الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

خليل بيدس...أول من أذّن للثورة

نشر بتاريخ: 18/01/2019 ( آخر تحديث: 18/01/2019 الساعة: 11:09 )

الكاتب: عيسى قراقع

المفكر الأسير المحرر خليل بيدس..المسيحي الفلسطيني أول من أذّن للثورة

احتفلت فلسطين بأعياد الميلاد المجيدة ثلاث مرات في اقل من شهر، احتفالات الكنيسة الكاثوليكية، والكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الارمنية وفق التقويم الزمني لكل كنيسة، وفي كل الكنائس ومن صوامع مدينة القدس ومآذنها، وفي كنيسة المهد وساحاتها علت الصلوات والرغبات والدعوات الإيمانية المقاتلة، أعلنت ان الفلسطينيين يفترشون ارض فلسطين موحدين مسيحيين ومسلمين، صامدين راكعين على سجادة واحدة.
في هذه الأجواء الروحانية الباهرة عادت بي الذاكرة إلى صوت الكاتب والأديب الصحفي الفلسطيني المسيحي المرحوم خليل بيدس صاحب مجلة النفائس، تنامى إلي ذلك الصوت الجماعي الذي وحد الحاضر والماضي والمستقبل، عندما قاد خليل بيدس أول ثورة فلسطينية انتفضت ضد الانتداب البريطاني ووعد بلفور المشؤوم خلال احتفالات النبي موسى في مدينة القدس سنة 1920.
كان خليل بيدس على رأس مظاهرة ضخمة، ألقى خطابا هيج الجماهير وأذنّ خلاله للثورة العارمة الضارية ضد سياسة الانتداب وضد الصهيونية والهجرة اليهودية والاستيلاء على أراضي فلسطين، محذراً من المخاطر الجسيمة التي تهدد فلسطين وشعبها وأرضها.
القي القبض على خليل بيدس وحكم عليه بالإعدام وزج في سجن عكا، وقد تم تخفيض الحكم إلى 15 سنة، ولكن بسبب الاحتجاجات والتظاهرات ضد اعتقاله أطلق سراحه بعد أربعة شهور، واخذ ينشر في مجلة النفائس عدة مقالات بعنوان (حديث السجون)، روى خلالها قصة اشتراكه في الانتفاضة الشعبية ضد وعد بلفور وسوقه إلى السجن، وكشف عن صورة الأساليب القمعية التي استخدمها الانجليز ضد المناضلين السجناء العرب، وعن سياسة التعذيب والإعدامات والمحاكمات الشكلية، وسياسة التمييز في المحاكمات بين العرب واليهود، وغيرها من الممارسات اللا إنسانية.
ما كتبه بيدس في حديث السجون يعطي صورة عن واقع الأسرى الفلسطينيين في الوقت الحاضر، حيث ورث الاحتلال الإسرائيلي القوانين البريطانية الجائرة وعلى رأسها قانون الاعتقال الإداري، وورث عنه أساليب المعاملة المذلة والتعسفية تجاه الأسرى، وسياسة التمييز العنصري في المحاكمات، شعرت ان بيدس لا زال يعيش في السجن، يصرخ ويدق على الجدران، هناك تحالف وتكامل بين الأحياء والأموات، بين الماضي والحاضر، منذ بداية النضال الوطني الفلسطيني من اجل الكرامة والحرية، لا زال الفلسطينيون يقبعون في السجون ويرسفون بالقيود، يموتون كثيراً، يجوعون كثيراً، يتعطشون إلى الحرية.
المفكر المسيحي الأرثوذكسي الفلسطيني خليل بيدس، رأسه كان دائما يتأرجح على حبل المشنقة بسبب مواقفه الرافضة للذل والاستعمار، فعند انطلاق الثورة العربية الكبرى في 10 حزيران 1916 ضد الحكم التركي، حكم عليه بالإعدام، لكنه لجأ إلى البطريركية الأرثوذكسية بالقدس فحماه البطريرك وأنقذه من المشنقة.
اعتبر خليل بيدس أول سفير للأدب الروسي في الثقافة العربية ورائد القصة الحديثة بلا منازع في فلسطين، تصدى في مقالاته ومواقفه لسياسة الانجليز والمخاطر المترتبة على التغلغل الصهيوني في فلسطين، لعب دورا نشطا في تأسيس الروابط والجمعيات الإسلامية المسيحية وقيادتها، رفض العمل في المؤسسات التي تشرف عليها سلطات الانتداب البريطاني قائلا: (انا لا أباع كما لا تباع نفسي وقلبي)، لا زال يؤذن في القدس للثورة ضد المستوطنين وسياسة الاستيطان والتهويد والاعتداءات المستمرة على الأماكن المقدسة.
الفكرة الصهيونية في زمن بيدس تحولت الآن إلى دولة صهيونية، والسجن البريطاني ورثه الإسرائيلي، الزنزانة نفس الزنزانة، السجان نفس السجان، خليل بيدس لا زال في السجن مع آلاف الأسرى، فمن يحاول الآن تجسير المسافة بين الماضي والحاضر؟ ينعش الذاكرة والفكرة، يترجم أحلام بيدس وصوته الثائر، من يطلق سراحه ويفك قيوده ليتمكن من جديد ان يقرع الأجراس؟.
الفلسطيني لا يتحدد بدينه وطائفته، بل بالقيم الكفاحية والنضالية إلي مارسها الفلسطينيون منذ وعي المشروع الصهيوني حتى اليوم، فلم يسجن ويقاوم بيدس الانتداب البريطاني والاستعمار الصهيوني دفاعا عن كنيسته، كمان ان كريم يونس لم يقض 37 عاماً من عمره داخل السجن دفاعاً عن مسجده، قاتل الاثنان دفاعا عن فلسطين الوطن.
انتفض شيخ الصحفيين وأب فلسطين نجيب نصار في مجلته الكرمل ليس لأنه مسيحي عندما صرخ بصوته النبوي في رسالته المشهورة إلى البابا بيوس الحادي عشر محذرا من الهجرة الصهيونية إلى فلسطين قائلا: إذا كان العرش البابوي قائما في روما فدعائمه في فلسطين، فلسطين النصرانية تتحول بسرعة إلى يهودية خالية من النصارى والمسلمين، داعيا إلى الصمود والبقاء لان كنيسة فلسطين ستبقى كنيسة بشر لا حجر.
المسيحيون ملح الأرض، وان كان هذا الملح قليل، فالوطن لن يكون وطنا من دون هذا الملح القليل كما قال الدكتور شارلي أبو سعدى، لهذا التقى بيدس في السجن الانجليزي مع الأسير المطران كبوتشي في السجن الإسرائيلي، وقرا على حائط زنزانته: (سيدي المسيح من بعدك اعبد فلسطين) والتقى بيدس مع الأسيرة المحررة تريزا هلسة ولينا طنوس وعطا الله أبو غطاس ومهيب عواد وحنان مسيح، والمئات من الأسرى المسيحيين، جميعهم حملوا الصليب الثقيل ولاهوت الثورة وساروا على طريق الجلجلة.
خليل بيدس شاهد على المشاركة الفلسطينية المسيحية العميقة في النضال التحرري والوطني والثقافي لاستعادة الكرامة المسلوبة، لا زال يسمع صوت المطران يوسف ريا وهو يقول : شعبي يضطهد، وشعبي يحمل صليب المسيح ويمشي، ويرى بيدس علم فلسطين يرفرف فوق مبنى الفاتيكان في روما التي اعترفت بدولة فلسطين.
الجميع رأى بيدس يتوجه مع الناس في أعياد الميلاد لزيارة قبر المجاهد المسيحي الفلسطيني انطون داود التلحمي الذي قام بعدة عمليات عسكرية ضد الوجود الصهيوني عام 1948 منها تفجير دار الوكالة الصهيونية بالقدس، ويرسل السلام والتحية إلى أرواح المناضلين الأب إبراهيم عياد والفدائي الشهيد كمال ناصر وجبرا إبراهيم جبرا ويطول السلام لان الأسماء كثيرة وتطول الصلاة.
صوت الكنسية عال ويسمع ليس فقط في الصلاة بل في كل المجالات، الكنيسة تكبر للثورة والحرية، الراهبات والرهبان يواجهون البطش الإسرائيلي، وفي كنيسة المهد التي حوصرت أربعين يوما كان هناك موت وصمود وصلاة قدسية، شهداء سقطوا، كهنة قتلوا، مطارنة ومفكرين سجنوا وابعدوا، الأب إبراهيم فلتس ينقل جثث الشهداء من داخل الكنيسة تارةً، وينقل الخبز للمحاصرين تارة أخرى، اسمى طوبي رئيسة جمعية الشابات الارثذوذكسيات في عكا تشارك سميحة خليل رئيسة جمعية إنعاش الأسرة في رام الله في دعم و مساندة الفقراء وأهالي الأسرى والجرحى والمنكوبين والشهداء.
في فلسطين الإنجيل يقاتل، هذا الإنجيل الذي ظل في تاريخ البشرية حتى الزمني فيه خمير حرية وتقدم، يحمل الخلاص الذي تحدث عنه الأب ميشيل صباح، الخلاص من الاحتلال مصدر الشرور كلها وجرثومة الموت المصنوع بما يحمله من ظلم وهتك حرمات وتسعف.