها وواقعتها حدَّ القطع الأنطولوجي معهما بـ"فعل" الموت/الشهادة. فالخط القصصي للراوية يتناوبه، سردياً، راويان أحدهما غارق في اغترابه الوطني على أرض فلسطين، يعمل في حقل الثقافة بين المؤسسة الرسمية والجامعة؛ والآخر "راوٍ متروبوليتاني" يعمل في حقل الكمبيوتر في شركة برمجيات عالمية في المركز الأوروبي. تنفصم سردية "الرواية المستحيلة" في "القادم من القيامة" بين هذين الراويين اللذين يقاربان المحنة الفلسطينية اليوم في مونودراما فريدة بامتياز يتماريان فيها حتى لكأنهما اثنين في واحد.

ترصد الرواية غرق منظمة التحرير الفلسطينية، بيت الفلسطينيين المعنوي، في الزمن الآسن للسلطة الفلسطينية بُعيد انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الأولى-انتفاضة الحجارة 1987، وتستعرض "موبقات" الزمن الفلسطيني الآسن في حقبة "المستعمرة ما بعد الاستعمارية" التي دشَّنتها اتفاقية أوسلو وممارستها باقتدار يكاد يكون منقطع النظير. فصديق الراويين المغتربين، كل في أمكنته وأزمنته المتغايرة، وكنيته "الشيخ،" يستشهد في غمرة "الهدنات" والتهدئات" و"التسويات الأمنية" لمطاردي الانتفاضة وأعضاء "كتائبها" المتكاثرة، ولا يلبث "الشاعر" الانتهازي، وهو "مثال نموذجي" Archetype للمثقف الكمبرادوري في حقبة ما بعد الاستعمار، أن يلتفَّ على عائشة (أرملة الصديق/الشيخ) ويتزوجها. يغرق "الشاعر" في عسل أرملة الشهيد، وتغرق البلاد في عسل أوسلو الصناعي في مجالات السياسة، والثقافة، واقتصاد الارتزاق.

وفي حين يخوض الراوي المتروبوليتاني "حروب الحركة" الثقافية لمشرقيِّ احتكم لـ"حكمة" ماكينة الرأسمالية الغربية وانحكم بها كمصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال؛" يواصل الراوي المحلي "حروب الموقع،" بالمعنى الغرامشي، في تدشين فلسطينيته الخاصة بنقد المؤسسة والقطع معها كالشيخ العابد في "الشهداء يعودون هذا الأسبوع." وفي المنتصف، بين راويين ونمطين متغايرين من الحروب ومكانين متغايرين وزمنين متغايرين... تظهر شخوص الحكاية بمسميات لا أسماء لها، اللهم لشخصيات هاربة من "واقع" بائس إلى "مثال" أكثر بؤساً لا يكون فيه "الكامل،" إحدى الشخصيات القليلة التي خصَّتها الرواية باسم ورسم واضحين، إلا مسيحاً تطهرياً صغيراً، و"أهبلاً/عبقرياً" في سياق رعوي يرغب في انتحال صفات الدولة الحديثة التي لا سيادة لها حتى على اسمها... إلى أن تنتهي الرواية حين يقضي شاهدها-الشهيد (راويها المحلِّي) برصاص جنود الاحتلال الصهيوني على حاجز عسكري رفض منح حق الحياة لجنين في رحم حامل محمولة في سيارة الموت/الحياة نحو مشفى الولادة؛ وعودة الراوي المتروبوليتاني لإلقاء النظرة الأخيرة على رفيقه في السلاح حين يدفن، إلى جانب رفاة صديقه (الشيخ الشهيد)، في جبَّانة القرية التي "يدفن (فيها) اللصوصُ آخرَ الأنبياء."

هنا تماماً، ولربما في مخالفة بيِّنة لتشخيص درَّاج، تكمن راهانات السرد المستحيل: بين هذه الأمكنة والأزمنة المتغايرة التي استحضرت جمالياتها معها لتكون "نصاً" مزعجاً بتعبير ت. س. إليوت. نص مزعج في القراءة، ومزعج في التقنيات، ومزعج في المآلات التراجيدية لأبطاله/الأنبياء.

الأمكنة/الأزمنة المتغايرة كعتبة تفسيرية

شأنه شأن صنَّاع الثقافة في حقبة المستعمرة الفلسطينية ما بعد الاستعمارية، يدخلنا وليد الشرفا بامتياز إلى عالم جديد من عوالم التصوُّرات الذهنية للأمكنة والأزمنة، الأمكنة والأزمنة المتغايرة التي نحت لها فوكو اسماً، هو الهتروتوبيا (Heterotopia). لكن "الأمكنة المتغايرة" تصدر، عند فوكو، عن معين نظري للمكان لا بد من إضاءته ليتم المعنى.

هنا، يمكن الاختصار بالقول: إن مفهوم المكان الرياضي أو الهندسي يُشَكِّلُ جزءاً من مفهوم المكان الذي يتمركز حوله تعريف فوكو للمكان ونقده لعملية تشكيله، ولا أقول تشكُّلِهِ. يقوم هذا الفهم على اختبار أثر النموذج الفراغي للمكان الذي يفرض على الجسم أو الذات حبكة استعلائية نتيجة لموقعه. فثلاثية البعد للمكان، عند فوكو، تنتج بيئة يمكن للمكان وما يملأ شغوره أن يكونا فيها موضوعاً للتخطيط والموقَعَة، وبالتأكيد، للضبط والتأديب والتدجين (Disciplined Space). وعليه، فعندما يكون المفهوم الهندسي مرجعية للمكان كحيِّز للحياة، فإن إنتاج المكان يكون إنتاجاً لحيز الامتثال، إذ المكان، هنا، لا يمكن تصوُّره بغير كونه "حيزاً لممارسة السلطة." ففي عديد مؤلفاته الثورية، يقدم فوكو أكثر الأمثلة الصارخة على المكان المنظم والمؤدَّب والمدجَّن والذي يمكن ملاحظته: مدينة الطاعون، حيث تُضبط المدينة ويدَّجن مكانها تقسيماً وتخطيطاً، ويمتثل سكَّانها سكوناً وحركةً، لآليات الضبط والمراقبة تحت وطأة المرض ورهاب الجذام؛ ومثلها السجن؛ ومصحَّة الأمراض العقلية؛ والمعسكر؛ والمدرسة...كأماكن مفعمة برؤيا الـمُكرِه ومعاييره، وانضباط الممتثِل وعلاماته، بغض النظر عن المبرر الأخلاقي أو المعقلِن الفكري أو المبرر السياسي لفعل الجبر. وبذا، تغدو هذه الأمكنة عوالم مصغَّرة أو مكبَّرة لـ"ماكينة التأديب" السلطوية التي تعيد إنتاج المكان وسكَّانه وهي تعيد هندسته.

لكن فوكو، إلى جانب هذه الأماكن المدجِّنة والمدجَّنة، يقدم نماذج لأماكن محايثة خرجت في إطار تجلِّيها عن حدِّ التدجين وإن لفترات زمنية محدودة وغير متعاقبة. هذه الأماكن البديلة والمتغيرة، والقليلة على أية حال، هي أماكن الاستقرار، ويمكن أن نقول "السكينة" تجاوزاً. وهنا يمكن استدعاء مفهومين تطبيقيين للتوضيح: الأول هو مفهوم الخارج غير الأليف أو المدجَّن (Untamed Exteriority)، وهو المكان الذي يستعصي على المراقبة، ويفرُّ من قبضة التأديب، وكأنه ثغرة في جدار المكان الاعتيادي المدجَّن أو هو ثقب أسود فيه. إنه فضاء الأفق: إليه يسكن المنبوذون بلا أمر رسمي لهم بالانتباذ، والذي تم تخصيصه، على غير عين السلطة السيادية أو التأديبية، للعيش العابر فيه بعيداً عن "ظلم" السلطة و"ظلمتها."

وأما المفهوم الآخر، فهو "المكان المتغاير" (أو المكان الآخر) أو الهيتروتوبيا. والهتروتوبيا هي المكان الذي يعلِّق، في بعض صوره، أو يدخِلُ في حيِّز الحياد، منظومةَ العلاقات والممارسات الصادرة عن السلطة في أشكالها السافرة (السيادية) وإن بقيت تشوبه بعض أشكال السلطة الخفية (التأديبية). والهتروتوبيا، كما اليوتوبيا، تختزن في جوفها الممارسات الاجتماعية المدجَّنة ونقيضها، في آن معاً. غير إن تعيُّنها ووجودها الفعلي، على خلاف اليوتوبيا، يحمل القابلية لنقدٍ، ولربما نقضٍ، لممارسات الواقع القائم وأجندات السلطة. هذه الأمكنة، حسب فوكو، تكشف زيف الترتيب الحيادي للمكان كما يتم فرضه من السلطات التأديبية، وما خلفها من سلطة سيادية. والمرآة هي النموذج الفذ للـ هتروتوبيا، فهي تعكس الحقيقي واللاحقيقي. تعكس من حقيقة المكان ثلاثية أبعاده، لكنها تغيِّبُ عن صورة المكان التعيُّنَ الفعلي لما يملأ شاغره. لكن الهتروتوبيا، كما يملي اسمها كـ"مكان متغاير" (أو آخر) عن نفسه، وغيره من الأمكنة، تتعدد صورها وأنماطها تبعاً لمبادئ ستة "ناظمة" لها: تقول بكونها عابرة للثقافات، في "أزماتها" (بيت العجزة) وانحرافاتها" (مدرسة الأحداث)؛ وقابليتها للتغيُّر والتطوُّر تبعاً لتغيُّر المجتمعات التي تظهر فيها (المقبرة والميدان)؛ وقدرتها على الجمع بين تغاير الأزمنة والأمكنة وقيمهما في الواقع والخيال (المسرح والحديقة)؛ واستعدادها لاحتواء تغايرات الزمن وتراصفاته، زوالاً ودوالاً، في مكان واحد (المكتبة والمتحف)؛ وجمعها للنقيضين من حيث كونها عصماء ومستباحة، قابلة للاختراق وعصيَّة عليه، في آن معاً (الفندق والمقهى)؛ وأهليتها للقيام بوظائف مختلفة، حدَّ التناقض: بين أمكنة "الوهم" وأمكنة "التعويض،" بين (إمارة تحتفي بالتحديث بلا حداثة) و(فضاء استعماري وظَّف فيه المستعمِر قيم الحداثة ولم يأت بالتحديث).

ولا شك رواية "القادم من القيامة،" وهي تستدرج الاغتراب في حدود الوطن التاريخي وخارجه، تضيف بعداً جمالياً آخر هو مفهوم هتروتوبيا الزمن (Heterotopia of Time)، إذ ترتبط رواية الشرفا بشرائح مكانية متباعدة تستدعيها الذاكرة، بتزميناتها المتباعدة والمتغايرة (Heterochronies) على نحو دائري لا بدء فيه لزمن التذكُّر ولا انتهاء، اللهم إرادةُ الروائي بتجميع شذراتها، وطاقة المتلقِّي على بناء العلاقات.

بنية السرد المستحيل: سيميائية التغاير الممكن

إن كان تشخيص درَّاج يحيل إلى فكرة الاستحالة بين "الإقامة واللا-إقامة، ومنفى الروح في مكان الإقامة، وروح المنفى في مكان اللا-إقامة، والرواية/الجمالية والرواية/الوثيقة،" والاستحالة مفهوم خاص باللسان العربي على أية حال، إذ لا تشتمل غير العربية من لغات نعرفها (الإنجليزية والعبرية والفرنسية والألمانية) على مفهوم "المستحيل،" بل على مفاهيم الممكن (Possible) وغير الممكن (Impossible)... فإن وليد الشرفا يدشِّن إمكانية السرد المستحيل، الذي لا يبدو أن صديقنا الناقد الفذ درَّج، قد التفت إليه، عبر ما يمكن أن نطلق عليه "سيميائيات التغاير الممكن" في عناصر الرواية الكلاسيكية: شخوصاً، وأمكنة، وأزمنة، وأحداث لا سلطة لها أو عليها إلا سلطة الروائي والراوي في "سردهما المستحيل."

تدهمنا هذه السيميائيات انطلاقاً من عنوان الرواية "القادم من القيامة" وليس "الذاهب إليها،" في إشارة إلى استهلاك وعود الخلاص الوطني واللاهوتي، وثورة عليهما وعلى مصائر ضحاياهما الماثلة في إهداء الرواية شهادةً واستشهاداً: "إلى الآباء الذين توسطوا المساحة بين الاستعارة والواقع، وأعادوا بأجسادهم وألمهم وغربتهم المخنوقة إنتاج استعارتنا الفلسطينية الجمالية والمعرفية، إلى: وائل زعيتر، غسان كنفاني، كمال ناصر، ماجد أبو شرار، ناجي العلي، معين بسيسو، جبرا إبراهيم جبرا، إدوارد سعيد، إسماعيل شموط، محمود درويش، فيصل دراج، والقائمة لا تنتهي."

هنا، لا تتوقف سيميائية (الغلاف الذي لم يختره الروائي بل كان من اختيار مصممه الشاعر زهير أبو شايب) الإهداء لتعلن عن مجيئها السرمدي الذي تحيل إليه هذه الأسماء للسادة الشهداء/الشهود، بل يتم تكريسها باقتباس رشيمي حول البطولة الملحمية في زمن غير ملحمي صاغه شاعر قليل الشهرة (أظنُّه في عالم الواقع) يعادل الراوي المتروبوليتاني (للمفارقة)، وهو الشاعر نبيل خريوش (وشخصية أخرى هي رفيق عمره بسام عويضة)، صديق الشاعر الذي زاوج بين مآسي الفلسطينيين ومأساة نورنبيرغ بمقطع شعري رهيف من قصيدة، بعنوان: "في القطار إلى نورنبيرغ":
"ليل يلف طريقنا مثل الكفن... والدرب طال.
وأنا المسافر منذ جئتُ إلى الحياة من السراب إلى المحالْ
أنا سندباد وقد صلبت على المتاهة والغيابْ
وأنا الرجوع بلا رجوع يرتجى
أنا يونس المنسي في بطن الحديد الأفعوان
يمضي كما الأسد الأشوري المجنح سابحاً كالسهم يسبق صوته
ينوي مهاجمة المسافة والإطاحة بالأفق."

وإما إذا دلفنا إلى الرواية، فتفجعنا سبعة عشر فصلاً من ممكنات التأمل في التجربة الفلسطينية المستحيلة تراوحت بين: الثانية ليلاً؛ وداع وداع؛ يوم واقعي؛ يوم خيالي؛ هنا هناك؛ عيد الموت؛ أنا...؛ عام حزن؛ الكامل؛ مدينة الله؛ أسفار المجد؛ الشاهد؛ اختناق؛ العنب والغربال ؛ القيامة؛ الموت الصباحي؛ طعم البكاء.

تشتمل هذه الفصول على ترحال دائم بين راويين متغايرين (المحلِّي والمتروبوليتالني)، ومكانين متغايرين (فلسطين والمركز الأوروبي)؛ وزمانين متغايرين (الحاضر الفلسطيني والماضي السعيد والتراجيدي في آن معاً)، وعلاقات متغايرة بين الشخوص والمكان والزمان (حروب الموقع وحروب الحركة). لكن أهم ما يميز هذا الترحال التأملي هو صدوره عن راويين في الأربعين، بعمر النكسة وعمر منظمة التحرير في زمن كتابة الرواية، وكأنهما جمعا إلى الزمن الضائع الذي لا يعود لدى "امرأة تدخل/تترك الأربعين بكامل مشمشها" عند محمود درويش، تراجيديةَ دخول الأربعين عند دايدو آرمسترونغ في "أراك حين الأربعين"! لكن رشد الهزيمة، حين تدخل الأربعين، لم يلق بظلاله على لغة من بلغوا الأربعين حيث مارس الراوي، المحلي بخاصة، مهاراته السردية في المزج بين خطاب سردي بينيِّ لافت عمَّق ثنائيات التغاير: بين لغة الأمس ولغة اليوم في الخطاب الوطني الفلسطيني؛ وبين رعوية الذاكرة القروية وحداثة الذاكرة المتروبوليتانية (المدينية)؛ وبين هجاء الواقع وعدم قصر الفاعلية المثقفية على ذلك، بل المساهمة في تغييره عبر أفعال القطع المتلاحقة من الأمكنة والأزمنة المتغايرة: من القطع مع النخب الثقافية، والمؤسسة الرسمية، إلى الاستقالة، وتتويج المسيرة باستشهاد "يغيظ العدا،" استشهاد يليق بـ "رجل في الأربعين ما زال يمارس عادات الصغار في التذكر والأمنيات. كل شيء تغير وتبدل إلا أنا، حتى صديقي الذي كان ظلي بدأ يسخر مني. ما هذه الذاكرة المجنونة، وما هي الحياة المملة العجوز في انتظار الموت؟ وهل أغادر وألحق به هنا... ولكن ما الفائدة؟ كل شيء تغير، وأنا أسير لذلك الموت أشفق على حجارة القبر من البرد، كل شيء تغير."

وفي بعد آخر، تتجلى سياسات السرد المستحيل في توزيع الرواية بين خيط الواقع وخيط الحلم في تجلِّ لطيف لإحدى مقولات الروائي أكرم مسلِّم، حين كان يكتب الشعر في أول مشواره الإبداعي، محيلاً إلى أننا "نرى الذي نحيا، لنحيا ما نرى." ولا شك أن عالم الأحلام، أو "عالم البقايا" بتعبير فرويد، ينوس بين زمن حاضر يختنق به كل من الراويين، وزمن قد مضى كان، في بعض ذراه، زمناً سعيداً، فيما كان، في معظمه، زمن هزائم وانكسارات. هنا، لم تخرج أحلام الراوي المحلي، الذي لم يكن متشائماً بقدر ما كان لديه الكثير من المعلومات، عن كولاج كابوسي لا يحيل إلا الاستهلاك الروحي لصاحبه في ممارسة فلسطينيته كما ينبغي. يقول: "حلمت أن شيخا وقورا، يلبس رداء طويلاً، تصل لحيته البيضاء أسفل رقبته، محدودب الظهر قليلاً، يلف رأسه بعصبة سوداء ويحمل بيده عصا، ويجر بيده الأخرى حمارة، وقد انتظر أهل البلد على شكل طابور عظيم يمتد من السهل المحاذي لجبل الصنوبر يمد كل واحد منهم إصبع سبابته بانتظار دوره..كل واحد منهم إصبع سبابته يمسكه الشيخ ويضع تحت ثدي الحمارة، ويحلب له عليه، فيمص الرجل إصبعه ويهرب فرحا، وهكذا، حتى انتهى الطابور، ولم يبق سوى شخص واحد لم يضع إصبعه ولم يلحس حليب الحمارة... بيضاء، سمينة، يمتد خيط اسود من بين أذنيها حتى مقدمة ظهرها، يلتصق فخذاها من السمنة وتطل أثداؤها كإصبع طفل صغير." يتخلل الرواية أحلام أخرى غرائبية لا سبيل للوقوف عندها إلا في دراسة أوسع، لكنها تعمق فجيعة الرواي المحلي بمحيطه؛ ولا تثير في الراوي المتروبوليتاني إلا الغيظ من مراوحة صديقه، والبلاد، مكانهما.

أما الراوي المتروبوليتاني، فقد قطع مع البلاد، وقعاً ووقيعة، على نحو وجودي، وغاص في عمق المركز الأوروبي، داعياً صديقه للحاق به على الرغم من اعتقاده أن تلك البلاد إحالته من ملك إلى كلب، ومؤكداً له أن صديقته الأفريقية وصفته بأنه "الإنسان الحضاري القادم،" فيما يصر هو القول رحلت "لأنسى ولأغسل ذاكرتي من تلك السيئات والمآسي والبطولات، خليط غريب، شعوري نحوه منذ أكثر من اثني عشر عاماً، أصبحت مكالماته جزءاً من رصيد روحي يعطيني توازناً. كان القاعدة العملية تفرض رد الفعل العكسي، وعن ماذا يتحدث دائماً؟ عن الشاعر وزوجة صديقي الذي مات، يشعرني حتى هذه اللحظة أن جسده ما زال ساخناً ينبض، وأن ابنته لم تكتمل، ولم تكبر، يجمعنا بؤس خفي، أحلام لم تكتمل، ولم تتضح أو تحولت إلى كوابيس. ثبت وعيه في منطقة معينة، حتى السينما التي وحدتنا يقول إنه يخجل من الذهاب إليها، يحب مجالسة الصغار والكامل، كما قال لي يستغرب الناس من جلسته مع الكامل طوال الوقت."

يختزل هذا التوصيف من الراوي المتروبوليتاني فحوى الرواية وشخصية راويها المحلِّي الذي قطع مع كل شي، باستثناء "الكامل" ابن الخباز الذي رأى فيه أهبلاً/ عبقرياً أو مسيحاً/صغيراً ونصف عاقل/ونصف مجنون "يعبر بين حقول الزيتون، يحمل عصا وكيساً فيه شيء من الخبز والماء، وبعض الحلوى التي يلتقطها من الدكاكين" ومن مقولاته النافذة ": "بئست أمة يقودها ويحارب من أجلها أناس تستولي على عقولهم المفاسد، ويرددون القول الباطل، ويسمعون الموسيقى، ويقضون وقتهم في اتباع الشهوات والمعاصي."

هنا، لا بد من الإشارة إلى تقنية التعمية فيما يتعلق بالأماكن والشخوص كعلامة احتجاج وقطيعة مؤدَّاها أن زمناً لا بطولة فيه إلا لحدث الهزيمة، لا يستحق التسميات لا أمكنةً ولا شخوصاً اللهم، شخصيتي ياسمين، محبوبة الراوي المحلي من أيام الجامعة، و"أنثاه الكونية" بالمفهوم الأدونيسي التي لم/لن تفقد عذريتها لا بفعل الحب ولا بفعل الزواج ولا بفعل الإنجاب ولا بفعل الموت؛ و"عائشة" زوجة الشهيد التي خانته وخانت ذاكرته، على الرغم من وصيته التي لا مناص من استحضارها في هكذا سياق:

"السلام عليكم يا أصدقائي. تحية الثورة. (إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم بأن لهم الجنة). لا أدري ربما نفتح هذه الرسالة غدا صباحا ونقرأها سوية ونضحك، مرة من الفرح ومرة من الانتصار ومرة من غبائي، وربما تكونون وحدكم.
أيها الأحبة إذا قرأتكم هذه الرسالة وحدكم أرجو منكم أن لا تبكوا علي ولا تحزنوا، فإن حياتنا لم تكن يوما لنا، إن الهوية والكرامة التي نذرنا أنفسنا لترسيخها، لا بد لها من ثمن، أرجوكم لا تبكوا، فان الموت حق، ولكن الموت باختيار وهدف عظيم، يورث المجد في الدنيا والثواب في الآخرة، تذكروا ذلك. الأخوة والأصدقاء... لقد تركت بين يديكم أمانة عظيمة زوجتي وابني ووالدتي بالذات، أرجو منكم أن لا تفارقوهم ليلة دفني، وأوصيكم أن لا تتركوا ابنتي تحضر هذه المراسم، أرجوكم حاولوا إبعادها، أما والدتي فكونوا لها سند خير كما عهدتكم، واذهبوا عندها كل عيد، واشتروا لها الهدايا، وكل يوم خميس، زوروها واحملوا الحلوى والسكاكر لابنتي، أما زوجتي عائشة فقط تركت لها وصية مشابهة تحت مخدتي. أيها الأخوة.. إن الدرب طويل، وإني لا أوصيكم خوفا أو تذكيراً، بل بلاغاً والله إنكم نعم الأصدقاء منذ اليوم الأول لذهابنا إلى المدرسة، كان ذلك اليوم هو البداية، واليوم ربما يكون هو النهاية، إذا قدر الله، فإنني والله ذاهب إلى الموت، براحة ما بعدها راحة، على درب الشهداء القادة الذين كانوا لنا خيرة قدوة، على أية حال أن نجحت في إدخال السلاح سنضحك صباحا سويا، وان فشلت وكتبت لي الشهادة إياكم أن تيأسوا فالخيوط كلها عندكم واستمروا. أيها الأحبة... أوصيكم خيرا بابنتي أرجو أن تظل تحت رعايتكم، أرجو أن تكبر وتتعلم واجتهدوا أن تتزوج رجلاً شجاعاً وعظيماً، عندما تكبر حدثوها عني ولماذا رحلت عنها. أما زوجتي لا أقول إلا إنها أخت لكم فهذا من نافل القول، أقول إنها ليست وحيدة، بل هي في أمن بين أهلها. أيها الأخوة الأحبة.. أرجو أن تكملوا المسيرة، واحذركم كما كنت دوما من الشاعر وأمثاله، فقد وصل إلى مرحلة خطرة من الاشتباه، فهو يزور قاعدة العدو باستمرار، كما إنه يسعى لتشكيل قيادة من الوجهاء وأصحاب المحلات لإجهاض عملنا، بحجة حماية مصلحة الناس، احذركم منه واعلموا أن جرائمه الأخلاقية في ازدياد فهو يتاجر بالمحرمات عدا عن سلوكه القذر المتكرر تجاه ابنة الشيخ ومراقبته الدائمة لنا. إن هذا الخائن وأمثاله يمثلون خطورة على كل الماضي والحاضر والمستقبل.. "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون."

يدشن الصديق الشيخ هذه الوصية، وتكاد تكون على لسان صديقه الراوي المحلِّي، كما لا يكاد صداها يختلف عن صدى مقولات الروائي نفسه في عالم المثال الذي انتبذ به قصياً هارباً من عالم الواقع الموبوء. يقرأ الأصدقاء الوصية، وتخرج زوجة الشهيد عليها خروجاً فاضحاً حين تقترن بالشاعر/الخائن، لا بمفهوم الصديق/الشيخ وحسب، بل بمفهوم خيانة ذاكرة الزوج-الشهيد، وقبول فظيعة أخرى، أن يكتب لها الزوج الجديد خطبة عصماء تلقيها في ذكرى استشهاد زوجها تبرر سبب زواجه بالشاعر الخائن، هذا بالإضافة إلى خطبه العديدة حول الشهداء وعلاقاته النضالية والتنظيمية معهم، والتي لن ينجو منها الراوي المحلِّي بعد استشهاده!

تأخذنا رواية وليد الشرفا إلى منودرامات متغايرة كذلك على مستوى التأمل الذاتي للراوي المحلي الذي لم ير في نفسه، وقبل ليلة من استشهاده، "سوى مراقب جبان ووطني مترف أمارس لذة العطاء واليد العليا، لم أتحمل أنا كل هذه الانقلابات، كيف هو...لا بد من تسوية الأمر والاتصال به." لكن هذا الراوي-الشاهد-الشهيد كان أبعد ما يكون عن موضوع تأمله بوصفه متأملاً خاملاً، أو بائعاً لروحه للشيطان على خطى فاوست. لقد كان حالماً مستحيلاً وواقعياً أكثر استحالة، عارفاً في اللج لكن دون أن يملك قارباً... له، وللشهود الشهداء، رواة ورائيين، نوقظ باصرة الانتباه بين رهان "الإمكان" ورهان "المستحيل" في تنافذهما السرمدي.