الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

هل سيتراجع ترامب عن قراره بشأن القدس؟

نشر بتاريخ: 15/12/2017 ( آخر تحديث: 15/12/2017 الساعة: 19:47 )

الكاتب: عوني المشني

ثلاثة لا يمكن التنبوء بمسلكهم او ردة فعلهم امام الازمة : الطفل ، الحيوان ، المجنون . فَلَو كنت تقود سيارتك وشاهدت احد من هؤلاء في منتصف الشارع فإنك حتما ستكون في منتهى الحذر لأنك لا تستطيع التنبوء بردة فعله ، والى أين سيتوجه او انه سيأخذ الخيار المنطقي المتاح . وترامب واحدا من هؤلاء وسيكون من الصعوبة بمكان ان نتنبأ بردة فعله بعد ان اجمع العالم رسميا وشعبيا على ادانة خطوته المتهورة المجنونة ، هل سيواصل ضرب رأسه في الحائط ام انه سيجد مخرجا وسطا ام انه سيتراجع ؟؟؟!!!!
المنطق يقول انه يفترض ان يتراجع لما أكدت الاحداث بما لا يدع مجالا للشك بان قراره ذاك قد أضر بمصالح الولايات المتحدة ، وهذا ما أكده اكثر من خبير سياسي امريكي ، والواضح من شخصية ترامب انه مغامر الى حد انه قد يقامر بمصلحة بلاده في سبيل ارضاء غروره وسيواصل المضي في طريق خاطئ ، والحل الأمثل الذي يمثل مصالح الولايات المتحدة هو إيجاد صيغة ما متوازنة تشكل مخرجا من الازمة دون ان تشعر امريكيا بالهزيمة ولكن بالمقابل دون ان تفقد امريكيا احترام العالم ، صيغة تمثل تراجعا مع حفظ ماء الوجه وكبرياء امريكيا القوة الأكبر في العالم .
حتى اللحظة تراهن الولايات المتحدة الامريكية وبتشجيع من اسرائيل عن انحسار موجة الغضب الشعبي تدريجيا وتآكل موقف الدول الرافضة للقرار مع الزمن ، هذا الرهان ربما يكون صحيحا لو كان الامر يتعلق بموضوع هامشي او عادي ، لكن القدس امر اكثر من استثنائي ، فالفلسطينيين يدركون تمام الإدراك ان مرور هذا الامر سيكون الخطوة ما قبل الاخيرة على طريق الاجهاز على فكرة الدولة الفلسطينية لذلك فان ظهرهم للحائط تماما ولا يستطيعون ان يمرروا هذا الامر مهما كانت النتيجة ، هذا ليس على المستوى الشعبي فحسب بل المستوى الرسمي الذي يدرك جيدا ابعاد هذا القرار ، اما العالمين العربي والإسلامي فانهم لا ينتصرون لموضوع القدس كمعطى فلسطيني فحسب بل ينتصرون للقدس كمعطى ديني مقدس غير قابل للتفريط او المقايضة ، لهذا فان التفاعل العربي الاسلامي قائما وبوتائر واشكال مختلفة تعبيرا عن إيمان عميق بقدسية لا تهاون بشأنها ، الجانب الاخر وهو الموقف الدولي ، فلم تكن امريكيا معزولة عبر تاريخها اكثر من هذا الوقت ، هذا ليس بالأمر الهين حتى على دولة بحجم امريكيا ، فهيبة امريكيا وقدرتها على التأثير في المجال السياسي الدولي قد وصلتا الى مرحلة متدنية جدا لا تساهم في الحفاظ حتى على مصالحها ، وهذا ليس بفعل قرار ترامب بشأن القدس فقط ولكن هذا القرار لما انطوى عليه من انحياز سافر للظلم والعدوان قد أوصل الامور الى ذروتها .
لهذا كله فالمتوقع لا ان تتواصل موجة الغضب والاستنكار العالمية والعربية والإسلامية والفلسطينية فحسب بل وان تتعمق ايضا ، لتصبح في مرحلة ما ليس ضد القرار فحسب بل ضد السياسة الامريكية برمتها ، ان تحييد امريكيا عن موقعها كراعي حصري لعملية السلام الفلسطينية الاسرائيلية يشكل بداية لتجاوز رفض قرار ترامب الى مرحلة رفض السياسة الامريكية برمتها ، وستحمل قادم الايام الكثير من هذه المواقف ليس بشأن فلسطين فحسب ، وحتى قبل فقد انفردت امريكيا لوحدها بالانسحاب من اتفاقيات المناخ كذلك بموقفها من الاتفاق النووي مع ايران " خمسة زائد واحد " .
بات واضحا ان ترامب بسياساته جميعها يشكل عامل مدمر للدور الامريكي العالمي ، وقراره بشأن القدس سيشكل مفترقا كبيرا ، سيجعل من تناقض سياسة ترامب مع مصالح الولايات المتحدة أمرا مكشوفا وحادا في ذات الوقت وسيجعل المعارضين على المستويين الشعبي والرسمي لتلك السياسة اكثر عددا واكثر جرأة ، صحيح ان الجمهور الامريكي ليس مهتما كثيرا بالسياسات الخارجية واهتمامه ينصب على القضايا الاجتماعية والاقتصادية ، ولكن حتى في هذا المجال فان المعارضة لسياسة ترامب تتزايد وتتضح ، وبذلك يصبح الرئيس عبئا ثقيلا على امريكيا اكثر مما هو عامل مساعد لها .
هنا نصل الى حلقة مفرغة ، ترامب بشخصيته غير مهيأ للتراجع ، سياسته الداخلية والخارجية تشكل عبئ وتهديد للمصالح الامريكية ، هذا سيجعل خروج ترامب من المشهد اكثر سهولة من تراجعه او استمرار سياساته ، وفِي هذا الاحتمال فان المصاعب ليست قليلة ، فالقانون الامريكي يحمي الرئيس وعملية إقصائه عملية معقدة الا اذا افضت التحقيقات الجارية الى توجيه اتهام له رسميا وهنا تصبح عملية إقصائه اكثر يسرا . ان سنة واحدة من حكم ترامب قد راكمت من القرارات الخاطئة ما وضع امريكيا في عزلة دولية شبه كاملة وحط من قدرها ومكانتها وهذا ما تحتمله مؤسسات الدولة العميقة ، وهذا ما سيقود الى جدية اكثر في تغيير عميق يؤدي الى تصحيح مسار السياسة الامريكية .
ان مزيدا من الضغوط الداخلية والخارجية على امريكيا هي الرد الحقيقي على ترامب ، ربما ان الضغوط الداخلية تتوفر لها عواملها والتي تكمن في تشكل موقف واسع من ترامب وسياساته اتجاه المرأة والسود والمسلمين ، اما خارجيا فان قرار ترامب بشأن القدس قد اخرج هذه الضغوط من دائرة الفعل المحدود الى دائرة الفعل المنظم الواسع ، هذا لا يكفي ، ما هو مؤثر هو استمرار تلك الضغوط وتنوعها لتتحول الى سياسات ثابتة ومتواصلة لتهدد المصالح الامريكية للدرجة التي يصبح فيها مطلب إنهاء هذه السياسة رأيا عاما امريكيا وموفقا ثابتا لمؤسسات الدولة العميقة .
فلسطينيا كان من الجيد اتخاذ موقف صريح وحاد من دور امريكيا كوسيط في عملية السلام ، تم تعزيز هذا الموقف بتبنيه في القمة الاسلامية ، ربما كان ممكن رفع السقف اكثر بالطلب الواضح والصريح بقطع العلاقات مع امريكيا او مقاطعتها اقتصاديا ، ومع إدراكنا لصعوبة تنفيذ ذلك الا ان رفع السقف لهذا المستوى سيجعل هناك هامش اكبر للتحرك عالميا ، وفلسطينيا ايضا فان المسارعة باتخاذ خطوات باتجاه المنظمات الدولية ومجلس الامن من شأنها ان تعزز الموقف ، هذا ممكن الان وهناك تفهم دولي لهذا ، تفعيل دور الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي وغيرها من مؤسسات دولية والاهم ان يأتي هذا الجهد في سياق ادانة امريكيا وسياساتها وليس اسرائيل فحسب .
ان ضعف الموقف العربي الرسمي يشكل الثغرة في هذا التوجه ولكن زيادة الضغط الشعبي يساهم في الارتقاء بالموقف الرسمي وان لا يكن بشكل كافي الا انه يساهم في عدم خروج امريكيا من دائرة العزلة ، والقنوات الخلفية لا تكفي امريكيا لبقاء تأثيرها في العالم ، ربما ارضى اسرائيل بالقنوات الخلفية والسرية ولكن امريكيا هذا يحط من قدرها وقيمتها عالميا . هنا يصبح من الأهمية زيادة الضغط الشعبي العربي والإسلامي وربما هذا هو الاهم في استراتيجية مقاومة سياسات ترامب المجنونة ، ان الرهان الامريكي على تآكل هذا الضغط مع الزمن يفترض ان يسقط عبر تأطير وبرمجة هذا الضغط وإخراجه من دائرة ردة الفعل وإدراجه في إطار البرنامج المتواصل ، وهذا وان بدأ بشكل جنيني ولكن تعميقه اكثر هو شرط تواصله .
ان المناخ الذي خلقه ترامب عبر سياسة غير مدروسة يفتح المجال واسعا امام كل الخيارات وامام كل ردود الفعل ، وفِي النهاية فان الشيئ الوحيد الغير ممكن هو استمرار هذا الوضع ، فطريق التغيير أصبحت مفتوحة حتى وان كان التغيير لما هو أسوأ .