الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

إدارة ترامب: عنصرية في الداخل وتنَمُر في الخارج

نشر بتاريخ: 27/12/2017 ( آخر تحديث: 27/12/2017 الساعة: 18:39 )

الكاتب: د. حسن أيوب

رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية
غالبا ما يذهب المختصون في السياسة الخارجية وشؤون النظام الدولي، وبخاصة ما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية إلى فهم وتحليل السياسات الخارجية لواشنطن من خلال مداخل نظرية محددة. يميز الدارسون والمحللون مثلا بين سياسات الإدارات المتعاقبة من زاوية التعارض بين "الواقعية" و"المثالية". في سياق هذا التمييز ارتكزت حملة الحزب الجمهوري في سباق الرئاسة الأمريكية ضد (بيل كلينتون) إلى انتقاد الأخير على خلفية سياسات إدارته التي ورطت الولايات المتحدة الأمريكية في تدخلات لا علاقة لها بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، بقدر ما تستجيب لتوجهات كلينتون المثالية من قبيل الدفاع عن حقوق الإنسان. وبالرغم من أن إدارة جورج بوش الابن انتهت إلى التدخل لأسباب لا تقل "مثالية" عن تلك التي ميزت إدارة كلينتون، فإن إدارة الرئيس أوباما أظهرت سجلا مختلطا من تجنب التدخل، إلى التدخل الحذر. ويأخذ أنصار المدرسة الواقعية على إدارة أوباما بأنها لم تتصرف بما يكفي من "الواقعية" مع التحديات التي فرضتها تحولات السياسة الدولية على واشنطن مثل تعاظم قوة روسيا، أو التقارب الروسي الصيني. في سياق هذه الانتقادات استُحضرت قدرات ومواهب واحد من أهم رموز "الواقعية" في السياسة الخارجية الأمريكية وهو جورج كينان مصمم استراتيجية الاحتواء.
يرتبط بهذا النوع من الجدل سؤال اخر يتناول الدور المطلوب، أو المُتَصوَر للولايات المتحدة الأمريكية في العالم: هل ستقدم أمريكا نفسها باعتبارها الأمة التي لا غنى عنها للعالم بما تملكه من قيم وما تمثله من نموذج للازدهار وما تحمله من رسالة، أم ستجسد دور الشرطي الذي تناط به مهمة تنظيم هذا العالم سواء برغبتها أو باضطرارها. في ذات السياق يدور جدل حول التفوق الأمريكي وهل سيمثل القوة المهيمنة الخيرة، أم الامبراطورية، أم أنها ستلعب دور القيادة من الخلف. بكل الأحوال ثمة أطر معرفية ومنهجية سائدة لدراسة النظام الدولي من زاوية دور ومكانة وسلوك الولايات المتحدة الأمريكية يستند إلى افتراض مسبق (له ما يبرره) بأن أمريكا لا تزال قوة عظمى ذات نفوذ هائل في السياسة الدولية. لا تبدو مثل هذه الأطر التحليلية مفيدة أو ملائمة لتقييم سياسات وسلوك الإدارة الأمريكية الحالية. ثمة حالة من الفوضى السياساتية وانعدام الاستراتيجية في السياسة الخارجية لفريق دونالد ترامب تجعل من الصعب تأطيرها بهدف فهمها وربما التنبؤ بالسلوك المترتب عليها. هذا لا يعني بأن التفسير متعذر تماما. فكيف يمكن فهم سياسات واشنطن الحالية والتي ساهمت قضية القدس في الكشف عنها؟ يكمن التفسير -بتقديرنا المتواضع- في الربط بين خصائص النظام الذي تعبر عنه إدارة ترامب داخليا، وبين سياساتها الخارجية. وهذا المنطق التفسيري يخالف منطلقات المدرسة الواقعية النظمية التي تفسر سلوك الدول وبخاصة العظمى من زاوية خصائص بنية النظام الدولي. ولا يتفق ما سنذهب إليه مع المدرسة الليبرالية التي تقوم على تفسيراتها منهجيا على أسس نظمية ولكنها تنزع إلى مفاهيم الهيمنة والمسؤولية الكونية والقيم الليبرالية. ربما يتقاطع تفسيرنا جزئيا مع المدرسة المثالية من ناحية بعض التفسيرات ذات الصلة بأيديولوجيا ترامب وفريقه وأولهم نائبه "بينس"، ولكنه يستند أساسا على الربط بين طبيعة النظام السياسي وأيديولوجيته من جهة، وبين سياساته الخارجية وسلوكه الدولي من جهة ثانية.
لعله من المفيد أن نبدأ بتحديد أبرز معالم السياسة الخارجية لإدارة ترامب منذ توليه للرئاسة:
1- تظهر هذه الإدارة نزوعا مفرطا للإحساس بالتفوق والاكتفاء بالذات يتجاوز نزعة "الانعزال" المعروفة في التاريخ الأمريكي نحو نمط من الشوفينية العدوانية لكل ما هو غير أمريكي أبيض. لقد كانت أولى خطوات هذه الإدارة التنصل من اتفاقيات دولية في ميادين التجارة الحرة والبيئة والعلاقات الدولية مثلما هو معروف. تترجم هذه السياسات بصورة متطرفة وخطيرة شعار ترامب الانتخابي الرئيسي "أمريكا أولا"، بقدر ما يمثل الشعار ذاته الإحساس بالتفوق والتفرد؛
2- لم تظهر هذه الإدارة أية حساسية تجاه الحلفاء والأصدقاء. فقد انتهجت سياسات وأقامت أحلافا دون الرجوع لحلفائها، واشترطت على هؤلاء الحلفاء أن يدفعوا مقابل تحالفهم معها. فعلى سبيل المثال كرر ترامب مرارا عدم رضاه عن الالتزام بحلف الناتو، ويريد من الشركاء في هذا الحلف دفع كلفة تحالفهم مع واشنطن. فلا هو من "الواقعية" لكي يضبط توسع الناتو في أوروبا الشرقية، ولا من الليبرالية لدفع الحلف بهذا الاتجاه. في هذا السياق فإن تقاربه مع روسيا يشكل اختلالا في الاستراتيجية الأوروبية القارية للوايات المتحدة وحليفها الاتحاد الأوروبي. من ذلك أيضا مغامرات إدارته في الخليج فيما يتعلق بالأزمة القطرية والحرب في اليمن. جاء قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بالضد من موقف كل حلفاء واشنطن الدوليين وخصومها على السواء، مما يشكل خلطا في الأوراق وإرباكا للقواعد الناظمة للسياسة الدولية في مرحلة من الميوعة العالية في النظام الدولي؛
3- تفوقت هذ الإدارة على إدارة جورج بوش الابن في ازدرائها للمنظمات الدولية والقانون الدولي. وهذا ينسجم تماما مع إحساسها العميق بأنها تقف في جانب الخير والحق حتى لو وقف العالم كله ضدها. هذا ما تتميز به الأنظمة والأيديولوجيا الميسيائية فهي تعتبر وقوف العالم ضدها دليل على تفردها واعتدادها بالحق.ألم يمارس نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا ذات القناعات معتبرا البيض الأفريكانرز (الهولنديين) شعب الله المختار؟ ألا نلاحظ بأن "إسرائيل" تستند في أحد أهم مبررات سياساتها العنصرية إلى قناعة ذاتية بأنها تمثل الحق، وبأنها تجسد شعب الله المختار أيضا؟ مثل هذه الأيديولوجيا تذهب إلى حد أنها تستدعي عداء الاخرين كبرهان على صوابية مذهبها. إذن ليس من الغريب أن تبدأ "نيكي هالي" وظيفتها بالتلويح بأنها ستضرب بالحذاء كل من سيجرؤ على انتقاد أو ملاحقة "اسرائيل" في الأمم المتحدة، وتنتهي إلى تهديد دول العالم التي ستعترض على قرارات إدراة ترامب. إنها دبلوماسية الاستعلاء والتنمُر التي تجد تعبرا فظا في تهديد ترامب بقطع المساعدات المالية عن تلك الدول "التي تأخذ مالنا، وتصوت ضدنا" حسب تعبيره. هذه مرحلة أشد تشوها من شعار بوش الابن: "إما معي أو ضدي".
لا تتفق هذه السياسات مع أي من التفسيرات السائدة في نظريات السياسة الدولية، ولا مع المألوف من استراتيجيات الإدارات الأمريكية المتعاقبة. بل يبدو بأن إدارة ترامب تتأرجح في سلوكها الدولي بلا استراتيجية واضحة المعالم، الأمر الذي ترك وزارة الخارجية الأمريكية خارج دائرة التأثير ليحل محلها البنتاغون و"نيكي هالي"، وجوقة المتصهينين المقربين من الرئيس أمثال جاريد كوشنير ودافيد فريدمان. احتجاجات وزير الخارجية "تيلرسون" على الهميش خرجت إلى العلن وأعقبها رسالة الاستقالة لواحدة من ألمع الدبلوماسيين في وزارة الخارجية وتدعى "إليزابيث شاكيلفورد". لقد خرجت رسالة الاستقالة للعلن من خلال شبكة "سي. إن. إن" والتي وجهت فيها انتقادات حادة للسياسة الخارجية لواشنطن وتنصلها من "مبادئ" السياسة الأمريكية، وبخاصة الالتزام بدعم حقوق الإنسان، وافتقارها للاستراتيجية. هجرة الدبلوماسيين لوزارة الخارجية على هذه الخلفية وصفتها مجلة "فورين بوليسي" بالنزوحExodus.
ولا تفيدنا هذه السياسات في تحديد الرؤية التي تمتلكها الإدارة لدور أمريكا على الساحة الدولية؛ إذ لا تبدو ذاهبة نحو دور المهيمن الخير، ولا الأمة التي لا غنى عنها، ولا سواها من الأدوار. أغلب الظن فإن هذه الإدارة تسعى لتكون الأمة السيدة عبر البلطجة.
دعونا نذهب إلى معالم السياسات الداخلية ذات الصلة لإدارة ترامب، والتي تنعكس على سياساتها الخارجية وسلوكها الدولي. لنبدأ من الانتخابات التي تمت منذ حوالي أسبوعين في ولاية ألابامابالأمس القريب وعقب خسارة مرشح ترامب لانتخابات مقعد الشيوخ في ولاية ألاباما (تصوت دوما للجمهوريين) لصالح المرشح الديمقراطي، رفض الخاسر الاعتراف بالخسارة قائلا: إن الله معه وسيأتي بالحق. يشكل العداء للديمقراطية والقيم الليبرالية سمة ملازمة لسلوك فريق ترامب. ففي أوج حملته الانتخابية أعلن بأنه لن يعترف بالنتيجة إن فازت منافسته هيلاري كلينتون. تمثل المنظمات الدولية امتداد منطقيا لهذه القيم على المستوى الدولي على الأقل على المستوى النظري ومن وجهة النظر الليبرالية والمدرسة الإنجليزية في العلاقات الدولية. لذلك لا نستغرب هذا الموقف العدائي تجاهها من قبل فريق لا يعتد بقيم الديمقراطية بقدر اعتداده بما يمثله من قيم شعبوية تراهن على ملايين "المؤمنين" والذين ضاقوا ذرعا بالديمقراطية الليبرالية. في مستوى أكثر عمقا فإن التقاء السياسات الداخلية مع السلوك الدولي يشيران إلى تبلور نظام شوفيني، الأمر الذي دفع الرئيس السابق إلى التحذير من أن الولايات المتحدة تواجه خطر الوقوع في مسار يفضي إلى فاشية مثل نظام أدولف هتلر.
أظهرت الإدارة الحالية في واشنطن وترامب ذاته درجة غير معهودة من العنصرية والتزمت العرقي. ففي الأزمة التي فجرتها أحداث مدينة "تشارلوتزفيل" قبل نحو أربعة شهور حيث هاجم المتعصبون البيض خصومهم من التقدميين بعنف مروع، وقف ترامب علنا مساندا للبيض من "الكو كلوكس كلان"، والنازيين الجدد وأشباههم. ثمة نقطة التقاء جوهرية هنا بين شوفينية ترامب والبيض المتطرفين وقناعتهم بِسُمو العرق الأبيض، وبين شوفينية الصهيونية، يضاف إلى قناعتهما المسيائية بتمثيلهم للحق. هذه أحد أهم خلفيات قرار ترامب بشأن القدس، والتي تضمنتها تبريراته للقرار.
يتعامل ترامب بريبة كبيرة مع وسائل التعبير الديمقراطي والمعارضة، فلم يتردد مرارا في مهاجمة الصحافة الأمريكية، والخصوم السياسيين، ولا في عزل الموظفين الكبار في إدارته لمعارضتهم لسياساته مثل وزير الدفاع السابق، وتهديده بإعفاء وزير خارجيته من منصبه. بل إنه ذهب لحد استهداف محققين فدراليين في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية. امتدت هذه النزعة العدوانية إلى الحلبة الدولية والتي كشفتها مداولات مجلس الأمن الدولي حول القدس، والتهديدات المتنمرة للدول التي ستجرؤ وتصوت ضد إرادة وقرار ترامب بشأن القدس. وجاءت كلمات المتحدثين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ونتائج التصويت من خلال "حلفاء من أجل السلام" اليوم لتشكل انتكاسة لمنطق القوة والاستعلاء الذي تجسده الإدارة الأمريكية بأكثر صوره فظاظة. لقد كشفت مسألة القدس والاعتراف الأمريكي بها عاصمة لدولة "اسرائيل" لتكشف عن الطبيعة العدائية لإدارة ترامب، وميلها المَرَضي للاستعلاء والشعور المُضَلَل بتمثيل الحق. ربما تكون الحالة الذهنية لترامب أحد مفاتيح التفسير لسياساته الخطيرة، فقد أجمع عدد من أبرز علماء الأمراض الذهانية في مؤتمر عقدوه في جامعة "ييل" (أحد أكثر جامعات أمريكا تفوقا) أن ترامب يعاني من ذهان البارانويا (الارتياب)، ومن أعراض الوهم، وهي أعراض مميزة للأشخاص الخطيرين ومرتكبي الجرائم. لقد أوصى هؤلاء الخبراء بضرورة عزل ترامب كونه غير مؤهل للقيام بمهمات الرئاسة على حد تعبيرهم.قرار ترامب بشأن القدس يدلل على جهل وسوء تقدير لحساسية الموضوع، وعلى وهم خطير بشأن قدرته على فرض القرار بالقوة.