الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

فاضل الربيعي في اجرأ كتبه: التوراة يمنية

نشر بتاريخ: 07/03/2018 ( آخر تحديث: 07/03/2018 الساعة: 16:45 )

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض

كتاب فاضل الربيعي الموسوم "القدس ليست أورشليم" كتاب جريء ومغامر ومدهش ومستفز، ويمكنك أن تصفه بالناشز وغير التقليدي والجديد والعجيب والغريب ايضاً، وذلك أنه ينقض رواية راسخة ضاربة الجذور في أعمق أعماق أجيال سابقة وحاضرة، رواية شكلت أسباب الغزوات والحروب والعنصريات ورواية شكلت وما تزال أحدى أعمدة الثقافة الغربية التوراتية والأغريقية.
فاضل الربيعي يتصدى لهذا البنيان الراسخ والقديم والثابت، ليس من أجل هدمه فقط، وأنما إعاده بنائه من جديد. فهو يجرد جماعه اليهود من خصوصيتها الفريدة والاستثنائيه أولاً، ويجردها من مكانها الأثير لديها الذي قامت عليه عقيدتها، أي أنه قام بكسر أيقونه العقيدة المكان، فقد صنع الربيعي دائرة انزياح مذهله بكل المقايس، فالتوراة وجماعه اليهود ما هي إلا قصه من قصص العرب البائدة، " فالصراع بين اليهود والفلستينيين لم ينشب في فلسطين، بل دار في هذا الفضاء الجغرافي الذي كان موطن قبائل وثنية، كانت على موعد مع فجر ديانة عربية توحيدية، وبالتالي فإن الفلسطينيين لم يكونوا طرفاً فيها والزج بإسمهم في قلب تاريخ زائف من تلفيق مخيله أوروبيه" ص90 (من طبعة دار الرعاة في رام الله لسنة 2017). هكذا يهدم فاضل الربيعي كل شيئ بضربة واحدة تكاد تشبه الضربة القاضية غير المتوقعة. فاضل الربيعي بكتابه هذا، لا ينسف ألمرويات التوراتية اطلاقاً، ولكنه يعيد قراءتها او يعيد اليها القراءه الممكنة والطبيعيه والأقرب إلى الواقعية، بكلمات اخرى، فإن الربيعي يجرد هذه المرويات من الاوهام الأروبيه ومن التفسيرات الحرفية او التفسيرات المشيحانية والرمزية، ومن الاسقاطات الاستعمارية والاستخدامات العنصرية والتوسيعية، فاضل الربيعي يقوم بعمل جبار استعمل فيه الحفر التاريخي واللغوي بشكل مبهر وملفت للنظر -إكتشف من خلاله إن ترجمة المرويات التوراتيه غير دقيقة، وإن محاولة اسقاط المرويات التوراتية على الاماكن والشعوب والجماعات انما هي رؤيه لا علاقة لها بالتاريخ ولا بالجغرافيا.
المذهل في الامر ان ما يطرحه الربيعي مقنع إلى حد التقاط النفس، وما يقوله وما يقاربه وما يصل اليه، اكبر من الصدفة ولا يمكن وصفه بالتجني. هو يقول ببساطه، إن الأجيال السابقة والترجمات السابقة والقراءات السابقة إنما أَنطقت المرويات ولم تستمع اليها ولم تقرأها كما ينبغي.
الدقة والصبر والأناة والدأب جعل من طرح الربيعي يشكل قراءة عربية حديثة للمرويات التوراتيه، دون أن يقع في التعصب أو الاستعلاء، بل ترك المنهج العلمي يقوده إلى حيث يجب أن يصل. ولهذا، فإن ما فعله الربيعي لا يستحق الإحترام فقط، وإنما يستحق أن يتحول هذا الطرح إلى أحد الجهود الفكريه التي يبنى عليها إطروحات أخرى، حتى يتحول الأمر إلى رؤيه فكرية وأكاديمية. يتم تداولها بين المثقفين والدارسين. بمعنى أن لا يتحول جهد الربيعي الى مجرد مهارة لا تفيد أحداً، بل أن تتحول هذه الإستخلاصات إلى مرافعات فكرية و قضائية ضد غرب متوحش و عنصريات تجد طريقها الآن في مجتمعات الغرب المختلفه.
مرة اخرى، أعود إلى القول، إن ما فعله الربيعي هو عدم نسف أو نقض المرويات التوراتيه بل إعادة موضعتها من جديد بمنهج وعقليه "عربية" جديدة غير مبهورة ولا مدهوشة.
وللأمانة العلمية، فإن الربيعي لم يكن الاول في هذا ابداً، فهناك من سبقوه في ذلك من الباحثين العرب الكبار، كأحمد داود وكمال صليبي ومن عندنا عبد الحفيظ محارب. أما الجديد الذي قدمه الربيعي في دراسته هذه فهو عدم الاعتماد على أي تلاعب لغوي أو تشابه في الألفاظ أو الأسماء، بل أعتمد على التطابق والمطابقه بين أسماء الأمكنة والجماعات الواردة في المرويات التوراتية وتلك الواردة في الأخباريات العربية القدية، ولا نبالغ اذا قلنا إم هذا الكتاب هو اكثر اقناعاً من مؤلفات سابقة تناولت هذا الموضوع بالذات، وليس صدفة ان المراجع التي أوردها في هذا الكتاب لم تذكر اي كتاب سابق تناول ذات الموضوع، والأمر ليس صدفة كما قلنا.
وبعيداً عن الإعجاب الذي يستحقه هذا الكتاب وهذا المؤلف، فإن هذا الطرح الجريء والمدهش ما يزال في بدايه الطريق -برأيي المتواضع-. اذ ان هذه الازاحة المكانية التي يقدمها المؤلف للمرويات التوراتية وكذلك الأصول العربيه للجماعه اليهوديه، فإن هناك الكثير من الاسئلة التي تطرح من أجل استكمال هكذا الجهد الجبار، وكذلك لإخراجه أيضاً من مسأله ان يكون مهارة لا تفيد أحداً او حتى لا يتوقف باعتباره جهداً أكاديمياً لامعاً، إستعرض هذه الاسئلة ليس من قبيل الاحتجاج او التقليل من العمل، بقدر رغبتي الشخصية في الاستزادة (ولانني لم اقرأ كل مؤلفات الربيعي فقد يكون اجاب على بعضها او كلها).
سؤالي الأول يتعلق بكيفية التوفيق بين ما يطرحة الربيعي في كتابه هذا والرواية الدينية كما يطرحها القرآن الكريم، فكيف نفسر ورود كلمات صريحة وواضحة مثل مصر وفرعون، وهي رواية وجدت تفسيراتها المقررة وتجلياتها في الثقافة الاسلامية على مدى قرون عديدة.
أما سؤالي الثاني، فإن المرويات التوراتية المتعلقة في فلسطين وجدت قبل ظهور الحركة الاستعمارية بأكاذيبها الاستعمارية واللاهوتية، يعني فكرة "الصعود" إلى فلسطين كانت فكرة دينية (رمزية أو فعلية) قبل ظهور القوميات الأروبية. الترجمة العلمية لهذه الفكرة حاول تطبيقها كلٌ من يهودا القلعي في القرن الحادي عشر وزئيف شبتاي في القرن السابع عشر وما بينهما.
أما سؤالي الثالث فإن نقض المرويات التوراتية من قبل باحثين عرب وأجانب كثيرة ولا تعد، ترجم الكثير منها إلى العربية، ولكن ذلك لم يحظ بردود من المؤسسة واليهودية بأجنحتها الارثوذكسية الحسيدية، بل على العكس فأننا نلاحظ أن التفسير المشيحافي للتوراة – وهو الأعمق والأكثر عنصرية – يزداد في اسرائيل بالذات!!
هذه أسئلة للأستزادة والاستفادة، فالمشروع الصهيوني يغادر مرجعياته العلمانية إلى مرجعيات توراتية بالغة الانعزال و الانغلاق، وبالتالي، فإن هذه الدراسة والدراسات القادمة الأخرى، ستكون بالتأكيد ذات فائدة بالغة في الاشتباك مع هذا المشروع الذي لا يكتفي باحتلال الارض بل باحتلال التاريخ واحتكار الرواية ايضاً.
تحية للباحث المدهش فاضل الربيعي في جرأته وفرادته وتميزه.