السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

غزة الجميلة القبيحة

نشر بتاريخ: 18/11/2018 ( آخر تحديث: 18/11/2018 الساعة: 15:30 )

الكاتب: هديل ابو مريم

تلك البقعة الصغيرة الكبيرة التي تؤرق منام الكثيرين ممن يحلمون باختفائها عن وجه الكرة الأرضية، تمتلك أعظم وأكبر موسوعة تاريخية تصلح للدراسة النفسية، ومن ثم تعطي الدروس للكثيرين. غزة التي لم تكفّ أن تكون قبيحة في عيون أعدائها، الجميلة في عيون اهلها، ولم تتوانَ لحظة بأن تكون جميلة الجميلات في عيون من زارها يوما أو يفكر في ذلك، فهي خير فلسطينية تُكرم الضيف بلا اسئلة.
غزة التي خانها وخذلها الجميع، وأصبحوا يُنَظّرونَ عليها من بعيد، خوفا من أن تكشف زيفهم وفصامهم. هي تقول للجميع: نعم أنا منهارة، نعم أنا أئن تحت وطأة الفساد والاستغلال تحت اسمين منشقين تماما عن الإنسانية، هما، الوطن والدين، لكنني ما زلت أقف تماما إذا ما أدمت رأسي ضربة.
غزة تمر في ظروف ليست استثنائية، لأن الاستثناء بات طبيعيا ويشكل جزءا اصيلا وموجودا ضمن نوعية حياتها وطريقتها، فأي ظرف استثنائي لا يستمر (11 عاما). ولكنه كسرطان، لم يتم السيطرة عليه لا بالأموال، ولا بالعباءات السوداء، ولا باللحى ولا بالزيوت التي تعطر تلك اللحى الوسيمة، وفضحه، رفض غزة المتناقض!
المهم، أن غزة تجمع بين كل متناقضات الارض، تريد العيش بسلام لكنها تريد الحرب دائما، ثأرا لمن يحاول أن يستبيح حرمتها، وكأنها تقول لأي أحد يحاول أن يطيل لسانه أو يده: اتركني وشأني، إما أن تساعدني بتحسين أوضاعي بطريقة إنسانية بحتة دون التنظير عليّ، أو اذهب ومارس فجورك في مكان آخر فلا مكان لك هنا. أو تتركني أيضا مرة أخرى وشأني، ودعني أدافع عن ما تبقى لي وأيضا لك، من كرامة أو ما يشبهها. 
غزة تريد التخلص من القيود والعادات والتقاليد المجتمعية التي ما هي إلا نقلا عن أناس أصبحت عظامهم مكاحل ! لكنها ما زالت تتمسك بها، خوفا من أن تتهم بالزندقة وهي تلبس عباءة الدين والمحافظة على الإرث الثقافي الذي أصبح مشوها بعض الشيء وتشوبه كل الشوائب.
غزة مدينة تحب الموت، ترحب به، عله يخلصها من حياة تقارن بالعدم، لكنها، تعشق الحياة والحب معا، ولو فشلت بالتعبير عنهما في كثير من الأوقات.
في البلاغة العربية يقولون أنه بالضدّ يظهر الضدّ، وكذلك غزة، لأنها أبلغ من كلماتنا وأبلغ من أن يتسع ثمان وعشرون حرفا لوصف متناقضاتها. وهنا دعوني أوضح بعض الأمور.
اليوم وفي الثالث عشر من نوفمبر للعام الثامن عشر بعد الالفين، في غزة، تم تعليق الدراسة وتعليق كافة الجوانب المتعلقة بالحياة، خوفا أو تحسبا من وقوع خسائر بشرية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا:
ما مدى خسارتنا البشرية نحن أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والذين على مدى (11 عاما)، يتم تجهيلنا بربط كل ما ترتكبه حماس من جرائم بحقنا باسم الدين، وما تمارسه السلطة الفلسطينية علينا كنوع من الضغط على حكومة حماس، باسم الوطنية.
وبالمناسبة يجب توضيح بعض الأمور هنا، ما يريده الاحتلال هو شعب جاهل خلف الأمم، وكذلك ما تريده الحكومتان. إذا هناك قاسم مشترك بينهم ومهم جدا هو الغاية التي تبررها أي وسيلة. أي احتلال على مدى التاريخ تقهره مدنية المجتمع الذي يحتله، لذلك يبدو أننا لم نحقق ذلك، لأن المدنية لها ثمنها كما الحرية.
القضية الفلسطينية قضية واحدة لا تجزأ، ولن يمثلها لا علم ولا صورة ولا كوفية. القضية الفلسطينية يمثلها شعب بأكمله، شعب لا يعيش فقط في غزة، بل في كل فلسطين، ومن يدعي غير ذلك، مصيره مصير ذلك اللص الذي سرق بيت أبيه ليرضي مسؤوله، لكن لا أبوه سامحه ولا رئيسه رضي عنه، باختصار، هو خائن والخيانة أيضا لا يجب أن تجزأ.
هذا الشعب يمارس عليه كل يوم أبشع أنواع القهر والظلم، ليس من الاحتلال فقط، بل من ذوي القربى، والآمرين عن المعروف والناهين عن المنكر! من الطبيعي جدا وكرد فعل إنساني وبشري بحت، أن يذهب شباب غزة إلى مسيرات (خدمت حماس فقط وبعض المتشدقين ببطولة الفلسطينيين وهم يعيشون خارج فلسطين، يشاهدون أخبار غزة ثم يذهبون إلى نزهة للترويح عن أنفسهم جراء ما لحق بها من أذى نظرا لقسوة المشهد، كان يراها أنها المتنفس الوحيد للتعبير عن غضب عارم في داخله، وليس من الضروري ولا المطلوب معرفة اين يتوجه هذا الغضب وتجاه من، وما هي النتائج المترتبة على ذلك. فكان ما كان، ففقد أكثر من مائتي شاب سيقانهم، فزادت حياتهم سقما ومستقبلهم المجهول تسقيما.
الحياة في غزة أشبه بحياة إنسان في غرفة انعاش في مستشفى، يحاولون الحفاظ على الحياة فيها، فقط من خلال السماح للمخ أن يرسل إشارات كهربائية للقلب من أجل أن ينبض. موت هذا الإنسان سيحول القائمين على إنعاشه، إلى بطالة دائمة، لكن حياته والتي هي شبه حياة تجعلهم يستمرون في عملهم بل وشراء أسرَة أخرى لأناس آخرين.
في كل العصور رأينا أن للاحتلال وجه واحد هو البربرية التي يتم ترجمتها كل يوم بشتى الممارسات الظالمة، لكنني أتحدى أن يمر على أي شعب كما يمرّ على الشعب الفلسطيني في غزة، احتلال بثلاث أوجه إن لم يكن أكثر.!!

- وترفورد/ ايرلندا
ماجستير صحة نفسية ومجتمعية