الثلاثاء: 23/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الأسرة "حاضنة الأعمال والمهن" الأولى تاريخياً وتثقيفياً وتنموياً

نشر بتاريخ: 09/11/2018 ( آخر تحديث: 09/11/2018 الساعة: 11:28 )

الكاتب: صخر سالم المحاريق

أكاديمي ومختص في التنمية المستدامة والموارد البشرية
عندما نتحدث - عزيزي القارئ - عن مرحلة البناء والتكوين لأي مجتمع، فإن الأسرة هي المؤسسة الأولى التي تظهر في كافة المجتمعات، كأول منظومة في السجل التاريخي للجنس البشري وغير البشري على حدٍ سواء، والتي تكونت وتأسست لغايات لم شمل الأفراد، ضمن إطارٍ تنظيمي على هيئة جماعةٍ متناغمةٍ ومتكاملةِ العناصر، متسقة ومرتبةِ الواجبات، والمهام، والمسؤوليات، وذلك بشكلٍ فطريٍ وبدون قوانين ولوائح مكتوبة، وكمرجعية لتنظيم ذلك كله، قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً (النساء:1.
إنَّ المختصينَ من علماءِ الاجتماع، وعلماءِ النفس، والأطباءِ يؤكدون جميعهم في دراسة الجانب السلوكي والتفاعلي للإنسان، وبكافة مكونات بيئته البشرية والمادية، بأن الأسرة هي مصدر ومنبع ذلك التكوين السلوكي، والمتمثل في الطبع والتطبع الناتج عن هذا التفاعل مع بيئته ومكوناتها سالفة الذكر، فالمدركات والمكتسبات الأساسية والأولية من لغات، ومهارات أساسية، والتي تقود في مجموعها لهذا التكوين؛ ما هي إلا محاكاة بين الطفل وعناصر بيئته الأسرية، في إطارٍ ضيقٍ ومغلقٍ كبداية لتلك العملية التفاعلية مع بيئته المجتمعية، ومفتوحٍ على مصراعيه، والمُسْقَطُ على هيئةِ كيانٍ تتلاطمُ أمواجهُ مداً وجزراً في ظلِ علاقةِ تأثرٍ وتأثيرٍ متبادلة بين البيئتين السابقتين، بحيث تنتقل من الآباء إلى الأبناء، في ظلِ ظروفٍ متشابهةِ الصفاتِ، مع بعض الفروقِ البسيطة، وكسلسةِ تعليمٍ تلقائي وعفوي في معظمِ الأحيان، بحيث يكون أقربَ إلى اللاوعي في حالاتٍ كثيرةٍ وخصوصاً أيامنا هذه، على إثر دخولِ عناصرٍ تربوية أخرى غير الوالدين في المراحل الأولى لحياة الطفل، كالتلفاز قديماً، والانترنت والمتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية الواقع، انفصامية العلاقة، إضافة إلى علاقتها بصياغة نمط الأصدقاء، والفجوة المتباعدة في مقدرة الأهل على الرقابة، والتتبع لشكلِ ونوعِ تلك العلاقات والصداقات، والتي تجعل من الطفلِ متعددِ المصادر في منهله لسيلٍ كبيرٍ وغير مقنن من الأفكار المتداخلة، والمختلطة في تلك المرحلة العمرية الفاصلة، والمتأرجحة عقلياً، تجعله ثائراً على تلك الظروف بشكلٍ عفوي وبلا هدفٍ واضحٍ وجلي.
ولقد أشارت الدراسات عزيزي القارئ، إلى أن معظم القرارات التي يتخذها الشخص في حياته الأولى، يكون للوالدين تأثيراً كبيراً في معطيات ومعايير صياغة تلك القرارات المستقبلية للفرد، في حال لو تم استثناء الأسر التي تتخذ من الاستقلالية وفلسفة "الاعتماد على الذات"، سبيلاً في دخول معترك الحياة والنهوض بمتطلباتها، بشكلٍ وحدوي وفردي، وهذه الأسر في معظمها أسر غربية متفككة، أو تجمعها علاقات فاترة بين أفرادها، أما الأسر العربية فهي على النقيض تماماً من الغربية، حيث يسودها مجتمعٌ أبويٌ دكتاتوري القرارات، تقليدي الأفكار، تُمارَسُ فيه تلك الصلاحيات بشكلٍ بيروقراطي محض، يخلو من الدراماتيكية، نحو زمام المبادرة والمسؤولية الفردية في اتخاذ القرار الشخصي، وتحمل تبعاته المستقبلية، على نحوٍ يؤدي إلى صناعة الذات، قال الشاعر: (وينشأ ناشئ الفتيان فينا ** على ما كان عوَّده أبوه).
والحقيقة الحديثة تفيد بأن الاهتمام الرسمي في التعليم المهني والتقني اليوم هو في ازديادٍ مستمر، ولكن النتيجة الحقيقة لهذا الاهتمام على الصعيد المجتمعي (غير الرسمي) هو في تناقصٍ مستمرٍ أيضاَ، أما الحقيقة الراوية عن الماضي بإمضاء الباحثين والمختصين تقول: بأن التعليم المهني على الصعيد الرسمي بضعة عقود من الآن في البلاد العربية وفلسطين على وجه الخصوص لم يكن بهذا الاهتمام الرسمي اليوم، ولكن على صعيد الحياة الواقعية كنتيجة مؤثرة تنموياً كان في أوج عنفوانه، ولو تساءلنا لماذا؟، فالإجابة أعزو مكمنها في دور الأسرة كمؤسسة ولبنة أولى، فعلى سبيل المثال لا الحصر: لو أخذنا كلاً من مدينتي الخليل ونابلس كبيئات صناعية وتجارية تمتهن المهن والحرف التقليدية والحديثة، كسبيل للعمل وكسب الرزق، فإننا نجد أن الخليل كانت رائدة المجتمع الفلسطيني في صناعات حرفية ومهنية شتى، كصناعة الأحذية بتعداد أكثر من 500 مصنع ويزيد وفق احصائيات رسمية، أما اليوم فهي بين الخنصر والإبهام في كلتا اليدين حين تعدها، وليست صناعة الأحذية الجلدية الفاخرة والمتينة فقط، بل كذلك اشتهرت في صناعة الزجاج أيضاً، والصناعات الغذائية والزراعية كالعنب ومنتجاته وغيرها الكثير، وكذلك الأمر بالنسبة لمدينة نابلس اشتهرت بالعديد من الصناعات الحرفية والمهنية، كصابون الجمل الحائز على عدة مداليات ذهبية، والحلويات وأشهرها الكنافة النابلسية، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هنا أين هي اليوم ؟!.
والتساؤل الآخر والمرتبط بهذا الجانب تاريخياً، وفي ظل تلك الظروف قليلة الامكانيات والمقدرات، هل درس أصحابُ هذه المهن ريادة الأعمال؟ وهل انضموا لحاضنات أعمال؟ أجزم النفي بالقول "لا"، فكلمة رائد وريادة أعمال مصطلحات عصرية التفاعل في عالمنا العربي، فالإجابة ببساطة هي قناعات كانت سائدةً وراسخةً بنظرة ترفع من شأن تلك الحرف والمهن، من خلال توارث الأبناء عن الآباء وعن الأجداد صنعتهم وحرفتهم، كنوعٍ من الديمومة والاستمرارية لكسب الرزق وجني المال، مصدقاً لقوله تعالى في حرفة سيدنا داود عليه السلام (وعلمناه صنعةِ لبوسٍ لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون)، فصنعة الحدادة، والسباكة، والنجارة، والسمكرة، وصناعة الحذاء لا استيراده، كانت نتاج مجتمعاتٌ وأسرٌ تؤمن بالشعار الوطني "الشهد في عنب الخليل"، وتؤمن بأهمية الحديث الشريف (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام كسبيل للجودة والاستمرارية والاعتمادية والموثوقية في العمل، فعلاً لقد كانت مجتمعات أنجبت قناعات مؤمنة بفلسفة "الصنائعي يداه من ذهب".
إن فلسفة التعليم المهني والتقني فلسفة قناعات وإرادة لا أكثر، كأساس متين لبداية واعدة، فلسفة تاريخ متوارث اقتنع به الآباء وحمل لواءه الأبناء، فعائلات الحداد، والنجار، والخياط، والساعاتي، والسكافي، هي ترجمات شبيهة لعائلات شميدت، وشنايدر الألمانية وسميث الانجليزية، وقد يقول البعض هل التعليم المهني والتقني حدادة ونجارة فقط، والاجابة هي: أن التعليم المهني والتقني هو كلُ مهنةٍ بوصفٍ فني أو حرفي تسقط تطبيقياً، ويكون للجانب العملي فيها نصيب الأسد، وعليه فالحلقة الأساس والأولى هي الأسرة، في سلسلة منظومة التعليم المهني والتقني الواعد والمجدي، لإحداث تنمية اقتصادية واجتماعية، فهي التي تخلق تلك القناعات والاهتمامات في دور تكاملي مع المؤسسات الأخرى، والتي سأوردها تباعاً في سلسلة حلقاتي القادمة بمشيئة الله تعالى، بدأً بالأسرة، فالمؤسسات التعليمة (كالمدارس والكليات المهنية والتقنية، ومراكز التدريب المهني والتقني)، وصولاً لعمال وفنيين مهرة في سوق عمل زاخر بالصناعات والحرف، وليس انتهاءً بدور القطاع الحكومي والقطاع الخاص التشاركي والراعي لهذه المنظومة برمتها، عبر قوانين عمل، وعمال، ونقابات ترعي الحقوق، وتحفظ الواجبات.
عزيزي القارئ لا زلت مقتنعاً كمختص وباحث في الجوانب التنموية وبلا أدنى شك ولا تغيير، أن الريادة وريادة الأعمال على وجه الخصوص، نتيجة لصفة لا تُدّرَس في كتب أو مناهج فهي ليست عملية، إنما هي صفة من يدرك مفهوم "الدقة" في تخير أي منظومة من (مدخلات وعمليات ومخرجات)، مخطط لها مسبقاً على صعيد المؤسسات، أما على صعيد الأفراد فالإنسان منظومة أيضاً ونظام متكامل، لمن يتحكم عقله وإرادته في منظومته، ويلعب توفيق رب العالمين في الأمر فعله برمته وأختم بالقول أن المعرفة قوة، والمعلومات تحرير، والتعليم بداية التقدم في كل مجتمع، وفي كل عائلة، وعليه فلا بد أن "يتعلم الأطفال كيف يفكرون، وليس بماذا يفكرون" لتنطلق وتتولد إبداعاتهم وابتكاراتهم خارج ذلك الصندوق من رحم الصندوق ذاته.