الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

الهزيع الاخير في الليل الفلسطيني

نشر بتاريخ: 12/02/2019 ( آخر تحديث: 12/02/2019 الساعة: 10:35 )

الكاتب: عوني المشني

تلجأ دوائر صنع القرار التي تحترم نفسها الى ثلاثة أساليب في التقييم: الاول تقييم مستند الى معايير ثابتة وهي عبارة عن مقاربة ما بين الأهداف المتوخاة والنتائج التي تحققت في فترة زمنية محدودة وبمستوى محدد من الجودة، اما الثاني فهي تقييم أهل الخبرة اعتمادا على مهنيتهم وخبرتهم، اما الثالث استقراء رأي الجمهور وقراءة توجهات الرأي العام. لو حاولنا تطبيق الطرق الثلاث على الحالة الفلسطينية فما الذي سنصل اليه ؟؟!!!!

مقاربة الأهداف بالنتائج يكاد الواقع ينطق لا بل يصرخ بالفشل المدوي، ربع قرن او اقل قليلا منذ توقيع اتفاقيات اوسلو، تضاعف الاستيطان عشرات المرات، تحول الحكم الاداري الذاتي من مؤقت - خمسة سنوات حسب اتفاق اوسلو - الى ربع قرن والحبل على الجرار، الوضع الاقتصادي لشعبنا ووفق كل الإحصائيات اكثر سوءا سواء بالنسبة لمستوى الدخل او نسب البطالة، تراجع نوعي وشامل للاداء الفصائلي السياسي ادى الى فقدان مصداقيتها، انقسام الوطن سياسيا وتعمق هذا الانقسام ليتحول الى جغرافيا، باختصار نحن الان ابعد بما لا يقارن عن تحقيق اهدافنا الموضوعة مسبقا والتي تتلخص في اقامة دولة فلسطينية مستقلة على جرود الرابع من حزيران ١٩٦٧ وتحقيق حق العودة وفق قرار ١٩٤ من اي وضع اخر.
اما أهل الخبرة فيكاد يجمع المثقفون والسياسيون على ان الحالة الفلسطينية تمر بأزمة مستعصية، وان المرحلة الحالية تصل نهاياتها الفاشلة بامتياز، وكل ما يحكى عن إنجازات وهمية ما هي الا شكليات لا تضيف تراكما إيجابيا ذي مغزى، القلة القليلة من أشباه المثقفين الذين تحققت مصالحهم الذاتية من هذا الحال فقط هم من يبرر الوضع القائم بمسوغات هشة تتهاوى امام اي منهج علمي للتقييم، أهل الخبرة يتفقون مع أصول التقييم المنهجي في خطورة اوضاعنا وان اختلفوا فانهم يختلفوا في نسبة درجة الخطورة لا اكثر مع إجماعهم على فشل الادارة السياسية.
رأي الجمهور ايضا لا يخالف هذا الرأي، استطلاعات الرأي، الجمهور الفلسطيني بحسه الأصيل والذي في اغلب الأوقات اكثر مصداقية وعمق من قراءات المثقفين يدرك ان الحالة الفلسطينية وصلت الى حافة الهاوية، وان التراجع الفلسطيني مرتبط الى حد كبير بالاداء السلبي للنخب القيادية، الشارع الفلسطيني يشير بطرق مختلفة الى الفساد وسوء الادارة والاستزلام والخواء السياسي، واذا ما ألقيت نظرة الى وسائط التواصل الاجتماعي او احاديث المقاهي وسيارات الأجرة ستكتشف عمق الوعي الشعبي لحالة الفشل العامة والتي يتصف بها الوضع الفلسطيني.
 
امام هذا الوضع ستجد ان السؤال الذي يتكرر دوما وعلى كل المستويات هو: ما العمل ؟؟؟ ما هو المخرج ؟؟؟ كيف سنتجاوز هذا الوضع ؟؟؟
هنا تختلف الاجابات، هناك من يعتقد ان هناك امكانية لاصلاح الوضع القائم عبر تصويب المسارات، هؤلاء ينفخون في قربة مخرومة، يصرخون بأعلى صوتهم بضرورة الإصلاح ولكن صرخاتهم تذهب في واد، ربما ان الوضع الحالي لم يعد بالإمكان اصلاحه بالاعتماد على القوى التي أنتجته، ربما ان المستفيدين من هذا الوضع يقفون عقبة في وجه الإصلاح، وربما ان أطرافا خارجية تستفيد من حالة الانهيار الفلسطينية تضع العصي في الدواليب لتعيق الإصلاح، ولكن وبدون تحديد نسب يبدو ان الثلاث احتمالات هي قائمة ومتداخلة وتشكل مع بعض سدا منيعا امام الإصلاح حتى وصلت الحالة الى مرحلة تجاوز امكانية الإصلاح.
هناك من يعتقد ان انتاج قوى جديدة تحل مكان القوى القائمة هو المخرج، قوى بمواصفات جديدة، قوى تتحمل المسئولية وتعيد صياغة مشروع وطني شامل، قوى تحمل جينات مختلفة عن القوى السائدة ولا تمثل امتداد لها ولا صدى، قوى تستند لتاريخ عريق من كفاح شعبنا وتراكم الإنجازات بصبر وحكمة وصولا لتحقيق الأهداف، قوى لا تحرق المراحل ولا تستنزف الطاقات ولا تفقد البوصلة. ربما ان عملية الفرز لإنتاج تلك القوى ما زالت في مراحلها الاولى، كما ان كوابح القوى السائدة والأطراف الإقليمية ألسائدة، وهناك تردد ما زال يتحكم بالبعض، ولكن الاكيد ان شعبنا يتلمس هذا الخيار بطرق شتى، والاكيد اكثر اننا كشعب نسير بهذا الاتجاه.
وهنا ايضا تبرز اتجاهات مختلفة، الاتجاه الأصولي الذي يرى بضرورة العودة الى أصول الصراع وبناء استراتيجية تقوم وطنية شاملة تنطلق من تلك الأصول، هذا الاتجاه يقدم الكثير والمقنع في المفاهيم النظرية ولكنه فقير جدا عندما يتعلق الامر بالوسائل والأدوات ويلجأ كثيرا الى التعميم الغامض ليبرر هذا الفقر، اتجاه اخر على النقيض تماما ينطلق من موازين القوى والظروف الموضوعية كأساس لتحديد الأهداف الممكنة والقابلة للتحقيق ويكاد يتجاهل حقائق الصراع التاريخية، وتحتاج الى كثير من الدقة لنفرق بين هذا الاتجاه وبين صاحبوا فكر الاستسلام للواقع. 

ما بين هذا وذاك هناك من يعتقد بضرورة اخذ ابعاد الصراع الاستراتيجية ومسبباته التاريخية كأساس لصياغة مفهوم تحرري انساني قادر على التعاطي مع الاعتبارات الموضوعية دون الاستسلام لها، ينسحب هذا ليس على الأهداف فحسب بل على الوسائل والأدوات وعلى التعاطي مع النخب الفلسطينية السائدة وعلى العلاقات الإقليمية والدولية، هنا تتجلى المقدرة على ايجاد توازن بين ما يجب وما يمكن، بين التاريخي والموضوعي، بين الوطني والانساني، بين الاستراتيجي والآني، هذا الاتجاه وان كان يلامس الواقع ولكنه يدرك ان تغييره هو الهدف الاهم والاستراتيجي.
على كل الأحوال فان النقاش بين هذه الاتجاهات وفِي داخلها هو الذي يشكل ديناميكية التغيير، وحتى لو تحول في بعض الحالات الى نوع من الترف الفكري او استعراض ذاتي فانه في المحصلة النهائية يساهم في تطوير الوعي العام بالحالة الفلسطينية ومستلزمات تجاوز الازمة.
الطرف الوحيد الغائب عن هذا الحوار هو أنصار تبرير الوضع الحالي والذين يذهبون بعيدا في الركون الى شراء الوقت وبيع الاوهام، هؤلاء وان كانوا يتحدثون عن صمود فان حقائبهم جاهزة ولديهم دوما تذكرة الخروج بدون عودة للهروب من السفينة الغارقة.
صورة مظلمة للحالة الفلسطينية، لكنها ظلمة الهزيع الاخير من الليل الاشد ظلمة والتي تسبق الفجر....