الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

اليهود؛ التاريخ والثقافة

نشر بتاريخ: 05/09/2017 ( آخر تحديث: 05/09/2017 الساعة: 14:17 )

الكاتب: المتوكل طه

من الجيتو والهولوكست والصهيونية والرّبّ والساميّة والبوتوكولات.. إلى إسرائيل والخلاصة الفاجعة
يعتقد البعض ويطالب بأن تكون العلاقة طبيعية مع "إسرائيل" واليهود ! أما نحن فمن حقنا أن نعتقد أن "إسرائيل" دولة مصنوعة مُقحمة، وهي كيان غير طبيعي تمّ زرعه في أحشاء الأُمّة العربية لتؤدي دوراً وظيفياً يُصادر الراهن والمستقبل العربي، ولهذا فمن المستحيل إقامة علاقات طبيعية مع هذا الكيان بسبب عنصريته ودوره الوظيفي ورفضه إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه الشرعية.. ولأن "إسرائيل" قامت ليس لحل مشكلة "الإسكان اليهودي"، بل بهدف تكريس حالة التشظية واستلاب الثروات والحيلولة دون وحدة أمّتنا، وعلى أي صعيد.
ونستدرك القول: إننا لسنا ضد اليهود على الإطلاق، بل نحن ضد توظيف اليهودية (باعتبارها دين سماوي) لمصلحة الاحتلال الصهيوني الكولونيالي، بمعنى أننا ضد حالة الإحلال الصهيوني وضد الاحتلال وكل ما ينتج عنه. كما أننا لا نرى فرقاً يعوّل عليه بين هذا الحزب الصهيوني أو ذاك، وخصوصاً فيما يتعلق بقضايا الحل النهائي (القدس، المستوطنات، عودة اللاجئين، وحدود الدولة الفلسطينية المقترحة وماهيتها)، حتى أولئك الذين يُطلق عليهم "معسكر السلام في "إسرائيل".
وإننا نحن العرب الفلسطينيين أصحاب هذه الأرض الشرعيين، لم نكن البادئين أو المبادرين في الاعتداء على أحد، يهوداً أو صهاينة، بل لم نحمل إلا إرث أجدادنا العرب المسلمين الذين فتحوا بيوتاتهم لكل ملّة وعرق وجماعة، ولم يشهد التاريخ أن العرب أو المسلمين كانوا سبباً أو حاضنة لأية حركة أو ظاهرة عنصرية، بقدر ما دفع العرب والمسلمون، غير مرة، الثمن الباهظ من تلك الحركات والدول العنصرية منذ محاكم التفتيش وحتى احتلال القدس، مروراً بـمئات المجازر المدوّية.
صفة التاريخ:
من المميزات الثابتة للتاريخ أنه يخذلنا ويخيب آمالنا، ولا يطيع توقعاتنا، ولا يتماشى مع أمنياتنا، وربما كان هذا صحيحاً على المدى القصير والمدى الطويل، فالتاريخ يقوم عملياً على الصراع بين جميع الثنائيات (القوة /الضعف، الحق / الباطل، المصلحة / الواجب ... الخ)، وليس هناك من نصر مؤكد لهذه المعاني بطريقة ميكانيكية، أي ليس هناك ما يوجب انتصار الحق أو هزيمة الباطل دون آلياتٍ غاية في التعقيد أو غاية في التبسيط، ومن هنا، فإن النهاية التشاؤمية للتاريخ لها ما يبررها.
وهذا يعني أن للتاريخ وجهة تميل إلى غير صالح الإنسان، أو أن الإنسان يعمل في اتجاه لا يميل إلى صالحه، وما سباق التسلح النووي (وهو سلاح لا يمكن للإنسان استعماله مرتين) إلا جزء من هذا الدمار الذي يحيق بالأرض. وأكثر من ذلك، فإن الإنسان (والإنسان هنا هو إنسان الغرب على اتساع هذا المفهوم) يقوم عملياً على تخريب مكانه وبالتالي التضييق على حياته ونشاطه وعلى حياة ونشاط الآخرين.
ومن هنا، فإن التاريخ لا يتّجه اتجاهاً واحداً، فالتاريخ خيارات ووجهات نظر محكومة بالوعي أولاً وأخيراً.
وعليه لا يمكن لنا إطلاقاً أن نلج إلى رصد الأحداث بحسن نية أو بسذاجة تعبر عن قصر نظر يدعو إلى الرثاء، فحسن النيّة لا يكفي بل يعتبر في هذه الحالة مدخلاً سيئاً جداً لفهم الأمور.
والتجربة الإنسانية منقوصة وناقصة، وهي معرّضة في كل لحظة للسقوط أو الانتهاء أو الفناء، وهي مهددة من كل جوانبها بالتآكل أو الانقراض أو الذوبان، من الداخل ومن الخارج على حد سواء، وتتساوى الجماعات البشرية في هذا تماماً، وما القيم (ومن ضمنها المنجز الفني والجمالي عموماً) سوى أحلام البشر وآمالهم في الاكتمال والخلود، وذلك تعبيراً عن ذلك الجوع الروحي الأصيل في النفس البشرية للتعرّف أو للوصول إلى خالقها.
ومن صفات التاريخ أنه يهشّم القوانين حتى لا يكون هناك توقّع صحيح مبنيّ على مقدمات معينة، وحتى لا تكون هناك مقدمات تؤدي إلى توقع صحيح (وربما يكون في هذا دفاع عن أولئك الذين لا يؤمنون بفكرة المؤامرة)، ولكن، وفي الوقت ذاته، فإن للتاريخ اتجاهاً واحداً ثابتاً، وهو تقدمه إلى لحظة أزمة حقيقية بين الإنسان وواقعه، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان وخالقه. في تلك اللحظة التي تضطرد في تسارعها، ووصولها إلى الذروة، لا يصبح للمنجزات معنى سوى أنها دليل غطرسة لا مثيل لها وعنوان انتهاك غير مسبوق، عندئذ يبدو يوم القيامة مبرراً تمام التبرير. ولا يمكن فصل الأرضي عن السماوي في فهم الأمور، حتى علم الفيزياء يبشر بفناء المادة !
وأن لكل جماعة بشرية ما إيماناً من نوع معين أو وَهْماً من نوع معين يدفعها إلى الاعتقاد بأنها خاصة جداً، تعرف ذاتها بطريقة خاصة جداً وتلقي على عاتقها مهمة من نوع معين. أنواع الإيمان أو أنواع الوهم تأتي من لحظة سحيقة في القِدم أو لحظة فريدة من نوعها ولّدت هذا الاعتقاد أو هذا الوهم، في تاريخ الجماعات كلها، هناك لحظة فريدة، ضوء برق شديد، لحظة سموّ أو تأمّل، ولدت فيها الجماعة أو الإيمان أو الرسالة، ليس في التاريخ كله جماعة لم تبدأ منذ تلك اللحظة، الجماعات لا تلد بجوازات السفر ولا ببقاع الجغرافيا. الناس يلدون من خلال تلك اللحظات.
الإنسان اليهودي أم الثقافة اليهودية:
ومن هنا، وبدلاً من الكلام عن الإنسان اليهودي وظروفه الحياتية واختلاف مواقعه الجغرافية والسياسية، نقترح الحديث عن الثقافة اليهودية التي حملها كل يهودي معه أينما كان وكيفما كان.
وبادئ ذي بدء، يجب تقرير أن اليهود ليسوا متشابهين، وليسوا ذوي طبيعة واحدة - وهذا ما قرّره رب العالمين وهذا ما نؤمن به، وهذا موقف يتعالى ويتسامى على أية نظرة عنصرية أو عرقية أو دينية - وهذه الحقيقة تنبني عليها حقيقة أخرى هي أن اليهود ليسوا جماعة عرقية أيضاً - وهذا ما قررته علوم إنسانية كثيرة - وإنما هم جماعة ثقافية تحوّلت بفعل عوامل تاريخية إلى جماعة وظيفية في المجتمعات التي عاشت ضمنها أو بين ظهرانيها. وبالتالي فإن هذه الجماعة الوظيفية (الهامشية عادة) ستقوم بأدوار اجتماعية وسياسية وثقافية قد تتميّز بالغرابة أو الجرأة أو الاستهجان، وسيناط بهذه المجموعة أدوار قد لا يقوى المجتمع نفسه على القيام بها بسبب قوة التقاليد وسطوة العُرف، ومن هنا، فإن تميز اليهود - الصحيح أو المدّعى - له ما يبرره من ناحيتين : الثقافة الخاصة والتاريخ الخاص.
وخلال أو ضمن هذين المرتكزين يمكن لنا أن نتفهم المسألة، دون أن نغرق بعنصرية كريهة تعتقد أن لليهودي جوهراً واحداً أو طبيعة متماثلة أو أن نلوذ بتفسيرات اختزالية تعمي عيوننا عن الحقائق الساطعة.
الكلام هنا لا يتناول اليهودي من حيث كونه إنساناً حراً قادراً على التمييز واتخاذ القرار وأنه متساوٍ في إنسانيته مع الآخرين، ولكن الكلام سيتناول ثقافة اليهود التي صيغت خلال عهود طويلة من الانطواء والانعزال والأدوار الاجتماعية والسياسية المشبوهة - وهذا ليس رأينا بل هو رأي كثير من المؤرخين المشهورين - .
وليس ذنبنا أن اختارت الجماعات اليهودية الانطواء، وليس من عقدة أخلاقية تعترينا إذا رأينا أن الجماعات اليهودية المختلفة لعبت وما تزال تلعب أدواراً سياسية واجتماعية واقتصادية مشبوهة في بقاع مختلفة من العالم.
هذا دور تميّزت به الجماعات اليهودية، ولهذا كانت بحق جماعات وظيفية داخل مجتمعات متماثلة أو غير ذلك، وإنها استفادت من ذلك استفادة كبرى استطاعت من خلالها أن تتحوّل إلى جماعات قوية ذات تأثير كبير.
مرة أخرى يجب التأكيد على أننا لا نتكلم عن إنسانية اليهودي الكاملة، وإنه ليس خاصاً أبداً أو متميزاً أبداً، إنه مجرد إنسان عادي ليس له فضل على التاريخ أو الإنسانية يتساوى في ذلك مع كل إنسان على هذه الكرة الأرضية، إلا بما قدّم أو أبدع.
نحن نتكلم عن ثقافة اليهود، تلك الثقافة التي ولدت من رحم العذاب وتواصلت في رحلة عذاب وأثمرت في لحظات العذاب.. ومرة أخرى، فالإشارة هنا إلى مواقف الجماعات اليهودية وليست إلى إنسانيتهم، والقرآن الكريم يفرّق تماماً بين الأمرين، وهذا ما يجب التنبيه إليه في كل مرة يذكر فيها ذلك). ثقافة اليهود أو لنقل ثقافة الجماعات اليهودية (ذلك أن هناك جماعات تقدمت على جماعات أو اختلفت معها في الأصول وفي الفروع أو أن بعضها طوّر نوعاً من الأطروحات التي تفترق عن أطروحات أخرى، حتى التوراة فيها اختلاف، وكذلك التلمود في وضعه وفي نصه وفي شروحه وفي طبعاته) هذه الثقافة التي هي أساس كل إنسان - الإنسان أولاً وأخيراً وعيه وليس ظرفه، إرادته وليس بيئته، قراره وليس الضغوط حوله - هذه الثقافة تميزت بالآتي (تقل أو تزيد حسب الظروف التاريخية):
* تأكيد التميز والتفرد والخصوصية، وهذا ما يطول الكلام فيه وإيراد الأمثلة الدامغة عليه.
* احتكار الإله وتحويله إلى رب قبائلي "في التلمود وصف للإله على هذا النحو : يكون الإله مشغولاً خلال اثنتي عشرة ساعة يومياً : يقرأ التوراة في الساعات الثلاث الأولى، ويحكم العالم في الساعات الثلاث التالية، ويفكر في إفناء العالم، ثم يترك كرسي القضاء إلى كرسي الرحمة، ويجلس في الساعات الثلاث التي بعدها يرزق العالم كله من أكبر الحيوانات إلى أصغرها، وفي الثلاث ساعات التالية يلعب مع التنين أو الحوت، والإله، في التلمود (حسب ما ذكره الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه اليد الخفية) متعصب بشكل كامل لشعبه المختار، ولهذا فهو يعبّر عن ندمه على تركه اليهود في حالة تعاسة وشقاء حتى أنه يلطم ويبكي، ومنذ أن أمر بهدم الهيكل وهو في حالة حزن وندم، وتوقّف عن اللعب مع التنين الذي كان يسلّيه، ويمضي وقتاً طويلاً من الليل يزأر كالأسد، ولكنه في آخر الأيام بعد إقامة المجتمع اليهودي الأمثل في العصر المشيحاني (نسبة إلى المشيح)، في ظل الدولة المستعادة، يجلس على العرش يقهقه لانتصار شعبه".
* اعتمادهم الفكر الحلولي الذي يجعل من المسافة بين الله والإنسان معدومة، ونفي أن يكون التاريخ هو المحك البشري للإرادة، بل تنزع الثقافة اليهودية الدينية إلى جعل الله والإنسان شيئاً واحداً، وتفترض الحلول الدائم للإله في الطبيعة والتاريخ، بحيث تبهت فكرة الألوهية تماماً وتقل هيبتها وتتحول من فكرة خلّاقة الحركة ومبدعة إلى صفة عضوية لجماعة بعينها . (لا بد من ملاحظة تقديس الجماعات اليهودية لأحبارها، ومن ثم الطلب من الجماعات الأخرى تقديس جماعة اليهود بأسرها).
* اختزال التاريخ واختزال الرواية، فالثقافة اليهودية تنزع إلى تبسيط التاريخ تبسيطاً مضحكاً وتنزع إلى تقسيم البشر تقسيماً يثير الرثاء، ومعنى هذا أن التاريخ ذو صيرورة تخدم اليهود وأن الأمم في خدمتهم وأن الخلاص سيأتي على يد (المشيح) وسيملأ الدنيا عدلاً بعد القضاء على أعداء اليهود. الاختزالية في ثقافة اليهود كانت نتيجة محتومة لفكرة التفرد والتميز.
* إن جماعة اليهود هي الجماعة الوحيدة القادرة على حفظ توازن هذا الكون من طرفيه المادي والروحي ، وإنهم يشكّلون (لسبب ما) الطاقة الروحية لهذا العالم، وإنهم أصحاب رسالة كونية لا يحملها شعب آخر أو أُمّة أخرى.
* إن تاريخهم مميز، أو أنهم خارج أحداث التاريخ، وإن تاريخهم جزء من عقاب إلهي أو إرادة إلهية عليهم تحمّلها حتى تأتي لحظة الخلاص (وهذه نظرة وجدت مَن يدعمها من خارج الجماعات اليهودية، بحيث جعلت من اليهود جوهراً واحداً ينتظمها حكم واحد).
* إن اليهودي ذكي يصل إلى حدود العبقرية، ويتجاوزها، وأنه مفرط الحساسية، مفرط التيقّظ، يميل بطبعه إلى الأعمال النخبوية والتي تتطلب استعدادات روحية خاصة (وهناك من يفسر سبب ميل اليهود إلى الزراعة والأعمال اليدوية لهذا السبب، وليس هناك من سبب أيضاً لنقض ذلك أو تفسيره، فالجماعات الوظيفية الهامشية تتصرف بعقلية السائح أو المهاجر).
* الصهيونية، وهي حركة علمانية في ظاهرها، قومية في سطحها، ترتكز فعلياً على الثقافة اليهودية رغم كل ما يمكن أن يقال في هذا شأن، وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يساق من شواهد تاريخية على أن الصهيونية جزء من حركة قومية عالمية استيقظت في أوروبا أبان عهود الإمبريالية الأولى، إلا أن الصهيونية - في نظرة حق وتفحص - لا يمكن فصلها أبداً عن تلك الثقافة اليهودية التي أوغلت في البحث عن التفرد والانعزال والألوهية، وما شعار (دولة إسرائيل دولة يهودية ديموقراطية) سوى الوجه السياسي لذلك الشعار الديني الذي رفعه عزرا الكاهن ذات يوم، وهذا ليس من عندنا بل هو من سفر عزرا نفسه.
والصهيونية ورغم الوعاء العلماني الذي اختارته - لترضي الطرح القومي الأوروبي ربما - حاولت تقديم وسط حسابي لكل الجماعات اليهودية في العالم من حيث التأكيد على الرموز اليهودية الضاربة في أعمق أعماق الثقافة اليهودية، وللحقيقة فلا مضمون للصهيونية دون اليهودية، فعندما بحثت الصهيونية عن (شعبها) وجدته في جماعات اليهود ليس إلا . وفي هذا إثبات تاريخي وثقافي وسيكولوجي على أن الصهيونية ستختار فلسطين وليس أوغندا ولا ينبغي لها، ونعتقد أن ما يشاع عن ذلك مجرد نكتة سخيفة ليس إلا.
إن ثقافةً هذه ميزاتها ستقود حتماً إلى الاصطدام مع الآخرين، وستقود حتماً إلى التوجس والحذر والتشكك، وستقود حتماً إلى الأزمات المتوالية، وهو ما حصل فعلاً .
وبالنظر إلى ما قاله البعض باعتبار أن الإنسان ابن بيئته فإن ذلك لا يكفي أبداً لفهم تصرّف وسلوك جماعات اليهود في أماكن تواجدها، وعليه لا يمكن لنا أن ندرس كل جماعة يهودية دون النظر أو اعتبار المحرّكات الوجدانية والروحية التي تعمل في الخفاء لرصد سلوك تلك الجماعات وتوجهاتها العلنية والسرية.
أوروبا والجماعات اليهودية:
لماذا لا يقال بوضوح وصراحة وجرأة أن المسيحية الغربية وجدت جذرها في اليهودية، حتى الثورة التنويرية التي أحيت الجذر الروماني والإغريقي للحضارة الغربية لم تستطع أن تتجاوز ذلك الجذر اليهودي !؟ وعليه فإن الغرب المسيحي (وهو يختلف كل الاختلاف عن الشرق المسيحي) وفي محاولة تأصيل تجربته العلمية والعلمانية أزّم علاقته مع الجماعات اليهودية من خلال العزل أولاً ثم الانفتاح والدمج ثانياً ، وذلك ضمن آليات تراوحت ما بين اليهودي الملعون ثم اليهودي المبارك، ومع ما رافق ذلك من تغيرات اجتماعية واقتصادية، وانهيار الإقطاع وظهور المدن ثم القوميات ثم التوسع الإمبريالي وانهيار كل البنى الفكرية القروسطية ونشوء بنى فكرية أخرى اعتمدت في مجملها على إشباع الحاجات لذةً واستهلاكاً، وعلى فكرتي التطور الداروينية واللاوعي الفرويدية وأشباههما .. ومن المثير؛ ملاحظة أن كل ذلك جعل من الجماعات اليهودية أكثر قوة وأكثر حضوراً وأكثر فعالية.
إن أوروبا (على اختلاف طفيف هنا أو هناك) التي ضمت في دولها المختلفة "جيتوهات" قيل إنها عوملت بقسوة وعنصرية، هي ذاتها التي حولت "الجيتوهات" إلى أكثر الأماكن قوةً وحضوراً ! يمكن القول: إن كل ما أشيع عن إساءة معاملة اليهود في تلك "الجيتوهات" قد يدخل في دائرة الشائعات، فلا يعقل أن ينفتح هذا "الجيتو" فجأة ليتحوّل أفراده إلى أكثر الناس نفوذاً وغنى وشهرة، ومن الغريب حقاً أن ينجب هذا "الجيتو" باباوات وسياسيين وفنانين وشعراء واقتصاديين، فَعَنْ أية معاملة سيئة نتحدث ؟!
وهل هذا يتطلب رؤية جريدة أو كتابة جديدة للتاريخ الأوروبي ؟!
وهل يمكن رد فكرة العداء للسامية وليس لليهودية هو تعبير عن ذلك الدور الخفي الذي كان "الجيتو" يقوم به ؟! بمعنى أن العداء للسامية هو الدعاية الشعبية وغير الشعبية ضد دور بعض الجماعات اليهودية في المجتمعات الأوروبية بعد أن تخلّصت هذه المجتمعات من بنى فكرية قروسطية رأت في اليهودي - كل يهودي - قاتلاً للمسيح.
(لا بد من الإشارة هنا إلى أزمة الفكر الغربي المسيحي في العصور الوسطى من حيث تعامله مع اليهود ؛ فمن جهة كان هذا الفكر بحاجة إلى العهد القديم ليثبت رؤية المسيحية، ومن جهة أخرى كان يرى في اليهود وكل اليهود، قتلة للمسيح، ومن هنا نشأ هذا الاحتقان في تعامل الأوروبيين كاثوليكَ وأرثوذكسَ مع اليهود، حتى حدثت القفزة الكبرى، بتجاوز هذه النظرة إلى ما يشبه الاستسلام إلى تجاور المسيحية واليهودية من خلال العمل في منطقة أخرى هي الأفكار العلمانية المعروفة: الديموقراطية والمواطنة والقانون المدني وفصل الدين عن الدولة، ومعنى ذلك تماماً أن المصالح فوق العقائد، وأن المواطنة فوق الدين، وعلى هذا انمحت الفواصل والفروق بين الناس، وتساووا أمام الدولة وقوانينها).
والعداء للسامية - وإن كانت بهذا المفهوم سلوكاً أوروبياً - إلا أن العداء لليهود - كونهم يهوداً - لها ما يفسرها - ولا نبرّرها نحن أبداً، وتفسير ذلك أن جماعات يهودية كثيرة تحلت بمزايا (ظرفية) جعلتهم محطّ الكراهية والنفور..
مرة أخرى، فإن العداء للسامية الذي ترافق مع العلمانية رغم أن هذا يناقض ذلك، وجد تعبيره الأكثر بروزاً والأكثر غموضاً في الوقت ذاته مع صعود النازية في ألمانيا، نقول إنه الأكثر بروزاً من حيث استهداف جماعات اليهود في عدد من البلاد الأوروبية، ونقول الأكثر غموضاً لأن العلاقة أو مجموعة العلاقات التي كانت بين النازية والصهيونية أو زعمائها ما تزال محلّ بحث وتمحيص من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما قيل عن أعداد مَنْ قتلوا وكيف قتلوا محطّ تساؤل عميق، ومن جهة ثالثة، فإن استثمار ما جرى حتى هذه اللحظة من قبل "إسرائيل" وابتزازها الشعب الألماني يثير غير سؤال حول كل ذلك، (ولكن كل هذه الأسئلة لا يجب أن يمنعنا القول إن ما جرى كارثة حقيقية بحق كل الشعوب، وإن النازية هي جريمة عصر بأكمله، وإن الحرب على النازية يعني إنكارها وإنكار مرتكبيها وأفكار أساليبها وإن كل من يفعل فعلها فهو مثلها).
وبعيداً عن هذا، فإن مفهوم العداء للسامية كان ذا خيرٍ عميم للحركة الصهيونية ولدولة "إسرائيل" فقد أصبح هذا المفهوم سيفاً مسلطاً على رقاب السياسيين والمفكرين والمثقفين الذين قد يتجرأون على انتقاد "إسرائيل" أو سياساتها ضد الشعب الفلسطيني، وعلى هذا فإن نقض هذا المفهوم أو دراسته وتعميق الحوار حوله سيفيد تماماً لجعله مجرد خدعة أخرى من خدع آلة إعلامية ضخمة ، مهمّتها تضخيم ما يمكنها الإفادة منه ، وتحقير ما يمكن أن يضرّها.
أوروبا هذه، وجدت أخيراً حلاً لمشكلة الجماعات اليهودية، وذلك بإيجاد أو خلق وطن لهم في فلسطين على حساب شعب فلسطين الأصلي ! إن حل هذه المشكلة بهذا الشكل يتلاءم تماماً والفكر الاستعماري من جهة والتوجهات العلمانية الأوروبية من جهة أخرى، وكلا الفكرين يقوم على إشباع الحاجات أولاً والبراغماتية ثانياً، وبهذا - ومهما كان شكل العلاقة بين الأوروبيين والجماعات اليهودية - انتهت في النهاية إلى إقامة وطن مدّعى في فلسطين على حساب شعب فلسطين، وبهذا تنتهي تلك العلاقة الطويلة من الحذر والتشكك والتأثير الخفي والتشابك السطحي والعضوي إلى أن تقرّر أوروبا (وهي هنا القوى الاستعمارية) إلى أن ترى في دولة يهودية حلاً لكل الأزمات السياسية والأخلاقية وحتى الدينية، (يجب هنا أن لا ننسى قوة العهد القديم).
"برتوكولات حكماء صهيون" :
أين "برتوكولات حكماء صهيون" من هذا ؟!
هل هي حقيقية أم مزورة ؟!
هل هي جزء من مؤامرة أم أن من وَضْعِ جهاز مخابرات أم من جماعة مهووسة ؟!
لا معنى لذلك كله !!
لا معنى لهذه الأسئلة على الرغم من إثارتها الهائلة !!
إن دولة "إسرائيل" الحالية هي دولة رئيسية في العالم - شئنا ذلك أم أبينا -، وهي الدولة السادسة في مجلس الأمن - شئنا ذلك أم أبينا - .
وقد قلنا إنها دولة رئيسة ولم نشأ أن نقول إنها الدولة الأولى حتى لا نتهم أننا لا نقرأ المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة.
ألا تشبه دولة "إسرائيل" الآن تلك الدولة أو (حكومة العالم) التي أشار إليها كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، والسؤال الأكثر إثارةً وإلحاحاً هو: الآن وبعد أكثر من مئة عام على صدور كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، كم من الأهداف والطموحات والنبوءات التي ذكرها الكتاب قد تحققت ؟!
هل هي مصادفة أن يكون الكتاب متمتعاً بكل هذه الدقة في الوصف ؟!
وهل هي مصادفة أن يتم معظم الأمر كما وصف الكتاب ؟!
لم يعد لتاريخية الكتاب معنى بقدر حقيقته وأثره.
لم يعد هناك حاجة للقول إنه من وضع جماعة يهودية أو إنه من وضع أعدائها.
الآن وبعد أكثر من مئة عام من صدور الكتاب فإن الكلام عن حقيقته يبدو ضرباً من الترف.
تعالوا بنا نقول أو نفترض أنه ليس من وضع جماعة يهودية، فما هي النتيجة ؟!
وتعالوا بنا نفترض أنه من وضع أعداء اليهود، فما هي النتيجة ؟!
هل نحن في إسار مؤامرة تاريخية محكمة ؟!
أو هل نحن في إسار تاريخ يركض تجاه نتيجة مرسومة مسبقاً !!
أين الإرادة البشرية إذاً !!
لا معنى لـ"بروتوكولات حكماء صهيون"، صادقه كانت أم كاذبة ، ونحن نرى النتيجة على جلودنا وعلى ظهورنا ذلّاً واستيطاناً وقتلاً وحرقاً ومعاناة .. ونحن نرى أن "إسرائيل" ملكة العالم، وفوق القانون وفوق المساءلة، (حكومة العالم) هذه هي النتيجة التي كتبها حكيم أو مهووس قبل مئة عام في ذلك الكتاب الأسطورة.
وحتى نستكمل هذه النقطة بالذات، فإن الكلام عن الإنسان في ظرفيّته لا يعني تجاهل الكلام عن الإنسان في مرجعيته. مرة أخرى الإنسان ثقافته وليس فقط بيئته، وهذا الكتاب بالذات ومهما كان مصدره يعبر عن أزمة اليهودي في ظرفه، أو عن أزمة المجتمع بالنسبة لليهود في ذلك الظرف، أيضاً، وكلا الأمرين يؤديان في ذات الاستنتاج أن الجماعة اليهودية شكلت ذروة أزمة كان حلّها التعالي على العالم أو حكمه عن طريق استغبائه أو استعباده.
سيدنا محمد ،عليه السلام، واليهود :
في بادرة عبقرية لم تحدث من قبل، كتب سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) دستوراً مدنيَّاً يحفظ الحقوق ويحدد الواجبات في المدينة المنورة وما جاورها، وهو دستور يعتبر أن كل مواطني المدينة متساوو الحقوق والواجبات ومن ضمنهم اليهود ، وهذه خطوة جرت في القرن السابع الميلادي، حيث كان اليهود في أماكن مختلفة قد تعرضوا لمذابح عديدة دون أن يتم حتى الاعتراف بحقوقهم الدينية والإنسانية.
وقد انطلق النبي الكريم في ذلك من الرؤية العميقة لمفهوم الإنسان وحقّه في القرآن والتقرير والنجاة الشخصية، فعل النبي الكريم ذلك من المفهوم الإسلامي الذي ينص على كرامة الإنسان وصون دمه ودينه وعرضه.
إن ما فعله النبي الكريم يمكن له أن يتكرر في كل زمان وفي كل مكان، ولكن ما الذي حدث بعدها ؟ ما حدث بعدها، يشير بشكل أو بآخر إلى تلك الصفات الأصيلة التي أشار إليها القرآن الكريم، (وهنا قد يقول قائل: إن تفسير ما جرى بعد ذلك بين النبيّ واليهود يعود في أساسه إلى صراع على النفوذ وعلى طرق التجارة وعلى السلطة، ولكننا لا ننكر ذلك أيضاً، بل هي حلقات مكملة لما نقوله، وما نقوله يفترض أن التاريخ كجبل الثلج، قمته الصغيرة ظاهرة فوق الماء أما معظمه فتحت الماء ، بمعنى أن التاريخ لا يمكن تفسيره ولا تبريره أيضاً بمدخل واحد أو بمفهوم واحد، كأن نقول: إن للإنسان مدخلاً واحداً أو مخرجاً واحداً، الإنسان يتكلم بغير فمه أيضاً) ما حدث بعد هذا الدستور أن اليهود خانوا النبي في المدينة وتحالفوا مع أعدائه وحاولوا قتله عدة مرات، الأمر الذي دفع الرسول الكريم إلى الاقتصاص منهم في ردة فعل عادلة ومنطقية.
وفي رصد العلاقة بين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) واليهود في المدينة المنورة يظهر أسلوب سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) الحكيم، فقد تدرج من فكرة دمج اليهود (على عكس المجتمعات الأخرى التي بدأت بالعزل)، ثم محاولة إشراكهم في فكرة المواطنة، فالجدل الحر والحوار الحضاري والدعاية السلمية وصولاً إلى الاختلاف فالحذر والشك وأخيراً إلى الاصطدام المسلح، وقد تطور هذا الاصطدام المسلح في أيام الخليفة الفذّ عمر بن الخطاب إلى الطرد الكامل في خطوة تعبّر عن حجم المخاطر التي كانت منتظرة من قبل الجماعات اليهودية في أطراف المدينة وما بعدها.
الأمر المثير والذي يحتاج إلى كثير من الإضاءة والبحث هو ما ذكرته السنة النبوية الشريفة عن اقتران بين يوم القيامة والقتال مع اليهود، وكأن القتال مع اليهود يعني بشكل أو بآخر المعركة الأخيرة التي يتقرر فيها ميزان الدنيا وسلطان العالم.
فهل هذا يتشابه مع أولئك الذين يعتقدون بمعركة "الهرمجيدون"؟!. ونعني بذلك ملايين "التدبيريين" في أمريكا.
وهل لهذا علاقة بنهاية التاريخ كل "حسب رؤيته" ؟!
طبيعة الصراع مع دولة "إسرائيل" :
لا ندري لماذا لا يريد البعض أن نرى الصراع مع "إسرائيل" صراعاً عقائدياً؟! فبعد كل الصراحة والوقاحة التي يتميز بها المحتلون الصهاينة في إهانة كل شيء له علاقة بعقيدتنا، يُطلب منا أن لا نرى الصراع عقائدياً.
ولا نريد في هذا الصدد أن نسوق الأمثلة الكثيرة التي تؤيد زعمنا بأن المحتل الإسرائيلي في تياره العريض يؤمن بأن "إسرائيل" الحالية هي "إسرائيل" الموعودة في الكتب المقدسة عندهم، وإن هذا التيار العريض - بالاستناد إلى التفاسير الفقهية التوراتية والتلمودية - يؤمن بأن "إسرائيل" هذه هي ما كان (الشعب اليهودي) ينتظره.
إن المشروع الصهيوني هذا - ومهما قيل عن علمانيتة - وجد الأرض الدينية خصبة ليعلّق عليها نجاحه واستمراره وألوهيته أيضاً. فعن أي شيء نتحدث ؟.
إن "ناطوري كارتا" لا تمثل شيئاً في التيار العريض هذا، وإن جميع أولئك اليهود المتنورين والأخلاقيين لا يعتبرون شيئاً أمام أمراء وحاخامات الحركات التوراتية المتطرّفة.
إن حزب العمل اليساري بكل مسمّياته اللاحقة (المتنوّر إذا كان يصدق نفسه هذه المقولة) لم يستطع أن يوقع اتفاق الخليل باعتبارها (مدينة الآباء)، فعن ماذا نتحدث ؟!
لماذا نحيّد البعد العقائدي في الصراع، وثقافتنا وثقافتهم تزخر به وتبشر به أيضاً؟!
لماذا هذا التجميل غير المحتمل لعناصر الصراع ؟!
على المحتل أن يعرف أنه لا يستطيع كسر روح المنطقة ولا أبناءها.
وإن عدم رؤية طبيعة الصراع العقائدية يبدو وكأنه لم يقرأ أدبيات كلٍ من الطرفين.
إن القدس في الوجدان اليهودي لا تقل هيبة ولا قداسة عن القدس في الوجدان الإسلامي، وإن فلسطين كذلك، فلماذا التخفّي وراء المشروع الاستعماري فقط ؟ إن اندغام المشروع الصهيوني في المشروع الاستعماري يجب أن لا يعمينا عن حقيقة الدوافع جميعاً، فلسطين جغرافيا بقدر ما هي تاريخ، وهي تاريخ بقدر ما هي قداسة، ولا شيء غير ذلك !!
مرةً أخرى نقول: إن ما يحرّك التاريخ هو الوجدان وليس العقل، وإن الغضب هو المعوّل عليه وليس الحكمة.. لو أن الحكمة سادت لما كان هناك تاريخ، ولو أن العقل هو الذي حكم الدنيا لما كانت هناك أخطاء أو خطايا.
قوّة الاحتلال تتعاظم إلى درجة لم يعد يرى فيها حتى حجمه التاريخي ودوره الوظيفي، فكيف به سيرى أعداءه ونحن منهم ؟ وكيف به سيسمع نصائح مَن يحاول تطمينه والتعايش معه ؟.
القوة - في لحظة معينة من لحظات غرورها وصلفها - تنفجر، تؤذي صاحبها وتؤذي الآخرين، والتاريخ، مرةً أخرى، غامض، وآلياته غامضة، ولو كان الأمر عكس ذلك، لكانت كل المقدمات تشير إلى النتائج ذاتها، ولكن هذا لم يكن في يوم من الأيام.
وفي التاريخ، أيضاً، الشعوب لا تتناصح ، والأمم لا تتهادى، الشعوب إما أن تسود أو تُساد، ولا شيء ثالث بينهما .. وهذا ما ينبغي سبر غوره !