الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

قصة قصيرة- الصُّندوق ..!!

نشر بتاريخ: 23/08/2016 ( آخر تحديث: 23/08/2016 الساعة: 16:09 )

الكاتب: نصير احمد الريماوي

كان جسده المنهك طريح فراش الموت، ومسجّى على الحصيرة وسط غرفته العتيقة التي بدأ الظلام يلفها مع غروب الشّمس، ويتسلل إليها شيئا فشيئا .. ومحاط بجميع، أبنائه وبناته وأحفاده في مشهد تراجيدي، وتترقرق عيونهم بالدموع حتى أذبلتها .. لا يوجد أصعب من أن تشاهد بأُم عينيك البكاء الصامت على فراق الأحبّة ..
في هذه الأثناء، اقترب أحدهم من القنديل المركون على صدر الغرفة، وأشعل فتيلته فصار نور السِّراج يُكالح الظلام الكالح ليبدده ويشق طريقه نحو أرجاء الغرفة، لينشر نوره .. ثم عاد و أذبلَ ذُبالة القنديل قليلا حتى تتلاءم مع الجو الحزين، وتشاطرهم أحزانهم ...
بدأ الشّيخ الكهل يتمتم بكلمات تخرج من جوف حلقه بصعوبة، وبحشرجة متقطعة، كأنه ينتزعها انتزاعا، ويرددها بصوت خافت : " الصّندوق .. الصّندوق يا أولادي .. أحضروا الصّندوق بسرعة .. بسرعة قبل أن أفارق الحياة" !!...
لقد أصيبوا بالدهشة في بادئ الأمر، ثم تساءلوا فيما بينهم:عن أي صندوق يتحدث والدنا ؟؟ سارعوا إلى سؤاله:
- أين مخبأ الصّندوق يا والدنا ؟
- في الجونة ... في الجونة .. يا أولادي وأحفادي .. آه آه آخ .. المرحومة أمكم خبأته في الجونة.. صرت لا أستطيع الرؤية .. هناك .. ويشير بإصبعه المرتجفة المترنحة بلا تحديد اتجاه .. ابحثوا عنه في زوايا الغرفة ..عند الخابية أو بين جِرار الزيت أو صواني القش، أو في سِلال القش أو في إحدى القُبْعات أو في القرطللات ..
فَتِشوا عليه .. وسرعان ما عثروا عليه .. كان ملفوفا بإحكام بِخرقة قماش ثوب فلاحي نسائي مُطرّز بخيوط الحرير ومزركش بنماذج زخرفية، ومطوّق بحزام قماشي أسود اللون(الشداد) ،غَنِي بالتطريز وزخارفه الأنيقة التي تجسد ثقافة الملابس الشعبية الفلسطينية
أحضروه لوالدهم، وقالوا:
- هذا هو يا والدي.
تحسسه والدهم برفق، مخلوط بحرص شديد، براحتي يديه العاريتين المتشققتين من كثرة كَدّه في أرضه وشقائه في مقارعة شظف العيش، ثم قال:
- افتحوه أمامي، مع أنه يوجد غَبش في عينَيّ لا أرى بوضوح، وتجمّعوا حولي ..
فتحوا الصَّندوق الخشبي الصغير الذي مرّ عليه الزمان وأكل من حوافه فلم يجدوا فيه سوى مفتاح حديدي قديم تآكلت ملامحه من الصدأ، بالإضافة إلى ورقة "كوشان" أرض في مدينة "حيفا" منذ زمن العهد العثماني، وحكومة فلسطين، لونها ضارب إلى الصُفرة، ومائل إلى اللون البني، وكلماتها باهتة من أثر الرطوبة مع مرور الوقت ..
- الآن، اسمعوني جيدا، هذا هو كنزكم، هذا المفتاح هو مفتاح بيتنا في مدينة "حيفا" ، وهذا "كوشان" الأرض التي أملكها هناك، لقد احتفظت بهما على أمل العودة بعد طردنا من بيوتنا وتهجيرنا من قبل الاستعمار البريطاني والصهاينة وقتلوا ما قتلوا منّا أيام النّكبة الأولى وانتزعوا أرضنا منَّا بقوة الحِراب .. وتوجد في "الكوشان" مساحة الأرض العائدة لنا .. لقد كانت مليئة بأشجار الحمضيات، والخضار، والحبوب، والفواكه الأخرى .. أرضنا كانت كل حياتي، ومعاشي، وجنَّتي على الأرض على ساحل بحر فلسطين.. الأرض هي الكنز يا أولاد.. ثم بدأ يذرف الدمع الحار أثناء وصيّته لأولاده، ثم طلب منهم أن يديروا وجهه إلى القِبلة، فأداروه .. قال:
" أوصيكم بأن تحتفظوا بهما إلى أن تعودوا إليهما... احتفظوا بهما إلى أن تعودوا إليهما .. احتفظوا بهما إلى أن تعودوا إليهما .."
صار رَجع صدى هذه الجملة يتردد في المكان، وفي أذهان مَن كانوا حوله .. كان ممسكا ببقايا المفتاح المُهتَرئ ، وكوشان الأرض بيديه، ويضمهما إلى صدره، ثم شَخصَ بصره إلى السّماء وهو يردد هذه الكلمات الأخيرة حتى شهق شهقته الأخيرة، ويداه ترتعشان بهما لحظة فراق الحياة ثم غاب صوته المُتهدج ..
هنا نزلت آخر دمعة من مقلتيه، وانسابت على وجنته اليمنى حيث مالَ رأسه، ثم غاصت في الوسادة ..

__________21/8/2016م
[email protected]

هذه كلها أدوات فولكلورية وتراثية شعبية فلسطينية مصنوعة من قش القمح الجاف وغيره، وكانت تستخدم سابقا
1- الحصيرة: نسيج مصنوع من القش تفرش على أرضية الغرفة للنوم عليها سابقا.
2- الجونة: هي عبارة عن وعاء عميق منسوج من قش القمح في أطواف دائرية مترابطة تتسع بالاتجاه إلى الأعلى، وكانت تستعمل لأغراض عديدة، كحفظ الخبز ولوضع الثمار بها كثمار، البندورة، والخضراوات، وكان البعض يستعملونها سريرًا للمولود الجديد. وتغطى أحيانًا بجلد الأغنام المدبوغ الذي يتم معالجته بوضعه في مغلي لحاء جذور البلوط كي يتماسك الجلد جيدًا ويصبح أكثر متانة.
3- الخابية: المكان الذي يخبأ فيه أشياء البيت وخاصة الأطعمة ومن الناحية التراثية هي تلك الخزانة المصنوعة من اللبن والقش والتراب الجيري (الحِوَّر) لتخزين المواد الغذائية المجففة والطعام، كالطحين والعدس والقمح والشعير والذرة والقطين والخروب تقوم ببنائها النساء.
- سلة القش : وهي عبارة عن وعاء عميق مختلف الأشكال والأحجام، منسوج من القصب الذي ينمو على حواف جداول المياه وخاصة في المناطق الغورية. وتستخدم السلال لحفظ الأغراض وحملها، ولوضع ثمار التين وعناقيد العنب بها عند قطفها.
- الصنية: منسوجة من قش القمح المصبوغ بعدة ألوان، كانت تستخدم لتقديم الطعام عليها.
4- القُبعَة: هي إناء أصغر من الجونة، منسوج من قش القمح. كان البعض يغلفها من الخارج بجلد الأغنام المدبوغ. وهي صغيرة الحجم، تتسع لحوالي كغم واحد من الطحين أو الحبوب، يوضع فيها دقيق القمح لتوجيه الرغيف بالطحين قبل الخبز في الطابون، كما كانت تستخدم لحفظ البيض البلدي، وأغراض عديدة.
5- القِرطلَّة : وهي إناء كبير يشبه السلة، لها أحجام مختلفة كانت تستخدم لوضع: ثمار التين، أو ثمار الزيتون، والعنب لها مقبض نصف دائري، كانت تصنع من طلوق الزيتون التي تنبت على أسفل ساق شجرة الزيتون، أو من طلوق الأشجار الحرجية، مثل: السريس، والبطم، أو البلوط، وغيرها.
6- الشْداد: حزام نسائي يلتف حول الخصر فوق الثوب الفلاحي المطرّز.
7- كوشان الأرض: هي ورقة ملكية الأرض.