الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

من أجل مكاشفة وحوار وطني شامل لمواجهة صفقة القرن

نشر بتاريخ: 06/07/2018 ( آخر تحديث: 06/07/2018 الساعة: 16:09 )

الكاتب: د. نايف جراد

يحتدم الجدل في الساحة الفلسطينية حول كيفية خوض مواجهة مع ما يسمى ب" صفقة القرن"، والنجاح في إفشالها، وهي المخطط الذي مهما زين ولمع أو أضيف عليه او انقص منه، تمثل مشروع تسوية أمريكي – إسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية، يعبر عن رؤية اليمين الصهيوني المتطرف للحل، القائم تاريخيا على رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ورفض الحل العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين بشكل عام، وبخاصة حقهم بالعودة الى ديارهم وممتلكاتهم التي شردوا منها عنوة عام 1948.
ومن الواضح أن المخطط يجري تنفيذه على الأرض علنا وخلسة. علنا من خلال الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها والاعتراف بشرعية الاستيطان وازاحة قضية اللاجئين من أجندة الحل بتصفية وكالة الغوث والعمل على نقل صلاحياتها للدول المضيفة ومن خلال إعادة التهجير والتوطين، والعمل على تكريس حلول للمعاناة الانسانية للفلسطينيين وخاصة في غزة عبر ما يسمى ب" السلام الاقتصادي" من خلال مشاريع وتنمية اقتصادية بتمويل عربي وشراكة اقليمية ودولية ، ومن خلال وقف الدعم المقدم للسلطة والسطو على أموال المقاصة لدفع تعويضات للعملاء وبدل مخصصات أسر الشهداء والأسرى، ومن خلال التهويد والاستيطان المحموم في القدس والخليل والأغوار وبقية الضفة الغربية وسن القوانين والتشريعات التي تكرس الاحتلال والفصل العنصري. وخلسة من خلال ضغوط و إغراءات تقدم هنا وهناك لكافة الأطراف ذات العلاقة وخاصة حماس والسلطة ومصر والأردن، وبتواطؤ اقليمي عربي واضح يقفز عن أولوية الحل العادل للقضية الفلسطينية وقضية انهاء الاحتلال ليكرس الحل الانساني لمشكلة غزة مترافقا مع حل المشكلة الاقتصادية لكل من مصر والأردن، و أولوية تطبيع العلاقات مع اسرائيل أمنيا واقتصاديا وسياسيا لصالح تحالف إقليمي ودولي لمواجهة ما يسمى بالخطر الايراني.
مصيدة صفقة القرن ومواقف الأطراف المختلفة
ومن الواضح أنه في سوق المزايدات والمناقصات لترويج وتنفيذ صفقة العصر هذه، يجري اللعب على واقع الانقسام الفلسطيني وشرعية المؤسسات والهيئات، والتلويح بالبدائل واللعب على وتر معاناة سكان غزة المتفاقمة، وذلك لتغذية الخلافات الفلسطينية الفلسطينية وتعزيز الانقسام ووضع العراقيل في وجه المصالحة الفلسطينية لتكريس انفصال غزة عن الضفة وفتح شهية البعض لقبول دويلة غزة التي قد تتوسع على حساب سيناء، أو لتكون هي دون توسع اقليمي ولكن مع دور خاص لمصر كمركز للدولة الفلسطينية مرتبطا بعلاقات فيدرالية مع ما سيتبقى من معازل وكانتونات الضفة الفلسطينية، على أن يحل مستقبل الضفة كليا بشكل تدريجي في إطار من التقاسم الوظيفي الفلسطيني الاسرائيلي الأردني، والذي قد يمهد لإحياء ما يسمى بالمملكة العربية المتحدة، والتي لا مانع لدى الأطراف الاقليمية من أن تضم إليها غزة لاحقا بعد أن يجري إحكام السيطرة عليها وبترتيبات اقليمية شاملة.
وحتى تتم الصفقة فمن الطبيعي أنها تحتاج لموافقة الأطراف المختلفة، وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية وحماس ومصر والأردن. وبالتالي فإن مواجهة مخطط التصفية التي تعبر عنه الصفقة منوط بموقف ودور هذا الأطراف الأربعة أساسا.
فإذا كانت المعلومات حول موقف كل الدول العربية التي زارها جاريد كوشنر وغرينبلات، صحيحة كما تروج بعض المصادر، والتي تفيد بأن الموقف العربي الرسمي رافض لصفقة القرن وغير متساوق معها، فإذن لا مشكلة ولا خوف بتاتا من جهة العرب عموما ومن جهة مصر والأردن بخاصة.
وإذا كان صحيحا أن موقف حماس، وكما جاء على لسان أكثر من مسؤول فيها أنها ترفض صفقة القرن ودويلة غزة ولا تقبل بفصل الحل الانساني عن الحل السياسي، ولا ولن تقايض فك الحصار بأي ثمن ينتقص من الحقوق الوطنية، وهي حريصة على انهاء الانقسام وإتمام المصالحة على قاعدة وحدة الدم والمصير المشترك، وفي ظل حقيقة أن موقف القيادة الفلسطينية ممثلة بالرئيس محمود عباس وموقف بقية الفصائل واضح جدا برفض صفقة القرن، ويؤكد ليل نهار على ضرورة المضي قدما في المصالحة وإنهاء الانقسام. فإذن وهنا أيضا، فلا مشكلة ولا خوف بتاتا في الجانب الفلسطيني، لأن الصفقة لن تتم وبالتالي لن تمر لا في غزة ولا في الضفة.
ولكن الحقيقة المرة، وللأسف تبين ان ما تقدم ليس دقيقا. ولو كان دقيقا لأعلنت مصر على لسان رئيسها او وزير خارجيتها أنها لا تقبل بصفقة القرن أو بحل لغزة على حساب أرضها وسيادتها، ولأعلن الأردن ذات الموقف أيضا. ولذا يمكن الاستنتاج أن معارضة مصر والأردن لصفقة القرن هي معارضة خجولة، وتستهدف تحسين شروط انخراط البلدين في هذا المشروع التسووي. ولا شك أن ضغوطات كبيرة مورست وتمارس على البلدين لقبول الصفقة والشراكة فيها، وقدمت وتقدم مغريات كثيرة للبلدين تضرب على وتر الأزمات الاقتصادية التي تعيشها، والتي بينت أنها ازمات متفاقمة، بسبب سوء الحكم والفساد وشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وبسبب الضغوطات والتدخلات الخارجية أيضا، وبسبب مفاعيل أزمات وحروب الاقليم والدول المجاورة، ولذا فهي تشكل سببا وأرضية خصبة للانتفاض على الحكم في البلدين والمطالبة بالتغيير، وهو ما شكل ويشكل نقطة رعب لدى حكام البلدين، وقد تدفعهما للرضوخ لشروط الدعم والتعاون لتمرير صفقة القرن والضغط على الفلسطينيين لقبولها كما هي أو بشروط محسنة ومنمقة، مقابل بعض المكاسب والدعم المالي ومراعاة بعض مصالح النظامين الحيوية والاستراتيجية المتعلقة بالاستقرار والأمن القومي والدور الوظيفي الاقليمي.
أما عن بقية العرب ذوي العلاقة فحدث ولا حرج. صحيح أننا سمعنا مواقف تقول بأنها مع حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة ومع قيام دولة مستقلة وعاصمتها القدس، لكننا رأينا ونرى بأم أعيننا تهافتها على إقامة علاقات مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها في شتى المجالات، وهجوم بعض رموزها على الفلسطينيين والتلميح بأنهم سيدفعون ثمنا غاليا بسبب رفضهم لصفقة القرن. ولعل الاستنتاج الأصح حول موقفهم، هو أنهم يقولون لواشنطن "نحن معكم" ولكن من المهم أن تقنعوا القيادة الفلسطينية ونحن سنساعد في ترغيبهم عبر الدعم المالي اللازم لبقاء سلطتهم، ويقولون بالمقابل للفلسطينيين: " نحن معكم" فأنتم أصحاب الشأن ونحن مع أي قرار تتخذونه. أي أنهم يلقون بالمسؤولية على الطرف الفلسطيني، وسيحملونه تبعيات وتداعيات نتيجة رفضه لصفقة القرن. ولا يخفي بعض هؤلاء قيامهم بدور الوسيط بين بعض الفلسطينيين واسرائيل، واستعداهم لتمويل أي مشاريع تضمنها صفقة القرن لغزة، كما تذهب قطر. ولعل المواقف المعلنة لسفيرها السيد العمادي واضحة بما يكفي على هذا الصعيد.
وعلى الصعيد الفلسطيني، ثمة اتهامات متبادلة خطيرة من شتى الأطراف حول التساوق مع صفقة القرن. ولعل محور هذه الاتهامات يدور حول خلفية الموقف من حصار غزة ومعاناتها الانسانية والمصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام، وصولا للوحدة الوطنية والاستراتيجية الوطنية الموحدة لمواجهة مشروع التصفية.
نعم إن المشاركة في تنفيذ صفقة القرن بأي شكل من الأشكال، أو الترويج لها، وإن الصمت والحياد أمام مخاطرها، يعد من منطلق المصالح الوطنية الفلسطينية العليا جريمة وخيانة وطنية. وإذا كان استمرار الانقسام وغياب الوحدة الوطنية فلسطينيا ومعاناة غزة الانسانية وضعف وهشاشة النظام السياسي الفلسطيني هي المنفذ الذي تتسلل منه الأطراف المختلفة لتمرير الصفقة المشبوهة، فإنه من الضروري والملح وطنيا أن تعالج هذه المسائل بمسؤولية وطنية عالية حتى تتوحد الساحة الفلسطينية رسميا وشعبيا في مواجهة المخطط التصفوي.
ضرورة المكاشفة
من أجل أن تتوحد الساحة الفلسطينية شعبيا ورسميا لاسقاط صفقة القرن من المهم الوضوح والمكاشفة على الصعيد الوطني. وهنا من المفيد التذكير، أن المسؤول الأول والأخير عن حصار قطاع غزة ومعانياته هي دولة الاحتلال المدعومة من واشنطن، ويجب أن لا تنطلي على أحد دموع التماسيح التي تذرفها تل أبيب وواشنطن على غزة. ويتحمل العرب عموما وخاصة مصر مسؤولية على هذا الصعيد، كما يتحمل المجتمع الدولي والأمم المتحدة قسطا من المسؤولية لعجزهم عن إلزام إسرائي بتطبيق قرارات الشرعية الدولية ومحاسبتها على جرائمها التي ارتكبتها بحق غزة.
أما السبب الأساسي للانقسام فهو الانقلاب الذي قامت به حماس بالقوة على السلطة في غزة عام 2007، وأن حماس المسيطرة على السلطة بالقوة والمتحكمة بكل مقدرات غزة، قد انقلبت على حماس المقاومة قبل استلام السلطة فلم تعد معها تجيد التوفيق بينهما، بل وطغت لديها المصالح والامتيازات المتشكلة نتيجة السيطرة على السلطة فوق كل الاعتبارات الأخرى، وهي وقياداتها وموظفيها ومقراتها لا تعاني كبقية سكان غزة من الحصار وقطع الكهرباء وتلوث المياة والدمار، بل وتسيطر على كل ما يصل للقطاع من مساعدات وتبرعات ناهيك عن الضرائب والأملاك وبدلات ورشاوي السفر وغيرها والتي تمكنها من العيش والعمل والبقاء دون معاناة تذكر. وحتى بعد أن تم التضييق على حماس ومن ورائها الاخوان المسلمين بعد مجئ ترامب وتشكيل الحلف الشرق أوسطي الجديد لمواجهة ما يسمى بالارهاب، والذي خلط الأمور في توصيف الارهابيين فجمع بين حزب الله وحماس وداعش والقاعدة، وشكل محاولة لاستبدال أولويات التناقض في المنطقة من التناقض مع الاحتلال الاسرائيلي الى التاقض مع ايران و"قوى الارهاب"، لجأت حماس للتكيف مع ما يجري عبر تغيير ميثاقها وتلميع صورتها عبر القول أنها انفكت عن الحركة الأم/حركة الاخوان المسلمين، وابداء استعدادها لقبول دولة فلسطينية والانخراط في منظمة التحرير الفلسطينية وانتهاج أسلوب المقاومة الشعبية. وتحت ضغط مصلحتها للبقاء في الحكم راحت تبحث عن منقذين لأزمتها، ووجدت ضالتها بدحلان عدو الأمس المستقوي بأموال ونفوذ الإمارات والعلاقة مع مصر. ووجدت مصر أن من مصلحتها تشجيع هذا التوجه لحماس وحل مشكلات غزة المتفاقمة بهدف ضمان أمنها القومي. واستثمرت الجهات المعادية هذا التطور لتضغط على السلطة الفلسطينية ولتطلق أفكار مخططاتها تجاه حل الصراع العربي الصهيوني والفلسطيني الاسرائيلي. ولذا شرعت بالعمل على تهيئة الأجواء لاستئناف المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية المتوقفة منذ نهاية أبريل عام 2014، بهدف الوصول إلى حل ل"قضية القرن" الفلسطينية عبر "صفقة القرن" التي ستجري برعاية أمريكية ومشاركة اقليمية. ويلاحظ في أن التحرك الأمريكي على هذا الصعيد قد سحب أرجل البعض للتعاطي مع مشروع الحل الجديد من خلال الترويج الاعلامي بأن ترامب في الحكم قد تراجع عن وعوده الانتخابية عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وطلبت الادارة الأمريكية من اسرائيل تجميد التوسع والبناء الاستيطاني خارج التكتلات الاستيطانية الكبرى وهي جادة في دعوتها لإنعاش الاقتصاد الفلسطيني و مسعاها للتوصل لحل مرضي في قضايا الوضع النهائي، وذلك مقابل الطلب من الجانب الفلسطيني بالعمل الجاد لمكافحة الارهاب ووقف ما يسمى بالتحريض واحكام السيطرة الأمنية على كل مناطق السلطة وأخذ التفويض اللازم للتحدث باسم كل الفلسطينيين. وعليه افترض أصحاب مشروع صفقة القرن ضرورة تمكين السلطة الفلسطينية من حكم غزة واعادة ادماج حماس في النظام السياسي الفلسطيني حتى تستطيع القيادة الفلسطينية التحدث باسم جميع الفلسطينيين في مفاوضات الحل النهائي، وهو الأمر الضروري للقيادة الفلسطينية أيضا لتعزيز شرعيتها وللاحتفاظ بوحدة التمثيل الوطني دون منازع، والضروري أيضا لحماس لفك عزلتها وحل مشكلة الحصار والأزمة المعيشية المتفاقمة في القطاع والتي تهدد بانفجار. وهو الضروري أيضا لدول الاقليم والحلف الجديد من أجل الحصول على تهدئة وتسوية للصراع مع اسرائيل يسمح بتسهيل وتعبيد الطريق للتحالف السافر معها لمواجهة ايران وحلفائها. ومن أجل دفع حماس للتراجع عن تشكيل اللجنة الادارية لقطاع غزة، التي هي بمثابة حكومة، كتعبير عن صدق نواياها تجاه المصالحة، وحتى تتراجع عن تحالفها مع دحلان وتشعر بقيمة وجود السلطة ومسؤوليتها تجاه غزة وترضخ لضرورة تسليمها قطاع غزة، لجأت السلطة لاتخاذ إجراءات اقتصادية بحق غزة مع بداية نيسان/أبريل 2017.
ومن أجل المضي قدما في مشروع الصفقة تم الضغط على قيادة السلطة لابداء الاستعداد لاستئناف المفاوضات، وتم الضغط أيضا عليها وعلى حماس للتوقيع على اتفاق المصالحة في القاهرة برعاية مصرية، وعبر ممثلو الادارة الأمريكية عن رضاهم على ما يجري، ولم تعترض اسرائيل على الأمر بشكل حاد في اشارة إلى ضوء أخضر بالمصالحة. ولكن ضرورة المصالحة الوطنية الفلسطينية، ورغم ما تقدم هي مصلحة وطنية عليا، ولذا اندفعت القوى الحية في الساحة الفلسطينية لتأييدها، والدفع باتجاه إنجاحها، لكن الأمور لم تجر على ما يبدو كما هو مخطط لها. فقد تبين للقيادة الفلسطينية لاحقا بأن حماس تناور في مسألة المصالحة وغير جادة أبدا في التخلي عن سيطرتها على غزة، بل وإن عينها مفتوحة بشهية على المنظمة أيضا، وان أصحاب مشروع "صفقة القرن" يخططون لجعل غزة مركز الدولة الفلسطينية، بحيث يمكنها ذلك من أن تحل مشكلة الانفجار الديمغرافي فيها بالتوسع في سيناء، وحل أزمتها الاقتصادية والانسانية بتنمية عى غرار نمط سينغافورة بمشاركة دولية واقليمية واسعة، وذلك مقابل شطب القدس كعاصمة وابقاء المستوطنات كأمر واقع وضم المناطق غير المأهولة بالسكان في الضفة لاسرائيل وبقاء السيطرة على الغور والحدود، وحل قضية اللاجئين حلا انسانيا عبر التوطين ودون العودة، وتغيير اطار التسوية وأولياته عربيا بحيث يصبح التطبيع مع إسرائيل أولا، وهو الأمر الذي أخذت أطراف المشروع بتنفيذه على أرض الواقع عبر ضغط على القيادة الفلسطينية بشأن الموقف من المنظمة ومكتب تمثيلها في واشنطن والموقف من الأونروا وتمويلها، ووقف المساعدات المقدمة للسلطة واعلان الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل ونقل السفارة الامريكية الى القدس بتاريخ 14/أيار مع ذكرى النكبة، وتصريح السفير الأمريكي في اسرائيل بعدم وجود احتلال وانحيازه السافر لكل روايتها المزيفة، وعقد مؤتمر في واشنطن دون مشاركة السلطة الفلسطينية وبمشاركة اقليمية لبحث حل انساني لغزة يمنع الانفجار، والتلويح بخلق بدائل للقيادة الفلسطينية وللرئيس محمود عباس تحديدا نتيجة موقفه الواضح جدا في رفض الصفقة، والترويج لسيناريوهات ما بعد الرئيس. 
ولا شك أن فئات وشرائح فلسطينية مختلفة سواء في حماس أو السلطة لم تكن راضية عن المصالحة، وعملت على وضع العراقيل أمام إتمامها. واستغلت الفرصة قوى من الطابور الخامس المرتبطة مصالحها مع الاحتلال وكذلك الذين خافوا على امتيازاتهم ومكانتهم من المصالحة، لينقضوا على عملية المصالحة ويروجوا لاحباطها، وجاءت محاولة الاغتيال الغاشمة لرئيس الوزراء د. رامي الحمد الله واللواء ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات العامة لتمثل الشعرة التي قصمت ظهر بعير المصالحة.
وهكذا لم تنجح المصالحة، ولم يتم تمكين حكومة الوفاق الوطني من أخذ دورها كاملا في غزة أسوة بالضفة، وتبين أن الكثير من المسائل تقف عقبة أمام المصالحة وخاصة مشكلة الأمن والسلاح، وتسليم أموال الضرائب المجباة لخزينة السلطة ودمج الموظفين وتأمين رواتب موظفي حماس بعد الانقلاب. ورغم كل المحاولات التي جرت لتجاوز العقبات والتدخلات المصرية، إلا أن المصالحة تعثرت ولم تنجح. ولعل المتمعن فيما جرى يدرك أن خوفا كبيرا اعترى القيادة الفلسطينية من المصالحة نظرا للأهداف الكامنة وراءها من قبل أصحاب مشروع الحل الاقليمي، ولأنها أدركت بأنها لن تستطيع السيطرة على غزة بالكامل نتيجة تمسك حماس بسلاحها وقوتها العسكرية وصعوبة إيجاد حل للمعضلة الأمنية في القطاع، وأنها لن تستطيع حل معضلة غزة الاقتصادية وتفاقم معاناتها الانسانية نتيجة عدم تمكينها من الجباية وبسبب الحصار والضغط الاقتصادي الخارجي رغم مغريات الدعم الخليجي، وستُحمل المسؤولية عن الفشل على هذا الصعيد والذي قد يرتد عليها باحتجاجات شعبية ويفجر الأوضاع بوجهها بدلا من أن تنفجر بوجه حماس أو الاحتلال، ناهيك عن عدم قبولها وتسليمها بسهولة لزمام أمور قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لغيرها، وخاصة أن المنظمة تمثل الرمجعية الوطنية العليا صاحبة الحق بمنح وتجديد الشرعية، وآخر معقل لها والاحتياطي الاستراتيجي الذي تملكه في مواجهة من يريد العودة بالوراء للقضية الفلسطينية الى ما قبل عام 1967 عبر الوصاية والاحتواء العربيين. وعلى هذه الخلفية، ومن أجل تجديد شرعية القيادة وضمان استمرارية وفعالية الهيئات والأطر التمثيلية وللرد على مشروع صفقة القرن ومعالجة الشأن الداخلي، لجأت القيادة الفلسطينية ممثلة بالرئيس عباس لعقد الدورة "23" للمجلس الوطني الفلسطيني في رام الله، والتي انتخبت لجنة تنفيذية جديدة للمنظمة وأعادت تشكيل المجلس المركزي وأعطه صلاحيات المجلس الوطني، وأكدت القرارت السابقة للمجلس المركزي التي رفضت بشكل مطلق صفقة القرن ودعت لاعتبار الفترة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقيات الموقعة في أوسلو والقاهرة وواشنطن بما انطوت عليه من التزامات لم تعد قائمة، وأكدت على الانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة الدولة، وبدء تجسيد سيادة دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران 1967 تنفيذا لقرارات المجلس الوطني، بما فيها إعلان الاستقلال عام 1988م وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وتعليق الاعتراف بإسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين، ورفض الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، ورفض أي طروحات أو أفكار للحلول الانتقالية أو المراحل المؤقتة، بما فيها ما تسمى الدولة ذات الحدود المؤقتة.كما أكدت على المضي قدما في إتمام المصالحة على أساس تمكين الحكومة الفلسطينية بشكل كامل في غزة كما في الضفة.
أما في الجهة المقابلة فقد أوضحت حركة حماس ومن ورائها حركتها الأم "حركة الاخوان المسلمين" أنه لا يمكنها التنازل عن " آخر قلعة" أو " إمارة" لها في المنطقة بعد ما فقدت سلطتها في مصر وتونس ولم تنجح في مناطق أخرى بل وانتكست كما حصل في سوريا، وهو موقف ( أي التمسك بآخر القلاع) يلقى دعما قطريا وتركيا، وهي إذ تتكيف مع المستجدات وتسعى للمصالحة فإنما تستهدف تغيير الموقف الاقليمي منها وفتح المجال أمامها للقبول بمشاركتها بالتمثيل الوطني إن لم يكن التمهيد لامتلاكه بالكامل كممثل للشعب الفلسطيني، وخاصة أنها بدأت تمهد لذلك باستحداث تشكيلات تنظيمية تمثيلية على غرار مؤتمر فلسطينيي الخارج وغيره من الأطر النقابية والمهنية التي تنازع مثيلاتها في المنظمة على التمثيل والشرعية. وانتقلت حماس من التهديد بخلق فراغ وفوضى في القطاع إذا ما جرى المس بسلطتها، إلى توجيه انفجار غزة بوجه الاحتلال مستثمرة الحراك الشعبي الذي نظم مسيرة العودة الكبرى التي انطلقت في الثلاثين من آذار ووصلت ذروة كبرى في الرابع عشر من أيار الفائت في ذات اليوم الذي نقلت فيه السفارة الأمريكية إلى القدس، وهي المسيرة التي لا زالت مستمرة إلى اليوم، وباتت مؤخرا تشوبها ثغرات في الوحدة الميدانية للقوى المشاركة وفي ادارة تكتيكاتها وتنحرف عن أهدافها نتيجة سيطرة حماس الكلية على قيادتها وتحكمها بمسارها، ودخولها في مساومات حولها.
إشغال شاغر مركز الرئيس وفك الحصار عن غزة
جاء مرض السيد الرئيس أبو مازن ليفاقم الخلافات حول إدعاء حق إشغال شاغر مركز الرئيس. واستثمرت الدوائر المعادية الأمر لترويج الإشاعات والمعلومات المغرضة، وانساق وللأسف بعض الفلسطينين معها. وانقسم أصحاب الرأي بين من يطالب بتطبيق نص الفقرة (2 ) من المادة (37 ) من النظام الأساسي للسلطة الفلسطينية، التي تنظم أحكام تولي رئاسة السلطة في حال شغور مركز الرئيس، وعلى رأس هؤلاء تقف حماس التي صدرت بيانا في 28 أيار 2018 باسم ما يسمى رئاسة المجلس التشريعي ممهورا بتوقيع نائب رئيس المجلس د. أحمد بحر، وأعقبه إقدام سلطات الاحتلال الاسرائيلي على إطلاق سراح د.عزيز دويك الذي تولى رئاسة التشريعي في دورته الأولى، والذي نقلت وكالات أنباء على لسانه مطلب تطبيق نص المادة المذكورة، القاضية بتولي "رئيس المجلس التشريعي مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتا لمدة لا تزيد عن ستين يوما تجري خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيس جديد وفقا لقانون الانتخابات الفلسطيني"، وبين من يرفض ذلك ويدعو المجلس المركزي، باعتباره أعلى سلطة تقريرية وطنية بين دورتي انعقاد المجلس الوطني وينوب عنه في حال عدم انعقاده، للتقرير بهذا الشأن، وخاصة أن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الأخيرة قد خول المجلس المركزي بكل صلاحياته وبالتالي بات المجلس المركزي جسما تشريعيا قادرا على اتخاذ ما يراه مناسبا من قرارات وإصدار التشريعات الموائمة.
وفي هذه الأثناء بالذات، تعالت الأصوات من شتى الاتجاهات تطالب بضرورة أن تعيد السلطة النظر بإجراءاتها المتخذة ضد غزة حتى لا تتفاقم المعاناة فيها ويساهم ذلك في ترويج الحل الانساني والدفع باتجاهه، وكان الرئيس عباس قد أكد في اختتام أعمال المجلس الوطني بأن رواتب موظفي غزة المقطوعة ستصرف. وثار لغط حول هذه المسألة في الاعلام وتضاربت تصريحات المسؤولين الفلسطينيين حولها، ونظمت حراكات شبابية وشعبية تركز على الأمر واستغلت من البعض للتحريض على السلطة مما استدعى قمعها واتهام المشاركين فيها بتنفيذ أجندات خارجية والتآمر والخيانة، وقمعت حماس تحركا مشابها بمشاركة وطنية أوسع في غزة، وتم تدارك الأمور لاحقا بتنظيم فعاليات للمعارضة في بيت لحم ورام الله ونابلس مرت بسلام، وتنادت فتح بالمقابل لتنظيم تظاهرات واسعة ضد صفقة القرن ودعما للشرعية قاطعتها قوى شاركت في الحراك السابق كالجبهة الشعبية. وهكذا تسممت العلاقات الوطنية من جديد وظهر لمن يراقب المشهد عن كثب أن الأطراف الفلسطينية تتخبط في سياساتها ومواقفها وإدارتها للشأن الوطني الداخلي، ولا تعير المواجهة الفعلية لصفقة القرن وللسياسات الاحتلالية التهويدية والاستيطانية الأهمية التي تتطلبها خطورتها على القضية الوطنية، والتي باتت في مراحل متقدمة لحسم مسألة وجود الدولة وتوصلها الجغرافي عبر تكريس فصل غزة والعمل على هدم وتصفية التجمعات البدوية المنتشرة بين القدس ورام الله وأريحا تنفيذا لمخطط فصل وسط وشمال الضفة عن جنوبها.
وهكذا باتت الساحة الفلسطينية أمام معضلة صعبة في مرحلة حرجة تمس المصير الوطني. الكل يدعي رفض صفقة القرن والكل يتهم الكل بالتساوق معها، والكل يحذر من الحل الانساني لغزة على حساب الحل السياسي، كما الاتهام بمحاولات الانفراد بالحل من خلف القيادة الشرعية، والكل يدعي حرصه على انهاء الانقسام وإجراء المصالحة والحرص على الوحدة الوطنية.
ما العمل للخروج من هذه المعضلة؟
وقد يستسهل البعض الاجابة ويقول بضرورة العودة لاتفاق المصالحة عام 2011 وتفاهمات 2017، والتزام الجميع بتنفيذها وخاصة تمكين الحكومة بشكل كامل، وقد يقول البعض بضرورة اللجوء لصناديق الاقتراع لانتخاب المجلس التشريعي والرئيس والمجلس الوطني بمشاركة الجميع، والعمل من أجل أن تقرر الهيئات المنتخبة الاستراتيجية الوطنية للمرحلة اللاحقة. ولا زال البعض يعول على الوساطات العربية من هنا وهناك. كما ويعول البعض على بعض المخارج للوضع السياسي المتأزم عبر النجاحات في تدويل القضية وتدخل المجتمع الدولي والأمم المتحدة من أجل عقد مؤتمر دولي جديد على غرار مؤتمر مديد عام 1991، وهو الأمر الذي يعمل عليه الوسيط الدولي السيد ملادينوف، أو الذي تعمل عليه الحكومة البريطانية بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية.
من أجل حوار وطني شامل
لا شك أن الكثير من المسائل التي تثير الشكوك بين مختلف القوى في الساحة الفلسطينية مردها لعدم الثقة التي تراكمت عبر سنوات الانقسام منذ أوسلو عام 1993 ومن ثم انقلاب حماس عام 2007 وكذلك للتدخلات الخارجية التي تريد فرض الوصاية من جديد على الشعب الفلسطيني، وبالتأكيد للاجتهادات المختلفة حول المواقف والسياسات والتكتيكات اللازمة لمواجهة التحديات والتهديدات والإدارة الأمثل للشأن الوطني الداخلي في قضية معقدة كالقضية الفلسطينية ذات الأبعاد المتنوعة.
ولا يعتقدن أحد أنه بمنأى عن الأزمة الوطنية المتفاقمة وتداعياتها، فالكل شاء أو أبى مأزموم بهذا الدرجة أو تلك، والأزمة الوطنية العامة تطال الجميع. وثمة اجتهاد وخلافات كبيرة حول النام السياسي الفلسطيني والمصالحة وكيفية انهاء الانقسام وحول أشكال النضال وعلاقة الدولة والمنظمة والسلطة، وخصوصيات تجمعات الشعب الفلسطيني وأولوياتها، وغيرها من المسائل الجوهرية، التي يتوقف على إمساك معادلاتها الصحيحة مصير الشعب الفلسطيني. وباعتقادي أن لا سبيل لحل هذه المعضلة إلا بمكاشفة وطنية جريئة عبر حوار وطني شامل يجمع كل القوى السياسية والفعاليات والشخصيات الوطنية المؤثرة والوازنة، ذاك الحوار الصريح والواضح والشفاف الذي يشرك أوسع الأطر الشعبية والجماهيرية ويحتكم للشعب الفلسطيني، والذي يضع نصب عينيه ضرورة توحيد كل الجهود والطاقات لمواجهة التناقض الرئيسي المتمثل بالاحتلال الاستيطاني الاستعماري الصهيوني المدعوم أمريكيا.
لقد شكل الحوار بين فصائل وقوى العمل الوطني وفعالياته المؤتلفة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية في مراحل سابقة، وسيلة فعالة لاستعادة الوحدة الوطنية والحفاظ عليها وتعزيزها، وكانت الساحة الفلسطينية تتجاوز أزماتها باستمرار بفعل الحوار الوطني المسؤول. وإذا كان الحوار الوطني سابقا، قد شكل ضرورة وطنية، فإنه اليوم في ظل الانقسام والتحديات الجسام قد بات مسألة مصير، ترتبط بها وبشكل وثيق قدرة شعبنا على الخروج من الأزمة المستفحلة والنجاعة في مواجهة صفقة القرن المشؤومة.
وعليه أدعو الرئيس محمود عباس لتولى المبادرة في الدعوة للحوار الوطني الشامل قبل انعقاد الدورة القادمة المجلس المركزي، وأن يكلف لجنة من المعنيين لمتابعة ذلك، كما أدعو كل الفصائل والقوى الوطنية والاسلامية والفعاليات والأطر الشعبية لتأييد هذا التوجة وابداء الاستعداد الجدي والحرص على تهيئة كافة الظروف والشروط المناسبة لانجاح الحوار.
إن الظرف الوطني الحرج، وخطورة المرحلة التي نمر بها كشعب فلسطيني، والتهديد الخطير للوجود والمصير الوطني الذي نواجهه، لا يحتمل ترف الكلام، ولا التمترس وراء المواقف المسبقة، بل يستدعي تلبية المصلحة الوطنية الملحة للحوار الوطني الشامل بمسؤولية وطنية عالية تتعامل معه كمبدأ أصيل من المبادئ التي تحكم ويجب أن تحكم العلاقات الوطنية، والوسيلة الأمثل لحل الخلافات بالأساليب الديقراطية والنقاش البناء، الذي يكرس العقلانية والمكاشفة والجرأة والشجاعة على الاعتراف، كسبيل للتبصر بالذات وتحصينها. وعلى الجميع أن يضع نصب عينيه تلك التضحيات الجسام التي قدمها ولا زال يقدمها شعبنا على مذبح الحرية والاستقلال والعودة، والتي من العار أن تذهب هدرا على مذبح صفقة القرن.