السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

معركة القدس والمصير الوطني في مواجهة العنجهية والتوحش

نشر بتاريخ: 12/12/2017 ( آخر تحديث: 12/12/2017 الساعة: 10:25 )

الكاتب: د. نايف جراد

منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي ترامب قراره القاضي باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لإسرائيل والبدء بإجراءات نقل سفارتها إلى القدس، والجدل يدور حول كيفية التعامل مع هذا التحول النوعي الجديد، الذي يستهدف جوهر حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ويفرض بعنجهية لا مثيل لها حلولا مسبقة لمسألة القدس، لا يمكن لأي فلسطيني أن يقبل بها.
ولم يدرك البعض، أن اللحظة التاريخية الآن، باتت تختلف جذريا عن لحظات سابقة شبيهة، كانت القدس بؤرتها، كلحظة تدنيس شارون للمسجد الأقصى في الثامن والعشرين من أيلول عام 2000، ذاك العمل الاستفزازي الذي فجر انتفاضة الأقصى، وكانت خلفيته رسالة للشعب الفلسطيني وللرئيس الراحل ياسر عرفات الذي رفض التنازل عن السيادة الفلسطينية على الحرم القدسي وعن القدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطين، أو كلحظة المحاولات الاسرائيلية للمساس ب" الوضع القائم" للحرم القدسي، كما حدث في بداية هذا العام وأدى إلى انتفاضة الأقصى ومعركة" باب الأسباط"، والتي توحد فيها الموقفان الشعبي والرسمي الفلسطينيين.
قضية القدس الآن، بعد القرار الأمريكي، تجاوزت التفاوض على مدى وكيفية ممارسة السيادة على القدس، فوقها وتحتها، كلها أو جزء منها، وكذلك ادارة خدمات بلديتها، كما تجاوزت مسألة السيادة على الحرم، رغم تأكيدات الادارة الأمريكية ونتنياهو على عدم المساس ب" الوضع القائم" للمقدسات. قضية القدس الآن، لم تعد جزءا من مفاوضات ما يسمى ب" الحل الدائم: أو " النهائي"، فقد أخرجها الاسرائيليون من دائرة التفاوض وحسموا أمرها من جانبهم، مدعومين بموقف صريح وواضح لا يقبل اللبس من قبل الادارة الأمريكية الجديدة. وإذا ما أخذت هذه المسألة بترابطها مع الموقف من الاستيطان الاستعماري الصهيوني في القدس وبقية الضفة الغربية، والموقف من الاحتلال والقول بأنه " مزعوم"، والموقف الرافض لعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم وممتلكاتهم التي شردوا منها، يتضح جليا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تخلت عن ضماناتها التي أعطتها للفلسطينيين قبيل مؤتمر مدريد عام 1991، وعن الأسس التي قامت عليها عملية التسوية السلمية، ولم تعد الحلول لقضية القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 موضع مقاربات اسرائيلية اسرائيلية داخلية، حيث تم حسم الأمر بالانحياز السافر لموقف اليمين الاسرائيلي المتطرف
الرافض لأي تسوية اقليمية أو تنازل عن اراض مقابل السلام والأمن. أي أن واشنطن وتل أبيب، يريدان أن تأخذ إسرائيل كل شيء: الأرض والأمن والسلام معا دون أي ثمن مقابل، وما على الفلسطينيين، ومن ورائهم العرب، إلا إعلان القبول بالأمر الواقع والاستسلام.
الموقف الجديد جزء من " صفقة القرن"
اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، والتحلل من كل الالتزامات والقرارات الدولية ذات الصلة بالقدس، ومن الوعودات المقطوعة، والاتفاقات الموقعة ب" الرعاية السامية"، هي تجلي واضح لأبرز ملامح ما روج ويروج له عن " صفقة القرن"، التي يريد أن يعقدها" رب أعمال" العالم الجديد ترامب. ويجب أن تقرأ باعتبارها نموذجا للمواقف الكامنة المتعلقة بكل قضايا ما يسمى ب" الوضع الدائم": الحدود والاستيطان والمياه واللاجئين والأمن والعلاقة مع الجيران.
ان المخطط الاسرائيلي للقدس، الذي يريد تكريس ضمها كلها، بشرقيها وغربيها، وعلى مساحة واسعة من الأرض، بما فيها تلك المحتلة عام 1967، والذي شرع بأسرلتها وتهويدها منذ عام 1948 ولاحقا بعد احتلال جزئها الشرقي عام 1967، وكرس ذلك بقرار اعتبار القدس الموحدة عاصمة لاسرائيل منذ عام 1980، وبتكثيف الاستيطان داخلها وحولها، وبإقامة جدار الضم والتوسع حولها، وهو المخطط المستمر إلى اليوم، مستهدفا استكمال تهويدها وعزلها بمشروع قانون القدس الكبرى الذي تقدم به الوزير اليميني المتطرف يسرائيل كاتس، والقاضي بضم الكتل الاستيطانية المحيطة بالمدينة والمقامة على الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها معاليه أدوميم ومنطقة" آي 1"، الأمر الذي يقطع أوصال الضفة الغربية ويحكم العزلة على القدس ويخرج منها أكثر من 120 ألف مواطن مقدسي مقابل ضم ما يقارب 100 ألف مستوطن جديد إليها. وبقرار ترامب الجديد ستجد الحكومة الاسرائيلية اليمينية المتطرفة فرصتها الذهبية للانقضاض على القدس وحسم موضوعها باعتبارها مدينة "يهودية" و" عاصمة اسرائيل الأبدية".
وهذا يعني أنه إذا ما قدر وقامت دولة فلسطينية ما، فلن تكون البلدة القديمة للقدس(0.9 كم2) ومحيطها جزءا منها، وعلى الجانب الفلسطيني أن يقيم عاصمته في المناطق خارج جدار الفصل العنصري في أبو ديس أو غيرها. أما بخصوص الحرم القدسي، فإن القرار الأمريكي يحسم مسألة السيادة عليه لصالح دولة اسرائيل، ويقضي مسبقا على أية تطلعات فلسطينية لممارسة السيادة عليه. وما يتبقى، أي الاشراف الاداري والديني على الحرم القدسي (135 دونما)، فسيبقى الباب مفتوحا بشأنه، و تحت عنوان "عدم المساس بالأمر الواقع" عبر إخضاعه لضغوطات ومساومات تحت عنوان" الحلول الخلاقة". وقد رشح فيما جرى تداولة من حديث اعلامي وشبه رسمي عن الحل الاقليمي، الذي تعتمد عليه" صفقة القرن" أن الحل سيلحظ دورا للسعودية في هذا المجال أو لاشراف وإدارة اسلامية دولية تكون فلسطين والأردن جزءا منها، في ظل السيادة الإسرائيلية وترتيبات وضمانات أمنية. ويبدو أن الوضع العربي المتردي، والقابل لتطبيع العلاقات مع اسرائيل والتحالف السافر معها تحت عنوان مواجهة الخطر الإيراني، قد شكل ويشكل ظرفا مناسبا للإقدام على هذه الخطوة الأمريكية الخطيرة، ولطرح مشاريع تسوية للقضية الفلسطينية لا تلبي الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، بل وتفرض على القيادة الفلسطينية الاملاءات والشروط، تمهيدا للاستسلام.
وهكذا وفي الذكرى المشؤومة لوعد بلفور، يأتي "وعد" ترامب. وهو لا يكمل وعد بلفور فحسب، بل ويكمل الوعود الأمريكية لإسرائيل. فوعد ترامب بشأن القدس يستكمل وعد بوش الابن الصادر بتاريخ 14أبريل/نيسان 2004 بشأن الحدود والكتل الاستيطانية واللاجئين، وهو ما يعني التخلي كليا وعمليا، عن أي التزام أو رؤية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، قابلة للحياة وديمقراطية. وتتوج الولايات المتحدة الأمريكية بذلك شراكتها الاستراتيجية مع اسرائيل، منتقلة من ضامنة لأمن إسرائيل وتفوقها على دول المنطقة، إلى شريك في احتلال فلسطين والحيلولة دون تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير على أرضه بقيام دولته المستقلة وعاصمتها القدس. وهو ما يظهر مدى تحكم الصهاينة اليوم بقرارات البيت الأبيض وقدرتهم على رسم السياسة الخارجية الأمريكية المتناغمة تماما مع مصالح وسياسات اليمين الاسرائيلي المتطرف. ويكفي أن نعرف أن أكثر من أحد عشر شخصية يهودية متنفذة شاركت بفاعلية في حملة ترامب الانتخابية وهي تحيط به اليوم في البيت الأبيض في مناصب ومسؤوليات حساسة، ومنهم جاريد كوشنر، وديفيد فريدمان، وجيسون غرينبلات، وستيفن منوحين، وستيفن ميلر، وديفيد شولكين، وأبراهام بركوفيتش، وغاري كوهن، وكارل إيكان، وريد كورديش وغيرهم. وإلى جانب هؤلاء وعلى رأسهم، يأتي نائب الرئيس ترامب وأكثر الجمهوريين محافظة ويمينية مايك بنس، المسيحي المتصهين، والمدافع الشرس عن اسرائيل والداعي للمزيد من التدخل بالشرق الأوسط.
بهذا تخرج واشنطن نفسها بنفسها من رعاية عملية السلام، وتظهر حقيقة موقفها المنحاز بشكل سافر لاسرائيل وسياساتها وأطماعها.
الفلسطينيون في مواجهة الغطرسة والعنجهية والتوحش
لا شك أن الموقف الذي وضع فيه الفلسطينيون بصدور القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبدء اجراءات نقل السفارة اليها، صعب وخطير جدا. لكن من كان يعتقد بأن القيادة الفلسطينية ممثلة بالرئيس محمود عباس لن تقدر على رفض الموقف الأمريكي الجديد بشأن القدس كان مخطئا بالتأكيد. فالرئيس أبو مازن، ورغم ما عرف ويعرف عنه من اعتدال ومرونة، ومواقف مؤكدة على المفاوضات والسلام كخيار استراتيجي، لا يمكنه أبدا القبول بأن لا تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، وإلا راهن بشرعية قيادته للشعب الفلسطيني وحكم على نفسه بالانتحار السياسي. و من الملاحظ أن البعض في الساحة الفلسطينية قد شمت بالقيادة الفلسطينية، وحملها المسؤولية عما وصلت إليه الأمور، بسبب رهانها على المفاوضات والعمل السياسي والدبلوماسي، واعتمادها على الراعي الأمريكي لعملية السلام وثقتها بقدرة ترامب على عقد" صفقة" تلبي الحدود الدنيا من الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتكون مقبولة من الشعب الفلسطيني.
إن اللحظة التاريخية النوعية الجديدة، التي تدخلها قضية القدس بخاصة والقضية الفلسطينية بعامة، وطبيعة المعركة التي فرضت على الشعب الفلسطيني، تفرض منطقا آخر من التعامل الفلسطيني الفلسطيني، و تجاه الحلفاء أيضا. فهي لحظة ومعركة مصيرية، يُستهدف فيها وجود الشعب الفلسطيني ومبررات كفاحه الوطني. وبالتالي فهي لا تحتمل شماتة أو مزاودات، بل تستدعي البحث في كيفية مواجهة العنجهية و الغطرسة والتوحش الأمريكي – الصهيوني، بعقل جماعي وطني فلسطيني، وبعقلانية حريصة على وحدة الشعب الفلسطيني وتجنده للمعركة في كافة أماكن تواجدة في الوطن والشتات، ووحدة الموقف الفلسطيني والتحام القيادة والشعب معا في معركة المصير، والعمل على اتباع الأساليب والأشكال النضالية والكفاحية، القادرة على تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني بأقل كلفة وبما يلحق أكبر خسارة للمشروع المعادي ويجعل مشروع الاحتلال وقرار اعتبار القدس عاصمة لاسرائيل مشروعا خاسرا للكيان الصهيوني ولمن يدعمه، وبما يعزز أيضا جبهة الحلفاء، والتضامن مع فلسطين، التي تحظى، كما لم تحظ من قبل، بتعاطف واسع من الرأي العام العالمي مقابل تزايد المواقف غير المؤيدة لاسرائيل، والتي تضيق ذرعا باستمرار احتلالها للأرض الفلسطينية وبسياسة الفصل العنصري التي تتبعها.
ولا شك أن معركة كهذه، لا يمكن لقائد فرد مهما علا شأنه، أو لفصيل لوحده، أن يخوضها وينجح بها، فهي تحتاج للكل الفلسطيني قيادة وقوى وفصائل ومجموعات وأفراد. كما وتحتاج إلى ثقة بالذات وإيمان قوي بالقدرة على الصمود والمواجهة وبالانتصار في المعركة.
وخيرا فعل الرئيس محمود عباس، بأن دعا لاجتماعات طارئة للهيئات القيادية الفلسطينية، و أحال الأمر للمجلس المركزي الفلسطيني، الذي يمثل المرجعية الوطنية العليا بين اجتماعين للمجلس الوطني، والذي ينوب عن المجلس الوطني في حال تعذر انعقاده، كي يعقد اجتماعا طارئا يؤكد الموقف الوطني الفلسطيني الموحد، ويتخذ القرار المناسب تجاه الخيارات المطروحة.
إن طبيعة المعركة التي فرضت على الشعب الفلسطيني، يجب أن لا تقابل لا باستهتار ولا بمبالغة. فهي من جهة أولى، معركة شرسة، وطاحنة، يقف مقابل الشعب الفلسطيني فيها أكبر دولة عظمى في العالم يحكمها رئيس أرعن ومتهور ومتعجرف وغير متزن، لا يقيم وزنا لشعوب العالم ولا يتورع عن الدوس ببسطاره وهو مخمور على كرامتها وحقوقها، يزداد مع وجوده على رأسها خطر تحولها وانزلاقها إلى الفاشية. ومعه تقف حكومة عتاة اليمين الاسرائيلي المتطرف بزعامة نتنياهو، ذات النزعة العدوانية والتوسعية، وغير المؤمنة بالسلام أصلا، والتي استغلت وتستغل وجود ترامب في البيت الأبيض وحالة التدهور والانحطاط الرسمي العربي وانشغال الشعوب العربية ودول الاقليم بحروبها الأهلية ومشاكلها وخلافاتها الداخلية والاقليمية، وتستغل ضعف الشعب الفلسطيني وقيادته، وتفوقها العسكري وقدراتها كافة لتنقض على ما تبقى من أمل للفلسطينيين في حريتهم واستقلالهم.
ولكن، ومن جهة أخرى، فإن هذه المعركة تستفز الكل الفلسطيني، وتحفزه للتحدي، وتفجر لديه شعلة الغضب والكفاح، وتجعله يستدعي كل خبرته النضالية على مدار مئة عام، مجترحا ابداعات ومعجزات الكفاح الوطني التحرري التي تختزنها ذاكرة شعبه العنيد الذي بقي وصمد على أرض وطنه ولم تهن النكبات والهزائم والتهجير والتشتيت من عزيمته النضالية ولم تخمد فيه جذوة الكفاح من أجل الحرية والعودة والاستقلال.
وإلى جانب الشعب الفلسطيني، ورغم الخذلان الرسمي العربي، الذي ليس بجديد، ورغم المآسي والدمار ومكابدة القمع والارهاب، تقف الشعوب العربية التي لا زالت مع فلسطين وقضيتها العادلة، قاسمتها مر العيش والمعارك القومية دفاعا عن تحررها واستقلالها وكرامتها، والتي تنهض باستمرار مع نهوض فلسطين وتكسب الرهان دائما على أصالتها وانتمائها.
ولا يعدم الشعب الفلسطيني وجود أصدقاء وحلفاء على الصعيد الدولي، فقضية القدس وقضية فلسطين العادلة، هي قضية المسلمين جميعا، وهي قضية المدافعين عن الحرية وحقوق الانسان في العالم بأسره. وقد ضاق العالم ذرعا بالعنجهية الصهيونية، ولم يجد الموقف الأمريكي الأخير بشأن القدس صدى لدى حكومات العالم، بل انها عبرت بشكل يشبه الاجماع عن رفضها للاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل ورفض نقل مقر سفاراتها اليها.
نعم الشعب الفلسطيني يستطيع
في مثل هذه المعركة حامية الوطيس، وكما دلت التجارب السابقة، يخرج علينا من يثبط الهمم ويزعق كالبوم في الخراب منذرا بالشؤم، باثا روح الاحباط في الصف الوطني، تحت عنوان أن الشعب الفلسطيني وقيادته غير قادرين على الصمود بوجه الغول ترامب والثور الهائج نتنياهو، وأن الشعب الفلسطيني وقيادته لا تملك القدرات المادية والعسكرية اللازمة لخوض المعركة، فالاقتصاد الفلسطيني تابع للاقتصاد الاسرائيلي واسرائيل تتحكم بكل منافذ فلسطين، وهي متفوقة عسكريا ولا تتورع عن ارتكاب المجازر على مرأى ومسمع العالم بأسره دون رادع، وأن السلطة والشعب الفلسطيني يعيشان على المساعدات الخارجية، التي إذا انقطعت بضغط أمريكي تحكم علينا بالموت جوعا، وأن العرب متخاذلين ومتحالفين مع أميركا وإسرائيل، وان خطوة ترامب جاءت بالتنسيق معهم وبالتالي فهم متآمرين على قضية القدس وفلسطين ولا يؤمل منهم شيء، والشعوب العربية منهكة ومنشغلة بهمومها، ولدول العالم مصالحها التي لا تقامر بها إرضاء لأميركا وخوفا من غضب زعيمة العالم. ولكي تكتمل أطروحة الاحباط وتثبيط الهمم، يستدعي هؤلاء جزءا من الحقيقة المرة، بالقول أن دماء الشباب الفلسطيني التي ستراق في ساحات المواجهة ستذهب هباء وسيتاجر بها السياسيون، وستجري المساومة عليها كما جرت في مرات سابقة للحصول على الفتات والامتيازات والصفقات، ومقابل صاروخ يطلق من غزة المنكوبة ستسقط آلاف القذائف الاسرائيلية المدمرة وسيقضى على ما تبقى من أمل في إعمار ما دمرته الحروب السابقة مما سيفاقم معاناة غزة ، وسيواجه تحرك الجماهير الفلسطينية في الدول المحيطة بفلسطين والشتات بالقمع من السلطات الحاكمة وسيوصم الفلسطينيون بالارهاب والتطرف العنيف الذي يحاربه عالم اليوم، وسيتعرض أبناء الشعب الفلسطيني إلى مزيد من النكبات والتهجير والتشتيت.
كل هذا ليس بمفاجئ، وليس بغريب، كما دلت التجربة الفلسطينية وتجارب شعوب أخرى، عما يمكن أن يطلق عليه ب ألاعيب وتكتيكات" الثورة المضادة" او " الطابور الخامس"، الذي يستخدم ويستغل من قبل أعداء الشعوب لثنيها عن الكفاح من أجل حقوقها والانتصار لقضاياها العادلة.
وعليه، فإن على الشرفاء الفلسطينيين أن يتصدوا بقوة لمثل هذه الطروحات، وان يحاصروها، وأن يعملوا بجد كي يعززوا ثقة الشعب بقوته وإمكانياته التي تجترح المعجزات، وأن يحرصوا على لحمة الشعب الفلسطيني ويحثوا الخطة لانجاز المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية على كل المستويات سياسيا وفي الميدان أيضا.
ولا شك أن المعركة المصيرية هذه، تستدعي صياغة استراتيجية وطنية موحدة، تقرها الهيئات والمؤسسات الوطنية التمثيلية بمشاركة كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والجغرافي الفلسطيني، تأخذ بعين الاعتبار ضرورة الاتفاق على برنامج سياسي يشكل القواسم المشتركة للحركة الوطنية الفلسطينية، وتفعيل طاقات الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده وتجنيدها كافة بشكل متكامل في مقاومة شعبية شاملة، والتوافق على الأشكال النضالية الناجعة على كافة المستويات على أساس إدارة موحدة للصراع مع الاحتلال، وتوفير مقومات الصمود للشعب الفلسطيني، وتفعيل هيئاته ومؤسساته عبر تجديد شرعيتها بالتوافق الديمقراطي والانتخابات، والحرص على كسب مواقف التضامن من الحلفاء والأشقاء العرب والأصدقاء على المستوى الدولي، وبما يعزز حضور فلسطين في كافة المحافل الدولية ويحاصر ويعزل دولة الاحتلال والفصل العنصري ومن يقف داعما لها.
نعم، إن الشعب الفلسطيني يستطيع أن ينجح وبنتصر في معركة القدس والمصير الوطني، فالشعب الفلسطيني صاحب قضية عادلة، ولا زال وسيبقى يختزن الكثير من الامكانيات النضالية ويجترح الإبداعات الكفاحية التي يفاجئ بها المحتل والعالم، وإن اختلافه وشتاته يمكن أن يحول إلى قوة التنوع والانتشار. والقيادة الفلسطينية تستطيع أيضا، فهي تمتلك قول "لا" لأي مشروع أو خطة أو "صفقة" تنتقص من الحقوق الوطنية التاريخية والمشروعة، وبيدها مفتاح شرعية دولة الاحتلال، وغطاء الانتماء القومي والديني، والسلاح الديمغرافي، وقوة قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وقوة وسمو القانون الدولي والاتفاقات والمعاهدات والقرارات الدولية، ولا تعدم الحلفاء والأصدقاء على الأصعدة العربية والإسلامية والمسيحية والأممية والانسانية. ولنا في تاريخ شعبنا الفلسطيني، وفي تاريخ الشعوب التي خاضت معارك تحررها الوطني واستقلالها وانتصرت فيها على الاستعمار والاحتلال الأجنبي وأنظمة الفصل العنصري أمثلة كثيرة تحتذى ويستفاد من دروسها وعبرها، حسبنا كفلسطينيين، قيادة وقوى وجماهير، أن نكون على مستوى التحدي.