الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

في ذكرى رحيل امير القدس.. الفيصل.. الفصل في القدس

نشر بتاريخ: 30/05/2015 ( آخر تحديث: 30/05/2015 الساعة: 19:12 )

الكاتب: يونس العموري

مرة اخرى نحاول ان نمارس فعل الإعتذار لمن رحلوا ... حيث ان هذا الإعتذار نمارسه كجزء من ثقافة العويل والبكاء على أطلال من غادروا دون استئذان ... فعذرا للفيصل على استعمال فعل الماضي بحضرة ذكرى رحيله وعذرا لأن فعل (كان) سيكون سيد الموقف، حينما يكون الحديث والكلام عن ذاك الزمن الذي شكل فيها الفيصل سيدا للقدس ... 

حاولنا ان نجتهد ... وان نعوض القدس عن خسارتها ... وكنا ان قلنا كل الكلام وسطرنا اروع المرثيات برحيله .. ووقفنا امام ضريحه معاهدين اياه ان نستمر على دربه ... لا شك اننا اختلفنا معه وكانت لنا رؤية اخرى ... وتناطحنا بمواقف هنا وهناك وقلنا ما قلنا بحق الرجل انذاك حينما رحل بصمت وهدوء ... وتعاهدنا بأن نحمي البيت ... وحفظ وصاياه ... وحاولنا ان نخترق جدران الصمت الذي ساد ومارسنا ضجيجنا وصراخنا، فكان الصراخ بصحاري تيهنا، صراخا مكتوما مرتدا نحو حناجرنا ... وما هي الا لحظات حتى اكتشفنا اننا امام التيه ذاته .. واننا ندور في الحلقات المفرغة .. حيث بدأ فعل الإنهيار لكل البنى التي كانت .. لا لأن الفيصل كان خارقا ولا لكونننا عجزة ... ولا لأننا نمارس فعل الفشل والاعتذار فقط ... وليس ذلك ما يدلل علينا ونحن من صنعنا واياه فعل الإنجاز تلو الانجاز، بل ان القدس قد صنعت انجازاتها وكانت العصية على فعل الغزاة ... بل لأنه علم وعرف ما تريد القدس وما هو السبيل للعبور نحو القدس، وما هي متطلبات القدس بكل الظروف .. فكك معادلة القدس، وارجعها الى ارقامها البسيطة .. وكانت بالفعل بسيطة بقليل من الحب، وبشيء من الصمود، وبممارسة فعل الصراخ هنا وهناك، وعدم الإستكانة لما يقولون، وببلسمة الجراح ومحاولة بناء ما تهدم، والحفاظ على ما هو قائم ورسم معادلة التحالفات على الأرض، وكيف من الممكن ممارسة اقسى درجات الضبط بلحظات معينة، وممارسة اقسى درجات الإنفلات من عقال العقلنة وممارسة الجنون بظروف اخرى .. ومتى تكون القدس بحالة الزهو وتنتظر رجالها القادمين بفرح اللحظة، ومتى تكون حزينة منتظرة لبواكيها ... كان يعلم نبضها ويعرف احساسها الأتي من تفاعلات بشرها وحجرها .. ويعلم لغة عشاقها ومجانينها ... ويفهم زقزقة عصافيرها ويتمتم صلواتها بخشوع الحمام ... كان الفيصل يعي متى يعبر ازقة وشوارع القدس ويعلم متى ترغب القدس عن ان تتوارى عنه غضبا فكان طائعا لرغبتها ... يتحدث عنها وكأنه يتحدث عن عروسه الأتيه من شرق الشرق لتسافر واياه نحو غرب الجنون ... كان يحلم بقدس خالية من حقدهم ومن خفافيش ليلهم، ولم يكتفي بحلمه بل مارس شيئا من وقائع الواقع، محاولا ان يصنع ممالك وجزر مقدسية لا تنطق الا لغة رصينة كنعانية، ويمارس سكانها غناء وتواشيحا مهللة لعبور مواكب الزائرين ... كان يقول دوما نحن ابناءها وسادتها وفقراءها ونساءها واطفالها ان أغضبتنا نسكنها أكثر، ونعيش بثناياها اكثر، وان أفرحتنا نزهو بأزقتها ونمارس شطحاتنا على اعتاب ساحاتها ... كان يعلمنا كيف من الممكن ان يصير حبها ممكن وسط تعقيدات الحب ذاته .. وكيف نصبر على متطلباتنا في العيش في كنفها ... وكيف نعبر كل الأنفاق المظلمة التي تزداد حلكة وسوادا في ظل مسيرة الألف ميل ... كنا نتعلم كل يوم دروسا منه بكيفية الإستزادة بعوامل صمود عشقها فينا رغم الكرب ... 

الفيصل لl يكن خارقا بل انسانا عاديا ... ولم يكن فوقيا يمارس فعل الأمر والأوامر ... كان يعلم متى يتمظهر بفعل الإختراق ويمارس معانيه... بمعنى كان يعي ممارسة فعل اختراق الجدران العالية لفعل القدس... وكيف يُسمع صوت القدس وأهات القدس لمن لا يريد ان يسمع او لمن كان يتجاهل السماع ... فرض حقيقة القدس وفرض صوت القدس وحضور القدس ... على طاولة المفاوضات قال القدس ... وبعقر بيت الغزاة مارس عشق القدس ... وعند الأصدقاء عاتب نيابة عن القدس .. وابتدع كل الأساليب والأعاجيب بعشقها ومنحهم فرصة ليمارسوا قليلا من حبها ... فقال هاهي امامكم تنتظر فعلكم لا صلواتكم فقط .. وتنتظر حرثكم وزرعكم ... وحينها فالقدس ستمطر رذاذا من السماء وستنبت زرعا وقمحا ذهبيا وزيت الزيتون سيعرف غارس شجيراته حينما تشترون أزمانا في القدس...

كان الفيصل يحدد منطلقاته جيدا، ويحضر واجباته وكمن يذهب الى مدرسته ليتعلم كان ياتي الى بيت الشرق يمارس العلم والتعلم في شأن القدس ... يعرف متى يكون التلميذ النجيب ومتى يتحول الى المعلم البارع الذي يلتقط اللحظة امام طلابه ... كان يمارس فعل الفعل حينما يكون من الضروري تعليم الأخرين درسا بحب القدس ... ويمارس كلاما صريحا واضحا حينما يكون للكلام منصة وعرشا لابد من تتويجه على رؤوس الأشهاد ... 

عرف الفيصل معنى ان يكون مقدسيا بإمتياز فسكنها وسكنته والسكن هنا له علاقه بفعل الدلالالة والتعرف على شجونها وهمومها ... وبواطن جمالها ومكامن اعداءها ... وكيف يخططون لسلبها قدسيتها ورمزيتها فراح يجوب كل اصقاع المعمورة محذرا من نهب القدس مناشدا كل مدائن العالم ويحكي لهم حكايا زواياهم في القدس فلكل الشعوب حصة بالقدس ولكل المدائن زوايا ومكائن بالقدس ... محذرا من تشويهها ومن تغير معالم وجهها ... عرف كيف يخاطب العجم بلغة يفهموها وعلم كيف يخاطب العرب بلغة كانوا قد نسوها ... حكى كل الحكايات لهم وزمجر ايضا بوجه اعداءه فعلا بليغا على ارضها .. فكان الشاهد والشهيد في آن معا ... 

واليوم ونحن في ظل ذكراه لا نملك من حقيقة اشيائنا الا قول القول ذاته ... ولا نملك من قدسنا الا محاولة الإبقاء على قدسيتها، ان كان ذلك ممكنا... وهنا اجدني استرجع كلامه بهذا الشأن واقول كما قال يوما ... (نعدكم صمودا ونعدكم نضالا ونعدكم... ولكن اذا ما بقيتم هكذا لا نعدكم نصرا .....