الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

"وارث الشواهد"رواية الكاتب وليد الشرفا: إعادة إنتاج مبدعة لروح المكان

نشر بتاريخ: 28/07/2018 ( آخر تحديث: 28/07/2018 الساعة: 16:40 )
"وارث الشواهد"رواية الكاتب وليد الشرفا: إعادة إنتاج مبدعة لروح المكان
الكاتب : المثنى الشيخ عطية
على حدثٍ صوّره الإعلام الإسرائيلي جريمةَ قتلٍ عنيفة بشعةٍ لشرطي إسرائيلي، تمت من قبل دكتور تاريخٍ أكاديمي فلسطيني، (كان خائناً و جاحداً في رد جميل إسرائيل التي سمحت له بدخول حيفا مرافقاً لجده من أجل العلاج)؛ يبني الروائي والناقد الفلسطيني الدكتور وليد الشرفا روايته الرابعة وارث الشواهد ، بتصميم محكم وتطور طليق مقنع للشخصيات، وبهيكلية مبتكرة التداخل والتناوب، يستخدم فيها:
ــ مقدمةً للكاتب، يُدخل فيها القارئَ كشريك في المعجزة لكنه ليس شريكاً في الإثم ، معجزة دخول القارئ عقل بطل الرواية الأول: صالح سليمان الصالح الملقب بالوحيد ، وتتبع أحلامه ورواياته إلى درجة أن يصبح أقرب إليه من حبل الوريد. وهو ما سيحدث غالباً، إذ يُحمّل الكاتب بطله صفات مسيح آخر مميز بمعجزة معرفة التفاصيل المجهولة في حياة القضاة الذين يحاكمونه ويرعبهم في أرض المعجزات فلسطين، مع استخدامه لأسلوب سرد التنبؤ بالمستقبل في روايته الماضي، فاتحاً بذلك المجال للقارئ أن يكون شريكاً في نقل الذكريات وتجميدها لإعادة إنتاج الروح وفقاً لرؤاه في تلاقح الروايات المدمر حول الإله والأنبياء في الديانات التوحيدية الثلاث.
ــ أربع رواة في سرد الرواية، هم: الوحيد في سرده عن نفسه وأبيه وجده؛ الطبيب بشارة في سرده عن الوحيد وعن تحولاته إليه؛ ريبيكا، زوجة الوحيد الأمريكية في سردها عنه، واهتدائها به؛ وجوليانا بشارة، في سردها عن أبيها وتسجيلها تفاصيل محاكمة الوحيد وأبيها كشريكين في الجريمة.
ــ واحداً وعشرين عنواناً للفصول، لا تربك الرواية بقدر ما تلعب دور جسور في وصل تسلسلها.
في هذه الهيكلية المرنة (التي يقيد بها وليد الشرفا أرواح شواهده المعرضة لريح الفناء، بفخاخ الكتابة كي يُحْييها في أرض المعجزات فلسطين، مثلما أجاب عفريت من الجن نبي الله سليمان)؛ تتحرك مضامين الرواية، في فضاء سردي آسر وفاجع بذات الوقت لمأساة تهجير الفلسطينيين عام 1948، من خلال حياة طفل فلسطيني في الرابعة. إنه يعيش مع أبيه وأمه وجده المهجرين في البيت الذي بناه جده في نابلس بشبه لبيته الذي تم تهجيره منه، في عين حوض بحيفا، ويسمع نبأ قتل أبيه مدرس التاريخ الوسيم المسالم، على حاجز إسرائيلي في نابلس خلال حرب عام 1967، ودفنه عشوائياً في المكان. كما يشهد جثة أبيه وهي تُنقل بعد سنتين إلى بيت جده في نابلس، ويربكه خوف أمّه عليه من أن يناله نفس المصير، وتتغلغل فيه روح بيت جده الأول الذي عمره بيديه كبيت للتآلف الأخاذ بين البحر والسهل والجبل، من خلال روايات جده عنه. وهكذا يعيش من خلال كل هذا في حياته المتقدمة، حالة تشوش بين مكانين وقبرين، واحدٌ ولد فيه وتشوش بحبه الكامل له، هو نابلس، وواحد أعاد استنساخ حكايته وتقمصها ، هو بيت جده الذي سرقه الإسرائيليون بجماله وحولوه إلى بيتٍ للفنانين المهاجرين من اليهود الذين لا يعرفون حتى اسم المكان. كما يعيش حالة التشتت التي تطبع أجيال فلسطينيي المخيمات، في كل سرديات حياته.
ويرتقي سرد هذه المضامين إلى محاولة استعادة المكان المسروق/ فلسطين، من قبل أهلها الفلسطينيين على اختلاف أديانهم، وتسلسل أجيالهم: الجد الذي يزرع صورة المكان في روح الحفيد، ثم المؤرخ/ الوحيد، الذي يعاني التشتت؛ ثم بشارة/ الطبيب الفلسطيني الحامل للجنسية الإسرائيلية، الذي تتخلخل معتقداته حول التسامح مع إسرائيل بعد قول الوحيد له: إن سؤال العدالة أهم من سؤال المحبة يا بشارة ، وتصيبه عدوى المؤرخ في حمل رسالة جمع الشواهد وتثبيتها، بعد سجن الوحيد؛ ثم ابنتيهما الممثلتين للأجيال اللاحقة.
ولا يحدث هذا بجمع شواهد قبور من ذهبوا ضحية اغتصاب فلسطين زمن النكبة فحسب، بل بجمع وتعليق صور شهدائها من المثقفين والكتاب والفنانين والفدائيين الذين اغتالتهم إسرائيل خلال مقاومتهم لاحتلالها: صلاح خلف، وديع حداد، غسان كنفاني، كمال ناصر، خليل الوزير، وائل زعيتر، صبري الشريف، إسماعيل شموط، ناجي العلي، وأبو عرب. وأكثر من ذلك يحدث في استعادة فلسطين بتفاصيلها، وعرض استعادة الذين تغربوا عنها من عرب 48، لذواتهم، كما يشرح بشارة حالة تحوله: الطبيب الذي يعيش عدوى الشواهد مع الوحيد يريد أن يضع شاهداً لكل قبر في مقابر فلسطين قبل تأسيس إسرائيل ؛ فالكتابة عن التاريخ الأصيل أولى من الكتابة عن التاريخ الطارئ. قبر الطفل إبراهيم هو القبر الأول عند الزاوية الجنوبية لمقبرة الاستقلال مقابل باب مسجد الاستقلال نحو الجنوب الشرقي. بدأت أسمع وأستعيد هذا التاريخ مما كتب عن الأيام الأخيرة قبل سقوط حيفا من المؤرخين الفلسطينيين. كانت الذاكرة هنا علاجاً لمرض الموت. لا يمكن نقل الخلايا في الطب، لكن يمكن نقل الذكريات والروايات والحالات. كنت أقول للوحيد: لدي حالات ولديك روايات، فيهز رأسه قائلاً: الروايات تصبح حالات يا بشارة .
والأهم، في كل ذلك، وبالعمق المشغول بحرفية ملفتة، وثقافة عميقة لا تبعد عنها تأثيرات إدوارد سعيد ومحمود درويش، في الاستشراق وفي النظرة لتشكل الهوية الغربية وفقاً للروايات الدينية، يبلغ ارتقاء المضامين ذرى رفيعة في طرح تفكيك الروايات التي تلاقحت مع الإلهي المقدس، لتصنع ضحاياها، باسم الرب: بعد أن استجاب اليهود لدعوته لهم بعد ثلاثة آلاف عام بقتل جيرانهم ، وحيث: وحدها تلقيحات روايات الرب في عقول اليهود تحولت إلى عرق، وبعد اختراع البارود تحولت إلى جغرافيا! ، إضافة إلى طرح محاولة الخروج من الأسطورة، وكشف زيف الهوية الإنسانية الغربية التي لم تغادر صكوك الغفران، وإنما نقلتها جغرافياً مرتين، مرة بذبح الهنود الحمر، باسم الرب المسيح الذي تحول إلى آلة قتل، وهو الفلسطيني المنشأ، ومرة عندما سمح لليهود بإلغاء تاريخ الفلسطينيين وطردهم وتقتيلهم استجابة لأمر ما قبل المسيح …
وكتجسيد عميق لمضامين تلاقح الروايات، واختلاط الأساطير المربك، الذي يحاول تفكيكه في تداخل الأزمنة، يقوم وليد الشرفا، بمغامرة جسورة لا تخلو من المخاطرة على صعيد شكل السرد، فيستخدم أسلوب السرد الاستشرافي المعبر عن المستقبل في سرده للماضي، مع تناغم لغوي تحلق فيه الكتابة بأجنحة الشعر عند اقتضاء الحالة: ستدعوني إلى العشاء في منزلها. صورة كبيرة لشكسبير على الجدار، وصورة أخرى لجبران. سنتناقش في مفهوم النبي والابن. كنت قد عدت من يوم عمل طويل مع خالي، ستطلب مني أن آخذ حماماً ساخناً… ستسرح وتميل برأسها إلى كتفي، كانت ترتدي روباً ذهبياً، أطرافه سوداء مزركشة، سرحت شعرها كما أحب. أبرزت إحدى أذنيها .
ولا يكتفي وليد الشرفا من خلال تداخل سرده، وعيش التشتت المأساوي لذوات شخصياته، بتوريط قراء وارث الشواهد في عيش تشتت ذواتهم، وخلخلة قناعاتهم بأساطيرهم، دون أن يشير إلى شياطين الإسرائيليات التي تختبئ في كتبهم فحسب، بل يضيف لهم متعة اكتشاف إيجادهم طرق لملمةٍ للذات، ليس أقلها إعادة إنتاج الروح، بتثبيت شواهد الذكريات، ولا يقصر عنها معنى الإحساس بالكرامة، المتمثل في ما قالته ابنة بشارة التي طلب منها أبوها تسجيل تفاصيل محاكمته كشواهد مع الوحيد، للجدة بعد خروجهما من المحكمة، متأثرةً: ما لن أنساه من المحكمة يا جدتي هو جواب والدي للقاضي عندما هدده بسحب الجنسية الإسرائيلية منه عندما قال: ماذا سأخسر؟ سأعود فلسطينياً نقياً .
وارث الشواهد ، الرابعة للمؤلف بعد محكمة الشعب ، اعترافات غائب ، و القادم من القيامة ، هي رواية عميقة وممتعة، مشغولة بجهدٍ وشغفٍ ومحبةٍ مفتوحةٍ للمكان؛ وهي مهمة بحق، ونالت بجدارة وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.