الخميس: 18/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

ناجي العلي نجا بشهادته من ذل المرحلة

نشر بتاريخ: 27/08/2018 ( آخر تحديث: 27/08/2018 الساعة: 13:38 )

الكاتب: خالد الفقيه

مع نهاية آب من عام 1987 أسلم ناجي العلي فنان الكاريكاتير الفلسطيني اللاجيء من مسقط رأسه قرية الشجرة في الجليل الفلسطيني المحتل عام 1984 الروح ليصعد إلى عليائه تاركاً خلفه أكثر من أربعين ألف رسمة كاريكاتير إستقطبت في حياته وبعد رحيله المتلقين لما حملته من روح إستشرافية للقادم وتحليل عميق للواقع الذي خبره وعايشه في المنافي التي حطت رحاله فيها من حقول حمضيات الجنوب اللبناني فمخيمات الشتات هناك وصولاً إلى عاصمة الضباب لندن حيث كانت نهاية الحياة وولادة الخلود مروراً بصحارى النفط في الخليج.
أدرك ناجي الفكرة مبكراً وعبر عنها برسوماته في زنازين الأمن اللبناني التي كان يحل عليها ضيفاً وهو فتى يافع ليواجه المزيد من القمع كلما إستثارت خربشاته بالفحم على جدران الزنزانة حراس الأمن وبعد خروجه من المعتقل تعمق وعيه في أزقة المخيم وبنى نظرته للمستقبل بتبنيه فكرة أن المخيم المرجل الذي تنمو في أحشائه الثورة فكانت رسمته الأولى التي نشرها الشهيد الأديب غسان كنفاني عندما رأها في زيارة له لعين الحلوة، الرسمة كانت عبارة عن خيمة تنبلج من قمتها قبضة الحرية لينطلق بعدها في االرسم الكاريكاتيري بالأبيض والأسود الذي خلد من بعده.
حدد ناجي وجهته "كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي ... أنا أعرف خطاً أحمراً وحداً ... أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة استسلام وتنازل لإسرائيل... هكذا أفهم الصراع أن نصلب قاماتنا كالرماح، ولا نتعب."، تأثر ناجي منذ نعومة أظافره بأصوله الفلاحية حيث نزل مع والده وأسرته إلى الحقل مبكراً، الأمر الذي يفسر فيما بعد حضور الأرض وعشقها في إبداعاته الفنية، وعندما كان في عمر العشر سنين حدثت الحرب المعروفة بالنكبة، وكانت قرية الشجرة إحدى ساحاتها. قتل اليهود وشردوا السكان وهدموا البيوت وأزالوا معالم القرية عن الوجود. استشهد العديد من المدافعين عن الشجرة ومنهم الشاعر الوطني، عبد الرحيم محمود. رغم حداثة سنه عند سقوط فلسطين عام 1948، إلا أنه أكد فيما بعد تأثره بما رسخ في ذهنه من مجازر، ومنها استلهم بعض رسوماته.
حياة المخيم لجيل ينحدر من الأصول الفلاحية القروية كانت صعبة، وكان على ناجي وباقي اللاجئين الفلسطينيين التأقلم مع واقعهم الجديد الذي أستُبدلت فيه منازلهم بخيم وزعتها وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة التي أنشئت بقرار دولي بعد حرب عام 1948 وما نتج عنها من تشريد لمئات الآلاف من الفلسطينيين. وفي ظل هذا الواقع المستجد تبلورت بدايات الوعي الأولى لدى ناجي.
اكتسب ناجي العلي مهاراته وصقلها لوحات كاريكاتيرية من واقعه الذاتي كلاجئ مشرد من وطنه بقهر السلاح، فقير تائه في أزقة المخيمات. استثمر العلي الظرف الموضوعي الذي توفر في لبنان من حيث لقائه بالأديب كنفاني وبأبي ماهر اليماني، وانخراطه في صفوف حركة القوميين العرب، واعتقاله أكثر من مرة في لبنان، الأمر الذي وفر له خميرة أساسية للانطلاق بريشته معلناً تمرده على واقعه وواقع أبناء شعبه المشردين.
كانت رسومات ناجي العلي قبل عام 1969 وخطوطه تأخذ عدة أشكال ذات دلالات رمزية واضحة ترتبط بما يريده هو شخصياً، لكن في هذا العام أوجد رمزه الخاص الذي لازمه حتى وفاته والمعروف باسم حنظلة، والذي قدمه لجمهوره بشرح وافٍ على صفحات جريدة السياسة بتاريخ 13/08/1969. في تقديمه للقارئ، لخص ناجي همومه كمواطن عربي ووجد في ولده كما كان يحب أن يسميه إلهامه. بدأ ناجي في جريدة السياسة يشعر بأنه محاصر وأن هامش الحرية الذي كان يمرح فيه داخل الطليعة الذي كان يتمتع به اثناء عمله فيها قبل انتقاله الى جريدة السياسة بات ضيقاً، وكان يقدم العديد من الرسومات يومياً للإدارة حتى تجيز له إحداها، فركز فنه في هذه الفترة على القضية الفلسطينية، وواكب أحداث أيلول وخطف الطائرات، وموت الرئيس جمال عبد الناصر، وكان لاغتيال الأديب غسان كنفاني في بيروت وقع الصدمة على ناجي فأدرك أن الموت بات يقترب منه أكثر.
عايش ناجي برسوماته الحرب الأهلية في لبنان والاجتياح الإسرائيلي وخروج الثورة من بيروت ووجه نقده لكل ما من شأنه حرف البوصلة عن فلسطين فتناول الجميع حمل ناجي في رسوماته وحمل سقوط صيدا وقبلها جنوب لبنان بأيدي القوات الإسرائيلية لما أسماه التخاذل العربي والتآمر على تصفية المقاومة وتهيئة الأجواء لبدء التسويات السياسية التي وقف ضدها طوال حياته وفي مواقف كثيرة بعد ذلك، وصف ناجي ما شهده من مجازر، ومن مقاومة باسلة أبداها الفلسطينيون في المخيمات. وقد كتب حول هذا: "جيلنا أعطى ولكن حجم المؤامرة علينا كان أكبر. الواقع العربي خدم أعداءنا، الواقع الدولي ومسائل أخرى كثيرة... شعبنا لا ينقصه قيادة بل حزب، حزب يملك دليلاً نظرياً كاملاً يبدأ من نقطة الصفر. لو فهم من كلامي أني غير راضٍ عن الثورة سأقول لك نعم أنا غير راض" .
أدرك ناجي أن دوره بات يشبه دور المؤذن المطلوب منه تحريض الناس وإشراكهم في تحمل المسؤلية تجاه ما يدور حولهم. أدرك كذلك أن مهمته بالتبشير في الثورة يمكن أن تحدث في أي مكان، وجد ناجي ضالته في صحيفة القبس الكويتية التي كانت ذات ميول ناصرية وقتها، وشهرته كفنان كاريكاتير سطعت عربياً أكثر منه عالمياً وذلك لعدة أسباب: "عامل اللغة وصعوبتها للقارئ الأجنبي، طبيعة المواضيع التي يتناولها في رسومه، وهي في الأساس محلية تخص الشارع العربي، عدم التزامه بأي تنظيم سياسي بشكل أداة دعائية لإشهاره، الحصار الذي تفرضه الصحف الإمبريالية على إنتاجه بسبب خضوعها للدعاية الصهيونية" . مع هذا وصف ناجي في صحف غربية بأنه واحد من أشهر رسامي الكاريكاتير على مستوى العالم.
أغتيل ناجي مرتين المرة الأولى في لندن أثناء توجهه إلى جريدة القبس الدولية وذلك في شارع ايفز EVES بعد أن أوقف سيارته على جانب الشارع. وتفيد العديد من الكتابات والتحقيقات أن شاباً أسمر البشرة اقترب منه بعد ترجله من سيارته وأطلق الرصاص على رأسه قبل أن يلوذ بالفرار من المكان وذلك صبيحة يوم الأربعاء الموافق 22/07/1987. أدخل ناجي العناية المكثفة في أحد المشافي البريطانية وبقي فيه إلى أن وافته المنية يوم 29/08/1987. تم دفنه في الثالث من أيلول من ذات العام في مقبره بروك وود Brook Wood، ووري الثرى في قبر يحمل الرقم 230190. أقفلت السلطات البريطانية ملف التحقيق في ظروف اغتياله.
أما الاغتيال الثاني فكان عقب اغتياله المؤثر كتب الكثيرون عن ناجي تخليداً له، وبكاءً عليه، كان من بين من خلدوا ذكراه الفنان الرسام و النحات اللبناني شربل فارس الذي صنع له نصباً في الذكرى السنوية الأولى لرحيله بعد عمل استغرق عدة شهور. أكمل شربل النصب ووضعه على المدخل الشمالي لمخيم عين الحلوة الذي ارتبط ناجي به وجسده في العديد من رسوماته، إلا أن التمثال الذي بلغ ارتفاعه 275 سم وعرضه 85 سم تعرض للتخريب والتفجير وإطلاق الرصاص عليه ومن ثم الاختفاء عن المكان الذي وضع فيه.
لم يترك ناجي قضيةً أو شريحة في نضاله ضد الظلم إلا وتناولها موظفاً الموروث الثقافي والحضاري واللغة بفكها وتركيبها ليصنع لذاته لغة خاصة عابرة للغات والثقافات حتى صارت رسوماته من بعده حاضرة في كل الميادين والمواقف، دفع حياته ثمناً لمواقفه كونه لم يهادن ولم يساوم ولم يطوع ريشته في خدمة الريع النفطي أو السلطان السياسي فعاش مشاكساً ورحل على عهده بالإنحياز للفقراء والمحرومين حاملاً معه مظلومية المسحوقين إستشرف المستقبل الحالك وتنبأ بالقادم فبشر بانتفاضة الحجارة وبهرولة العرب للحضن الصهيوني وبالإقتتال الأخوي وحذر من الفكر التكفيري ومن زواج رجال الدين بالسلطان لقهر الجموع وترجل قبل أن يرى ذل المعاش وآلم الناس، فله في عليائه السلام.