الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

عباس، وانابوليس، واسرائيل "السخية".. احذروا من اختفاء معسكر السلام

نشر بتاريخ: 29/11/2015 ( آخر تحديث: 29/11/2015 الساعة: 15:08 )

الكاتب: عايد عتماوي

في هذه الايام، وبعد اكثر من سبع سنوات على مؤتمر انابوليس، ومع وجود كيري في المقاطعه مع الرئيس الفلسطيني عباس يتناولون – بالاغلب – وجبة العشاء الرسمية، استذكر ما زعم اولمرت انه قاله لعباس خلال مباحثات انابوليس. اولمرت قال لعباس - عندما رفض الفلسطينيون العرض الاسرائيلي "السخي" لانهاء الصراع - قال له: " تذكر كلامي، لن ياتي رئيس وزراء اسرائيلي بعرض مماثل قبل 50 عام من الان، لا تضيع هذه الفرصه". حقيقه انا لا اختلف اطلاقا مع اولمرت، نعم كان عرضه "سخي" جدا حسب معايير ومقاييس المجتمع الاسرائيلي المشبع بالبروباغندا اليمينية الاستعمارية، والمغتصب وعيه من قبل شريحة اخرى كبيرة في اسرائييل من سياسيين وحتى نشطاء سياسيين يمينيين وايدلوجيين حتى المرض.

يجادل الكثير من الغربيين والاسرائيليين – وحتى بعض الفلسطينيين - بأن القيادة الفلسطينية وعلى رأسها عباس قد ارتكبوا خطأ تاريخي برفض العرض، سواء اختلفوا او لم يختلفوا على وصفه بالسخي. فمرحلة انابوليس كانت مرحلة تضميد الجراح، ومحاولة يائسة من قبل الجانبين – بغض النظر عن صفاء النية او عدم صفائها – لاحتواء الازمة التي خلقتها الانتفاضة الثانية، والتي سببتها الممارسات الاسرائيلية المجحفة وغير الانسانية تجاه شعب اعزل. وكانت مرحلة تتطلب الكثير من الحكمة والتريث، واستغلال الفرص بدل اضاعتها، وكانت مرحلة بناء ثقة بين الجانبين، وتوفير مناخ ملائم للمفاوضين حتى ينهوا هذا الكابوس المتمثل بالاحتلال. فرصه تاريخية اخرى ذهبت ادراج الرياح لعدة اسباب لا يتسع المقام لذكرها او البحث فيها، خصوصا اذا ما اتفقنا انها – اي المبادرة او الفرصه - كانت فرصه ضائعه بامتياز.

اذاً اتفق مع اولمرت فيما قال، فاغتيال يتسحاق رابين شكل رادعا قويا ومرعبا لجميع قيادات اسرائيل التي تفكر في تقديم اي خطوة "تنازلية" للفلسطينيين، حتى لو كانت هذه الخطوة مطلوبة وضرورية لبناء الثقه، وحتى لو كانت هذه الخطوة تُعطي الفلسطينيين جزء من حقوقهم المسلوبة من قبل اسرائيل، والتي تعتبر جميعها استحقاقات فلسطينية غير قابلة للجدال. ولاثبات النظرية التي تقول بأن اي قيادي في اسرائيل يفكر في موقف لين مع الفلسطينيين سينتهي به الامر اما في السجن – مثل اولمرت - او في القبر – مثل رابين – فأن اولمرت لم يبق في منصبه، وبدأت الاتهامات تنهال عليه من كل حدب وصوب، اضطر حينها الى مغادرة منصبه بأقل الخسائر ضمن ما يصر الكثير من المتابعيين والمحللين بأنها كانت تسوية "من تحت الطاولة" لانهاء حُكمه.

لكن ماذا عنا الفلسطينيين، وماذا عن رأس هرمنا القيادي ، وهنا اطرح سؤال على الجميع وحتى على نفسي: ماذا عن ما بعد عباس؟ فعباس يُعرف فلسطينيا في الشارع بأنه مهندس اوسلو، و واحد من كبار مهندسي نموذج حل الدولتين، ويعتقد الكثيرون بانه عراب التسوية التاريخية، مع ان عرفات كان في الواجهة. ماذا بعد عباس، فهو رجل سلام حقيقي، لا يؤمن اطلاقا باستخدام السلاح، بل ويكره العنف. لكن وبالرغم من انه دبلوماسي محنك وسياسي مخضرم الا انه شارف على الانهيار تحت وطأة الضغوطات العربية، والغربية، والاسرائيليه، والاخطر من ذلك كله تحت وطأة الاصوات الفلسطينية التي تنادي ضده وضد نهجه لان اسرائيل افشلته ونسفت مشروعه السلمي المتزن والوحيد المقبول عالميا واقليميا وحتى داخليا – حتى لحظة كتابة السطور.

هل يعتقد اولمرت والاسرائيليين بشكل عام انهم "جابو السبع من ذيله" في تقديم ممثلهم لخارطة ولعرض "سخي"، احدا لم يستلمه أصلا، ويبصق فعليا في وجه الشرعيه الدولية وقراراتها، ويستخف بالمجتمع الدولي وبأرادته؟ السؤال الاخطر: هل يعتقد الاسرائيليين، والامريكان، والاوروبيين بأنه سيكون هناك عباس اخر في المجتمع الفلسطيني يستطيع ان يواجه القدر الهائل من الضغوطات الداخليه بالتحديد، وان يستمر هذا العباس الجديد في نفس النهج وان يُصر مرارا وتكرار على نفس الرأي المتعلق اولا بحل الدولتين، وثانيا بالمقاومة السلمية، وثالثا بالمجاهرة في تقديم عروض سخية تاريخية فيما يتعلق باللاجئين وفيما يتعلق بحرصه على عدم "اغراق اسرائيل باللاجئين، وعدم نيته تغيير الطابع الديموغرافي فيها"؟ بالرغم طبعا من ان اللاجئين الفلسطينيين طردوا من ديارهم ونُكل بهم ويحق لهم العودة، وموقف الرئيس الفلسطيني يعتبر لعب بالنار. لماذا التركيز دائما على ما يقدمه الجانب الاسرائيلي – او على ما يُعتقد بأنه يُقدِم – ولماذا هذا التجاهل للتركيبة السياسية الفلسطينية، وللرأي والرأي الاخر الفلسطيني، وللعوامل الضاغطة على صانع القرار الفلسطيني؟

لماذا يصر الكثيرون على ان الشعب الاسرائيلي شعب يطلب السلام ويسعى اليه وانه وفي المقابل فأن الشعب الفلسطيني يطلب الموت والحرب، ولا حاجة له في السلام وفي الامن؟ لماذا يعتقد الكثيرون حول العالم بأن الشعب الفلسطيني يتم انتاجه في مصانع فلسطينية مموله من الاتحاد الاوروربي ومن اليابانيين ومن ال USAID كما الروبوتات؟ هناك فسيفساء فكرية وسياسية ودينية رائعه في المجتمع الفلسطيني، وبالتالي اراء متباينه ومختلفه تتحاور وتتجادل ليل نهار في رام الله والقدس ونابلس وفي مخيمات اللاجئين، تشتبك سلميا في ملحمة فكرية وسياسية فلسطينية رائعه. لماذا هذا التجاهل السافر لكل ما قدمه الفلسطينيون قيادة وشعبا عندما اتفقوا على نموذج حل الدولتين، وقررو ان يقيموا دولة فقط على 22% من وطنهم الام؟ ولماذا هذا التجاهل لحقيقة ان الاستيطان جعل التنازلات التي قدمها الفلسطينيون تبدو كأنها عبثية لا يمكن الدفاع عنها او ترويجها فلسطينيا كما كان الامر في السابق؟

على اية حال، فأنه ومثلما يصعب ان يكون هناك اولمرت اسرائيلي اخر خلال الخمسين سنة القادمة، فأنه يصعب ايضا ايجاد عباس اخر في الطرف الفلسطيني. القيادات من عمر عباس، والذين انتهجوا السلمية بشكل اساسي في نضالهم ضد الظلم ساهموا كثيرا في بناء معسكر السلام الفلسطيني، وساهموا كثيرا في حماية المجتمع الفلسطيني من التطرف، وغامروا بسمعتهم و بمستقبلهم السياسي خلال العقدين الاخيرين من عُمر الصراع في محاولة ناجحة وبامتياز لوأد التطرف وترسيخ مبادئ السلمية والانسانية، حتى في التعامل مع قوة محتلة لا ترحم.

اذا ما انتهى عصر عباس، وبدأ عصر فلسطيني اخر، بقيادات فلسطينية اخرى، وفي ظل الاوضاع السياسية و الامنية المتردية في هذه المرحلة، فأن التكهن الوحيد الاكثر منطقية هو ظهور قيادة فلسطينية جديدة تدعو الى حل الدولتين، تعمل في سبيل الدولة الواحدة. تماما مثلما ان القيادة الاسرائيلية اليمينية تدعوا الى حل الدولتين وتخلق واقع جديد يُجهض الحل، وتسعى "من تحت الطاولة" الى الابقاء على الوضع الحالي، لا بل تفاخر العالم في ذلك، كما لو ان الوضع الحالي انساني واخلاقي وقانوني 100%، خصوصا بالنسبة للفلسطينيين.

جميعنا نعرف مساوئ حل الدولة الواحدة. كفلسطينيين نخشى من هذا الحل لأنه يعني مزيدا من التمييز العتصري، والقتل، والاعدامات الميدانية، والظلم لسنوات كثيرة قادمه تحت الحكم العسكري الاسرائيلي. وما حدث في (1967) وفترة ما قبل اوسلو - وحتى ما يجري حاليا - اكبر دليل على صدق هذه التوقعات والتخوفات. اما الاسرائيليون فمرعوبين من فكرة عودة اللاجئين، ومن فكرة الحق الفلسطيني بالانتخاب، ومن فكرة محاكمة ارهابيين يهود، ومن فكرة وصم اسرائيل او حتى بعض اليهود بالارهاب – لانها حاليا صفة حصرية بالمسلمين حسب جهابذة البروباغندا القائمين على الحملات المعادية للسامية وللمسلمين والعرب. لا نريد حل الدولة الواحدة ليس كرها في يافا وفي حيفا كفلسطينيين، ولا كرها في نابلس والخليل بالنسبة للاسرائيلي الذي يؤمن بأن الضفة الغربية هي "يهودا والسامرة" وجزء لا يتجزأ من ارض اسرائيل او "ايريتز اسرائيل". نريد حل الدولتين لانه الحل الوحيد – ضمن الظروف الاقتصادية، والسياسية، والفكرية، والاجتماعية، وحتى الدولية والاقليمية – القادر على انهاء هذا الظلم، واقامة دولة فلسطينية تعيش جنب الى جنب مع جيرانها بسلام. 

بغض النظر عن موقفنا من سياسات عباس، وعن موقفنا ورأينا في طريقة تعامله مع الملف الداخلي الفلسطيني، الا انه يبقى الخيار الافضل والاضمن لانهاء هذا الجنون، ولانهاء الصراع وخلق واقع جديد لنا ولاطفالنا. اسرائيل انسحبت بشكل احادي الجانب واسقطت حكم السلطة في غزة، واتت لنا – من خلال خلق واقع جديد ملائم – اتت لنا بحماس، واتهمتنا لاحقا بالارهاب. يطل علينا نتنياهو ويلمح - دون خوف ولا وجل من اي مراجعه او محاسبة – بموضوع انسحاب اخر احادي الجانب في الضفة. هذا الجنون والتخبط السياسي له نتيجة حتمية واحده، وهو الوصفة المثالية لتأجيج الصراع وتمديده، ولخلق المناخ الافضل لبروز التطرف ولانتشار الارهاب. هناك عدو مجنون وخطير يتربص بنا، ويبحث عن اية ثغرة يستطيع من خلالها اجهاض المشروع الفلسطيني، وهو التطرف الديني سواء في الاقليم، او حتى داخليا في اسرائيل. حرق عائلة فلسطينية كامله (دوابشة)، وقتل اكثر من 500 طفل فلسطيني في غزة، وتقطيع اجسادهم بالصواريخ الاسرائيليه الموجهة، ومصادرة الاراضي الفلسطينية، وحرمان السكان الاصليين من استغلاها، كلها ممارسات نتجت بسبب انتشار ثقافة خطيرة في المجتمع الاسرائيلي، رعتها وعززتها سياسات الحكومات الاسرائيليه المتعاقبة، خصوصا حكومة نتنياهو – حكومة المستوطنين.
عدونا الاول هو التطرف الديني، سواء كان يهوديا، او اسلاميا، او مسيحيا، و ولو افترضنا جدلا بأننا فقدنا الفرصه مع اولمرت حسبما زعم، فعلينا ان نعترف فلسطينيا واسرائيليا ان التاريخ لن يغفر لنا اذا فعلناها مرة اخرى مع عباس.