الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

لأم كلثوم زمانها المفتوح وللإرهاب زمانه المهزوم

نشر بتاريخ: 29/11/2017 ( آخر تحديث: 29/11/2017 الساعة: 13:27 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

عندما نشب خلاف فني وشخصي بين محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وتوقف الاثنان عن التعاون والتكامل بين الصوت الساحر واللحن عميق الثقافة فريد الإحساس. جمعهما الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في قمة مصالحة إبداعية، وقال لهما أريدكما أن تعودا في أغنية مشتركة صوت أم كلثوم ولحن عبد الوهاب لتكون تتويجاً إبداعياً لعبقريتين، وكان أن لبيّا رغبة الرئيس.
الموقف في رأيي لم يكن موقفاً عادياً أو عابراً، بقدر ما عبّر عن مرحلة تجلت فيها جدلية العلاقة بين السياسي والإبداعي، فالرئيس رغم مشاغله وتحدياته، كان يدرك أهمية الفن ويعي دوره وتأثيره وحاجة المجتمع له، إذ لا مجتمع يعيش بالسياسة فقط، ولا إبداع حقيقياً إذا لم يحلق في أجواء من الوعي السياسي، لذلك شهدت سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وتحديداً في مصر أوج عطائها وتفوقها الفني، في الغناء والموسيقى والمسرح والفن التشكيلي والشعر والرواية والمونولوج.
وقد وصف الرئيس عبد الناصر يوماً أغاني عبد الحليم حافظ الوطنية بأنها نجحت في إيصال أفكار ثورة يوليو أكثر مما فعلته التنظيرات السياسية المباشرة، ومعلوم أنه في ذلك الزمن لم يطل الإرهاب برأسه، ولم يكن بمقدور أحد أن يكفر فناناً أو يسيء إلى مطربة أو ينال من نص مسرحي سوى بلغة النقد الفني الهادف، وليس بلغة التخوين والتكفير والتعهير والطعن في أخلاق الفنانات.
وأصبح شائعاً أن يطلق على هذه المرحلة تسمية "زمن الفن الجميل"، والحقيقة انني تذكرت والمرحلة والفن الجميل عندما قرأت خبراً مؤخراً عن عرض فيلم فرنسي للمخرج كزافييه فيلتار بعنوان " أم كلثوم – صوت القاهرة" ضمن مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية في أجواء من الاحتفال والاحتفاء بهذه الموهبة الفذة، التي ظلت تطربنا وتمتعنا وتخل التوازن فينا كلما استمعنا إليها، حتى بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على رحيل كوكب الشرق.
كانت أم كلثوم وما زالت الهرم الرابع بصوتها وشخصيتها وحضورها في المشهد الفني والإبداعي والثقافي العربي كما يقول مخرج الفيلم.
ولم يكن الفيلم الفرنسي هو الأول من نوعه عالمياً عن أم كلثوم، فقد سبقت كزافييه فيلتار المخرجة الإيرانية شيرين نشاط بفيلم تحت عنوان " البحث عن أم كلثوم"، الذي عرض في عددٍ من المهرجانات السينمائية العالمية، منها مهرجان هامبورغ الدولي ومهرجان فينيسيا السينمائي الدولي ومهرجان تورينتو السينمائي الدولي.
فزمن أم كلثوم - الزمن الجميل، ما زلنا نعيش ومضاته الإبداعية، حيث نتابع حفلاتها المتلفزة بالأبيض والأسود التي تبثها بعض الفضائيات، ونرى رجالاً ونساءً مهندمين يجلسون بهدوء يتابعون غناءها بإصغاء راقٍ في تعبير عن احترامهم للفن والفنانين ونرى خلف سيدة الغناء العربي فرقة موسيقية متكاملة تضم كبار العازفين في تلك الفترة، يجلسون على مقاعدهم بكل مسؤولية، من منطلق إيمانهم بأنهم يقدمون عملاً كبيراً وعظيماً.
أما اليوم وللأَسف الشديد فإن الكسرة تعتصرنا ونحن نستمع إلى أغانٍ مسطّحة هزيلة تخاطب الغرائز، ثم نصدم في نشرات الأخبار بالمشاهد المأساوية التي تصورها الكاميرات لمدنٍ مدمرة وقتلى في الشوارع حيث يحاول الإرهابيون حرق كل جميل على هذه الأرض وتدمير المعالم الحضارية الثقافية في بلادنا، ففي سوريا دمروا التراث وسرقوا ونهبوا المتاحف وحطموا التماثيل الفنية الإبداعية، وفي مصر ها هو الإرهاب يستهدف المساجد والكنائس، ويقتل الأبرياء وهم يؤدون صلاة الجمعة.
إنها حرب تستهدف المواطن المصري العادي الذي اعتاد الموازنة بين دينه ودنياه، فهذا الذي يؤدي صلاة الجمعة، كان يجد متسعاً في حياته لمشاهدة مسرحية أو الاستماع إلى أغنية أو متابعة فيلم، كإنسان عادي يوازن بين الإيمان والحياة بكل ما فيها من جمال.
وإذا كان زمن أم كلثوم لم ينته بعد، بل سيستمر ويستمر، لأنه زمن الحياة الإنسانية الطبيعية فإن زمن الإرهاب سينتهي حتماً، لأنه مناقض للحياة والإنسانية، إنه زمن الهم، ولا بد أن ينتهي ويزول ليستمر زمن الحياة.