السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

أن تكون أسيرا..

نشر بتاريخ: 22/05/2017 ( آخر تحديث: 22/05/2017 الساعة: 14:05 )

الكاتب: د. محمد نعيم فرحات

لا يضاهي عذابات الأسر أي عذاب أخر، كما لا يتسع أي كلام ممكن لوصفه، لان وجعه وألمه يفيض عن كل وصف، ولا يعرف ذلك إلا من يكابد التجربة أو يشارك من يكابدها على نحو أو أخر، أوجاعها ويومياتها ورهاناتها. ويحمل بعض الانفعالات بها من يعيش مسالة الأسرى كهم أخلاقي وأنساني وسياسي ممتد ومتواصل.
وربما يصلح قول ادوارد سعيد في وصفه للمنفى بأنه "كالموت وان أعوزته رحمة الموت النهائية" في الآسر أيضا، لأن الآسر هو أحد أقصى أشكال النفي التي تقترح الفناء المتدرج على السجناء كمصير وحيد،
شيء واحد يجعل تجارب العذاب والوجع تجربة إنسانية عالية لها ثمن باهظ، يحصل ذلك عندما يجري تحويل طاقتها المدمرة ومعاناتها المروعة ، إلى طاقة مقاومة ايجابية وإلى أمل ورهان ووعد، وهذا يتطلب توفر إرادة مقاومة عند الأسير ذاته يكون لها مدار وحلف وطيد عند الجماعة التي ينتمي إليها، وإيمان مشترك عميق تحمله جموع ويحمله معنيون بالقضية التي استحقت أن يكون شخص ما أسيرا في سبيلها.
هنا تتفاعل الإرادات الايجابية بين الأسير في عالم السجن الضيق ومداره الاجتماعي والسياسي والوجودي خارج أصوار السجن على نحو يتخطى جدران العزل، ويصبح لسريان هذه الإرادة قوة تتخطي كل ظلم أو حصار مهما كان جبارا.
وفي مثل هذه الحالة بالذات يصبح الانعتاق فعليا أو رمزيا إمكانية وافقا تحدو الجميع ، يتقاسمون تحمل أثمانها ومتطلباتها، ومن رسوخها في الوعي الفردي والجماعي يتزود الأسير والمعنيون بقضية الأسرى ( سواء كانوا أسرة أم شعب أـم امة)معا بالطاقة والقدرة على الصمود وبالقدرة على تجديد هذه الطاقة ، وفي مثل هذه الحالة يمكن تحويل الأمل الصعب إلى رهان ممكن. وهنا قد ينام الأسير ويصحو وهو يلمس ويعتقد ويشعر ويتخيل بأن القضية التي سجن لأجلها هي حية ومتوقدة وممتدة في روح ووعي وخلد وممارسات المعنيين بالأمر، ويتأكد [ان موضوع الأسرى يشكل انشغالا عميقا في وجدانهم ويومياتهم، وهذا أحد شروط وضرورات تزويد الاسير بامكانيات الصبر والمقاومة والمطاولة والامل.
***
في تاريخ الفلسطينيين المعاصر كانت تجربة الأسر من أكثر تجاربهم عذابا، لكن في سياق ما الم بهم وبوعيهم وبمعنى الاشياء عندهم في عقودهم الأخيرة من متغيرات كثيرة مست كل شيء ، كاد الأسر أن يتحول لموضوع عادي وروتيني وظاهرة اعتيادية بدون أن تنال صداها الخاص وحضورها الملائم.
غير أن اضرب الأسرى الأخير يدعو فيما يدعو كل الفلسطينيين لمراجعة فردية وجماعية لهذا الأمر، على نحو يتطلب العودة لوضع هذه المسالة في إطارها الأخلاقي والإنساني والسياسي الملائم، كمسألة حية وأساسية.
أن تكون أسيرا فهذا يعني تجربة بلا سقف في الوجع والعذاب القابل للتحول لأمل ورهان يستخلصان نفسيهما من نفس الوجع والعذاب، شرط أن يتلاقى صدى الإرادات والأمل بين من هم في السجن والأسر من جهة، والمعنيين بقضيتهم ممن هم خارج المعنى الحرفي للسجن والأسر، ويكون لهذه الحالة وعي وإدراك وممارسات ومتابعات يقظة ومتواصلة ومنظمة.
وبقراءة انفعالنا مع مسألة الأسرى بناء على هذه الإحداثية فلا يحق للأغلبية منا أن تعود إلى نفسها أو إلى منازلها أو إلى مدارات حياتها وهي راضٍية عما فعلت في هذا الشأن. حيث يتعلق الأمر بأخر المظاهر الحية في سعي الفلسطينيين المتعثر نحو الإنعتاق.
----------------------------------
أكاديمي وكاتب من فلسطين