السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

نحو صياغة عقد إجتماعي إعلامي

نشر بتاريخ: 23/10/2018 ( آخر تحديث: 23/10/2018 الساعة: 17:28 )

الكاتب: د.ابراهيم الشاعر وزير التنمية الاجتماعية

ربما نتفق أو نختلف أن المجتمع الفلسطيني يشهد في الآونة الأخيرة تحولات اجتماعية عميقة ومؤثرة، وهذه التحولات تفرض نوعا من اختلال المعايير التي بدورها تؤثر بصورة غير معهودة على مكانة القدوة او المرجعية وتهشيمها بمستويات مختلفة. معظم ذلك يدور من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، فأحيانا نصبح على أخبار تهز مكانة الأم أو الأب في العائلة، أو تشوه دور المعلم في المدرسة، أو تنال من سمعة عالم أو حكيم أو مسؤول كبير في مجتمعه، وأحيانا أخرى نمسي على أخبار فيها تحريف أو تضخيم أو تأويل لكلمة هنا او حدث هناك! لنجد أنفسنا في خضم سِجال الثنائيات القاتلة، ولندخل دوائر الحلال والحرام والمباح والمحظور، ويصل الأمر أحيانا الى تدخل البعض ليفتي ويحكم دون علم أو دليل تحت شعار الحرص على منظومة القيم أو الوطن أو الدين، ليتضح لاحقا بان كل ما قيل هو محض افتراءات واشاعات هدفها النيل من سمعة ذلك الانسان دون الاكتراث بما سيترتَّب عن ذلك من تداعيات.
نحن نقر بأننا نعيش في مرحلة تشهد كثيراً من الضغط على الموروث القيمي، حيث تدفعنا مواقع التواصل الاجتماعي من حيث ندري او لا ندري إلى كيانين منفصمين: عالم الخيال الناتج عن افرازات الفراغ الافتراضي، وعالم الواقع الذي نحيا ونكابد حقيقته، الأمر الذي يدعونا الى ضرورة إعادة النظر في بعض عناصر الموروث الاجتماعي والثقافي السائدة، وتقييمها بموضوعية في ضوء ما يجري في العالم من تحوُّلات وأحداث، وترسيخ القيم الايجابية والتخلص من الموروث السلبي لأنه في النهاية لا يدخل في اطار القيم والاخلاق الكريمة.
ربما يتناسى بعض المنخرطين في السِّجالات، سواء داخل وسائل الإعلام أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي ابسط قواعد نقل الأخبار والتحقق من مدى صدقيتها وأهميتها، لذلك كثرت اليوم المعارك المفتوحة في مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا يدفعنا للترحم على أيام الصحافة الورقية ومصداقيتها، مع الاشادة ببعض المواقع الصحفية الالكترونية المهنية التي ما زالت تتحرى أخبارها بجدية وموضوعية وتتمتع بثقة الجميع وتعتمد توازنا معقولا بين سرعة نقل الخبر وتحري الدقة دون المساس بحرية التعبير عن الرأي.
طبعا تزداد حساسية السِّجَال في المشهد الاجتماعي والثقافي في فلسطين لارتباطه بسياق تطورات سياسية حرجة وهجمة مسعورة على المشروع الوطني الفلسطيني وحصار سياسي ومالي هدفه النيل من الثوابت الوطنية وتجذير الانقسام وتهويد القدس وعزلها وتهجير أهل باديتها قسرا والمساس بحق العودة للاجئين، وهذا يتطلب معالجات حكيمة وهادئة للملفات الداخلية، والابتعاد قدر الامكان عن الانشغال بقضايا هامشية على حساب القضايا المركزية.
وهذا يتطلب على المستوى الفردي بناء ثقة عالية واحترام متبادل بين المسؤول والمواطن والمعلم والطالب والكبير والصغير، وعلى المستوى المؤسساتي يتطلب ترسيخ علاقات متوازنة ومتكاملة بين قطاعات المجتمع المدني والحكومة مبنية على أساس المواطنة الايجابية المشتقة من فهم عميق لمعنى الوطنية التي تعني حُب الوطن، وتعني العمل على إعلاء شأنه والمحافظة عليه.
فلسطين قدمت وتقدم للعالم نماذج يعتدّ بها في المواطنة وتحمل المسؤولية والإجماع الوطني، تماما كما هو نموذج الصمود الفلسطيني في الخان الأحمر والذي نأمل أن يؤسس لمرحلة جديدة من العمل الجماعي بروح المواطنة وبروح المسؤولية والتعاون والحرص على المصلحة الوطنية. هذا النموذج وغيره الكثير من النماذج المشرقة في العمل المشترك بين ما هو رسمي وما هو شعبي بحاجة إلى مراكمة وتجسيد كي يعزز مجتمعنا الفلسطيني بكل مكوناته بهاءه وتميزّه، ولكي يعتز كلّ فلسطيني بمواطنته وبانتمائه لهذا الشعب العظيم. هذا ما يجب الحرص عليه وتقديمه كنموذج وكدرس يتعلم منه أطفالنا وأجيالنا القادمة.
من الصعب لأي تجربة ديمقراطية أن تثمر ويرتقي أهلها الى مستوى التحديات دون توفر حد أدنى من الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي لدى المواطن بضرورة احترام قواعد العملية وأصولها وبضرورة تقبل النقد البناء وعدم المساس بحقوق الأخرين، بما يسهم في تحصين المجتمع ضد التحديات وترتيب الأولويات وعدم فقدان البوصلة.
وهنا كلنا أمل أن نتمكن كأفراد وكمؤسسات من فهم مغزى استخدامنا لمواقع التواصل الاجتماعي، وأن لا نسرق أدوار الخبراء والمختصين وننساق وراء الفوضى والاستهتار في نقل المعلومة على حساب الدقة والمصداقية والمهنية المطلوبة في نقل الاخبار والمعلومات، حتى نستعيد الثقة فيما بيننا ونحافظ على قدسية مهنة الصحافة والاعلام لنستقي معلوماتنا من اعلاميين مؤهلين ومسؤولين ومن مصادر موثوقة، بعيدا عن المروجين والدخلاء صونا لنسيجنا الاجتماعي وتعزيزا لموروثنا القيمي والاخلاقي وحفاظا على مشروعنا الوطني.
فلسطين لجميع مواطنيها، وشعبها متسامح ومحب للحرية، وهو مميز وقادر على البناء والعطاء، والمسرح السياسي الفلسطيني يسمح بالعمل الديمقراطي التشاركي وبالنقد البناء وبحرية التعبير عن الرأي، الذي هو أصلا محصلة طبيعية لخبرة تراكمية، والحكومة الفلسطينية (من خلال تجربتي المتواضعة) معنية بإشراك أكبر عدد ممكن من قطاعات المجتمع في النشاط السياسي المباشر وغير المباشر لضمان حقوق المواطنين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال ممارسة أدوار تخدم المصالح الوطنية الفلسطينية في اطار سياسي وطني ملتزم في توجهاته وأعماله، ويؤمن بالحقوق والواجبات ويحترم الشراكة والمساواة والادماج، ويُقدِّر العلماء، ويدعم الشباب، ويعزز مشاركة النساء، ويرعى الأطفال، ويوقِّر كبار السن، ويحمي الفقراء والمهمشين ويحترم المواطنة بمعناها الواسع والايجابي.
أخيرا وليس آخرا، فلسطين بحاجة ماسه لعقد اجتماعي إعلامي يؤسس لمواطنه ايجابية وقيم وأخلاقيات تليق بفلسطين ومكانتها. علينا ان نعمل جميعا وفق مسؤولياتنا من أجل بناء مجتمع فلسطيني متماسك متضامن متكافل لتبقى بوصلتنا موجهة نحو تحرير فلسطين وبناء الدولة المستقلة بعاصمتها القدس.