الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الموتى.. أغلبية صامتة

نشر بتاريخ: 09/09/2017 ( آخر تحديث: 09/09/2017 الساعة: 15:50 )

الكاتب: د.نادر صالحة

في خطاب ريتشارد نيكسون العام 1969، طلب نيكسون دعم الأميركيين الذين لم ينخرطوا في الحراك المناهض لحرب فيتنام، وسماهم بـ "الأغلبية الصامتة silent majority” في أول استخدام إعلامي حديث لهذا المصطلح. مطالباً الأغلبية الصامتة بخلق "حالة مضادة" للحراك الضاغط عليه، وللإعلام المتواطئ ضده. في النهاية، أُطيح به، توقفت الحرب، لتندلع حروب.
مصطلح "الأغلبية الصامتة" منشؤه إحصاءات تقديرية حول إجمالي أعداد البشر الذين وطئوا الأرض منذ 50 الف عام الى اليوم، والمقدر بـ 107,700,000,000، لسهولة القراءة 107 مليار. وبحسب تقديرات علم الأجناس وعلم الإنسان، فإن 76 مليار “إنسان”، قضوا قتلاً على يد إخوتهم البشريين جداً. لهذا القدر كنا رحماء وطيبين.
يفتقد التاريخ البشري إلى إحصاء موثق لمواليد هذا الكوكب منذ المغازلة الأولى. يُركن إلى أنصاف وأشباه العلوم semi-sciences، التي تعتمد القياس والتقدير والتخمين. في كشف أذهل العالم قبل عامين في الشمال الاسباني، تم توثيق القتل الأول على الأرض بتشخيص الجمجمة cranium 17 التي تعرضت لضربتين شديدتين ونافذتين، بآلة قاتلة قبل 430 ألف عام.
تغلي بطن الأرض بالدماء البشرية المسفوحة، منذ أن تقَبِلَ الله أضحية هابيل الراعي، ولم يتقبَل خُضار قابيل المزارع. ومنذ اللحظة الأولى لوعي “الهوموسيبينز” للمؤمنين بأمومة الأرض، منذ ذلك الوقت، الى آخر موت مُسلح سيتنزل على طفل يمني وسوري وعراقي وبورمي أو انتحارٍ غَزِّي.
ومن عجائب العصر الرقمي، أن إحصائيات الأمم المتحدة لعدد القتلى في الخمسين عاماً الأخيرة في بعض المناطق المأهولة بالموت، تقريبية. بدون سجلات دقيقة، وبلا أسماء. وتشمل المناطق التالية حصراً: أفغانستان، أنغولا، بورما، اريتيريا، جزر الفارو، الصومال، اوزبكستان، لبنان. القتيل في هذا الجزء من العالم، لم يحظَ بفرصة تحريك خانة واحدة في عداد الموت الرهيب المكون من 11 خانة. فيما تعج السجلات الرسمية والإعلامية بالسِيّر الذاتية لمن تعرضوا لصدمات نفسية جراء انفجار إطار حافلة.
ولا يَظلمُ ربُّك أحدا.
لغاية كتابة هذا الموضوع، سجل العداد العالمي لسكان الأرض 7,530,830,051 بشري على قيد حياة. هذا يعني أن نسبة إجمالي الأحياء الى إجمالي الأموات 1:14 لصالح الأغلبية الصامتة، وبنسبة كاسحة بلغت 93٪. في كل مرة نطأ فيها الأرض، نطأ فيها رفات 14 إنساناً يسكنون بطنها. أوليس هذا جديرٌ بتخفيف الوطء! يا لله ما اوسع بطن الأرض وما أضيق ظهرها.
هذا الرفات الهائل هو سطح قشرة الأرض العلوي، تربة نحرثها ونزرع فيها قمحنا وندفن فيها موتانا لحداً فوق لحدٍ، بوصف بديع للمعري: رُب لحدٍ قد صار لحداً مراراً ضاحكاً من تزاحم الأضداد. القشرة ذاتها، مسرحٌ لمَقاتِل عظيمة ستأتي، وتدافعٍ ضاري سيستمر.
تبقى تسمية كل بشري إنساناً جدلية، وربما غير أخلاقية. فالإنسانية رتبة بشرية تحدد درجتها الصفات الأخلاقية، لا الموروثات الجينية. بقية البقية من بشرٍ ما زالوا على قيد الحياة، مصيرهم معلق بأيدي ثلة من معاتيه الحكام يحملون أفكاراً عظيمة، كما دائماً. لسبب ما، وفي لحظة ما، لا يعلمها إلا الله وكيم جونغ أون ربما، يمكن لهذه النسبة أن تصبح 1:19 في طرفة عين. ومجدداً، لصالح الأغلبية المقبورة، والصامتة. لم كل هذا!
كل هذا القتل في سبيل الفكرة.. نموت نموت وتحيا الفكرة.. عاشت الفكرة. فكرةُ القائد.
ثم يصير هو هي، يصير القائدُ الفكرةَ، لتهتف ملايين الحناجر نشيد فدائها ونعيق الموت فاغراً فاه.. بالروح بالدم نفديك يا… فتحظى الأغلبية بـ”موت سعيد” وصمت مديد. وهل هناك ما يُوجب السعادةَ أكثر من بقاء الفكرة، أقصد القائد!
إذ لا بد للقرابين من وُجهة. كل قتلٍ عظيمٍ وموغلٍ إتكأ على فكرة بدت “عظيمةً”، و“مقدسة”.
ولكن، ما هي الفكرة؟