الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

ابن الحرام

نشر بتاريخ: 12/06/2015 ( آخر تحديث: 13/06/2015 الساعة: 11:30 )

الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام

بعيداً عن السياسة، وصراعات الديكة. ابن الحرام، عنوان صادم لرواية بقلم الاديبة الأردنية كفى الزعبي ابتعتها من مطار عمان. وكانت فكرتها أن زرع الشيطان يثمر شراً، وأن زرع الخير يثمر خيراً ولو بعد حين، وأن ما يفعله المرء في لحظة عابرة قد يعيش معه لاجيال قادمة بالخير أو بالشر ومستوى التأثير أمر متروك للقارئ. وإننا نحن الذين نقرر أن نعمل الخير أو الشر ولا داعي لتحميل السماء سبب خطايانا. وخلال قرائة الرواية يتضح ابداع الاديبة كفى وقدرتها الهائلة على حياكة الرواية من كل جوانبها.

الفكرة تفتح باب الاسئلة وتأخذ الانسان إلى حافة النهاية، ولو تركنا الاسئلة تجرنا إلى حيث تريد لكانت تجرنا إلى التهلكة، لماذا رفض الله قربان قابيل الذي جمعه من ثمار الأرض، وقبل قربان هابيل الحيواني؟ وهل سكب الدماء ثمنا لقربان الخطايا التي يقترفها البشر؟

احيانا ليس من الجيد أن تترك الاسئلة تجتاحك؛ لأنها ستغمرك باحاسيس غامضة، وأحيانا عليك أن توقفها وتتمسك بفكرة تدافع عنها والا تحوّلت إلى كائن سلبي. وهناك اشخاص لا ينتج عنهم الا الشرور ولو أرادوا القيام بعمل الخير. وهناك اناس ينتج عنهم الخير حتى وإن فعلوا الخطأ.

تبدأ كل الجرائم بفكرة صغيرة يبررها الإنسان بالقول إنه يريد لقمة العيش لاولاده، ثم من أجل السيارة، ثم من أجل الفيلا، ثم يجد نفسه متورطاً بجريمة جمع المال بأي شكل ولأي غرض. فلا يترك وراءه بعد حين سوى غبار الزمن والفوضى التي أوقع نفسه فيها. وحقا أن الانسان لا يحمل بين يديه سوى مجموعة من افكاره التي جسدها بعمله هو. ومن يسعى للمال وللسلطة يمضي عليه الزمن فينظر داخل نفسه ولا يرى الا خواء رهيباً، لا أفكار ولا حزن ولا بهجة ولا قيمة للأيام، فتفقد الاشياء الجميلة معناها.

الطمع والشر يأكلان صاحبهما  فترى "ابن الحرام" صار يبدو أكبر من والده، والد شاب وولد كهل، من شدة طمعه وحبه للمال وللسلطة، ومستنقع الظلام يأخذ منه مأخذه، ولا يبقى في داخله سوى رغبات مكدسة بالانتقام، واحاسيس بالهزيمة، ومخططات بالانتحار، أو مشاعر نقمة متعفنة، واوهام، وقلق، وغبار متراكم على معارك تافهة، وانفاس لاهثة مضطربة، ومرارة تنبعث منها روائح نتنة.

هل يغفر المرء لأنه متسامح بطبعه أم لأن الاخر يستحق المسامحة؟ هل يقدر المال على اقناع جعل الاكاذيب حقيقة؟ 

أول مواجهة مع الذات "قبل المواجهة مع الاخرين" ينكشف المهزوم امام نفسه، ولكنه يكابر وينكر. وهذه المكابرة تترك وراءها كائناً مغروراً، وما الغرور هنا سوى واجهة تخفي انساناً مهزوماً، لأن الثورة لا تحتاج لانفاس صاخبة وانما لزهد وتقشف ثوري وتواضع الانبياء وليس الغرور الطائش والصراخ.

ذات يوم طلب مني ضيف عربي كبير أن اصطحبه لمكتب الشاعر محمود درويش ليطلب منه نصيحة، وهكذا فعلت: ولجنا مركز خليل السكاكيني في رام الله وكان محمود درويش يجلس في غرفة زاهدة جداً. وقد صدمني تواضع المكتب والمقاعد والطاولة التراثية، واكاد اجزم أن هذا المكتب لا يقبل به أي مدير ولا أي رئيس قسم في الحكومة أو نشطاء الفصائل. جلسنا وطلب الضيف العربي النصيحة، فاجاب محمود درويش وقد رفض التصوير: الناس تنسى بسرعة، تنسى الحلوة وتنسى المرة، ولكن على صاحب الشأن أن يسكت قليلا؛ لأنه كلما تحدث كلما عادت الجماهير وتذكرت... وقال للضيف: هل تعرف أن تسكت؟

إن الانسان حين يكف عن شم الورود يكون قد مات، يكون قد مات من دون أن يعلم أنه ميت.