الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

التكوين المهني: المدرسة ما بين اقرأ واكتب مستقبلك

نشر بتاريخ: 22/04/2019 ( آخر تحديث: 22/04/2019 الساعة: 11:24 )

الكاتب: صخر المحاريق

تعتبر المرحلة المدرسية ذات أهمية بالغة في البناء نحو المستقبل، سواءً للمجتمعات عامة، أو للأفراد خاصة، وبشكلٍ إلزامي في عصر التكنولوجيا الرقمية، والتنمية لمواكبتها، وذلك من خلال ما يتقلاه الفرد من تكوين (معرفي وسلوكي)، خلال مراحلها المختلفة بدءً بالمرحلة الابتدائية، ومروراً بالإعدادية فالثانوية، وذلك حسب المسميات والأنظمة التعليمية المعمول بها في بلادنا العربية، ونظام التعليم في فلسطين إحداها كشاهدٍ بين تلك الشواهد، ولكنّ المفارقة هنا تفيد بأن النتيجة لهذه المنظومات تكاد تكون حتمية نحو طريقٍ مغلقٍ وبلا مخرج، لعلاج أزمات ومعضلات تكاد تكون سمة للمجتمع الفلسطيني والعربي، كالفقر والبطالة والتهميش، وأتساءل هنا أما آن الأوان لنفض غبار التقليدية عن تلك النظم؟ نحو العصرنة والتطوير المُنْتِجِ للحلول، لمواجهة هذه الأزمات بشكلٍ ديناميكي، يؤتي أُكُلَهُ ليزرع غرساً جديداً، يؤول إلى حصادِ ثمارِ تنميةٍ شاملة، في شتى مناحي الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وغيرها، وإذ نشيد هنا بدور مؤسساتنا الوطنية كافة على اختلاف اختصاصاتها، وعلى رأسها وزارة التربية والتعليم، وما تبذله من جهود فذة ترنو "المستقبل الفلسطيني" في ربطها لعملية التعليم بالتنمية الحقيقية والمنشودة.
ولو رجعنا بالذاكرة للوراء -عزيزي القارئ- لثلاثةِ عقود ونيف من هذه الألفية، لأخذِ مؤشرٍ وصورةٍ ذهنيةٍ عن المستوى الثقافي والمخزون المعرفي للرعيل والجيل الأول، والذي ردد كلمات القصيدة، من بعد غيابٍ جئناكِ يا مدرستي، ما أبهاكِ، لن نبلغ مجداً لولاكِ، يحميكِ الله ويرعاكِ، والذي عاصر فترة التسعينيات والثمانينيات وما سبقها، ومقارنته بجيل العقدين الآخرين اليوم، لوجنا فارقاً شاسعاً لصالح الرعيل الأول من تلك الأجيال، دون وجهٍ للمقارنةِ في حالات كثيرة، طبعاً مع استثناء الثقافة المتخصصة في جوانب تحتم وتلزم مختصيها الخوض فيها (ككرة القدم، وقطاع الفن والفنانين، وغيرها)، مما لا يزيد أو ينقص في معرفتها للمستوى الثقافي العام للفرد غير المختص والمهتم فيها، وهنا أتحدث عن ثقافة (اللغة، والأدب، والدين، والتاريخ، والجغرافيا)، كمرتكزات ومعايير للقياس، واطلاق الأحكام حول ذلك المستوى الثقافي في مفهومه العام، للخروج من دائرة التعليم اللاتعليمي، حيث يقول العبقري آينشتاين "التعليم هو ما يتبقى للشخص بعدما ينسى ما تعلمه في المدرسة".
ولنتساءل بالقول؟ طالما التعليم في تطور كما نقول، ويُطَّعمُ بكلِ ما هو معاصر، فلِما هذا التراجع في المستوى الثقافي للفرد، والتراجع في مستوى الفهم والتعبير عن الكثير من العلوم وأساسياتها، من القواعد والمفاهيم المتصلة، هذا على صعيد المدرسة ومراحلها الثلاث، ناهيكِ عن التراجع الكبير والذي سنذكره في حلقتنا ومحطتنا الثالثة والمخصصة للحديث حول الفجوة في دور الكليات والجامعات، وخصوصاً في الكفايات والمهارات الحياتية والمتخصصة للخريج، والتي تمكنه من سرعة استجابته للانخراط والاندماج في سوق العمل، والوفاء بمتطلباته الوظيفية، فالتعليم ليس إعدادًا للحياة… بل هو الحياة نفسها!
الاجابة ببساطة تحتم علينا إعادة هيكلة تلك المنظومة من جذورها، وفق متطلبات الحالة الفلسطينية وخصائصها، ولنوجز لكم ما يحقق ذلك كله، ونعيد للفلسطيني تمايزه العربي عن أقرانه من بني جلدته، على اعتبار أنه سفير التعليم المميز والمتميز في الشرق الأوسط، وعليه يمكننا التفكير في المقترحات التالية:
 المرحلة الأساسية أو الابتدائية: يمكننا حصرها بأربع سنوات دراسية فقط، وثلاث مواد تعليمية أساسية هي: (اللغة العربية الأم، والحساب، والتربية والأخلاق)، يتضمن ذلك سلسلة من النشاطات اللامنهجية غير العشوائية في طرحها، والتي تعزز تلك المعارف بمهارات مكتسبة، بحيث يتعود الطالب على فهم أكثر من طريقة للحل، بهذا نسرع فيها من عملية التعليم والتعلم، خصوصاً تلك المواد والتي ينفر منها تسعون في المائة من طلابنا، اضافةً لاختصار تلك المرحلة بالسنوات من الصف الأول حتى الرابع، وبعدد ساعات دوام رسمي (خمس ساعات يومياً)، وذلك لعدم شعور الطفل بالملل والاحباط، وثقل الحقيبة المدرسية، ومن خلال حصر الواجبات والمهام التعليمية في اطار المدرسة لا البيت.
 المرحلة المتوسطة (الاعدادية): وفيها يتم دراسة منجزات الطالب وملفه، والذي تابعه مختصين ومشرفين ومرشدين في السنوات الأربع الأولى، والتي يجب أن تنعكس فيها مجموعة من المؤشرات الذهنية أو العقلية وكذلك السلوكية، والتي يستشف من خلالها مجال تميّز الطالب وابداعه، والذي ساعدناه بإظهاره وإبرازه، ونسعى معه جاهدين لتنميته وتطويره، وتستمر في هذه المرحلة خمس سنوات أخرى من الصف الخامس حتى التاسع، يتم التركيز فيها على تنويع مدركات الطالب في مجالات علمية وعملية، وكذلك يتم فيها تعزيز وبناء المنطق في التفكير وأشكاله المختلفة، بتفكيرٍ معرفيٍ وفوق معرفي، إضافةً لمجموعة من المهارات الحياتية التي تعزز من سلوك الطالب وشخصيته، ويمكن في نهاية هذه المرحلة أن يخضع الطالب لمجموعة من الاختبارات للتأكد من مدى جهوزيته، لاختيار مساره المهني، وتخصصه في المرحلة التالية ألا وهي الثانوية.
 المرحلة النهائية (الثانوية): وفيها يختار الطالب تخصصه، ويتم العودة به من حيث بدأ، في جملة قليلة من المواد المتخصصة والمتعمقة في مجال تخصصه (العلمي، الأدبي، التجاري، الصناعي، الزراعي، الخدماتي، الفني، العسكري ... إلخ)، وذلك دون تعميم يبدد الوقت والفائدة، والمخرجات الحقيقية القابلة للقياس يقول لوثركينج: "إن وظيفة التعليم تتمثل في تعليم الفرد التفكير بعمق وبنقد، فالذكاء والشخصية هما الهدف الحقيقي من التعليم"، وعليه فالذكاء هو عمق في التفكير ضمن إطار محدد، وهو مفهوم وسمة خاصة يتميز فيها حامله في اختصاص ومجال ضيّق ومحدد، يُظْهِر فيه قدراته الذهنية، وما يليها من تكوينات معرفية، وإنشاء للعلاقات في حقل المعرفة الضيّق، فنقول آينشتاين ذكي في الفيزياء، وابن سينا في الطب، والخوارزمي في الرياضيات فبراعته تمثلت في عمق تفكيره في اختصاصه، وعليه فالذكاء يكون في الخصوصيات، وفي المقابل يكون الدهاء في العموميات، فنجد أن عمرو بن العاص وُسِمَ على أنه داهية، ويلي تلك المرحلة اختيار مساره المهني، سواءً كان أكاديمي أو مهني وتقني في حرفٍ ومهنٍ مختلفة، ومن أجل تحقيق ذلك كله يجب علينا ما يلي:
• فصل التكنولوجيا عن التعليم في المرحلة الأساسية (الابتدائية) فصلاً تاماً، وإعادة فلسفة التعليم الورقي المكتوب والملاحظ، عبر مناهج مبسطة، وسلسة تبدأ من (الجزء نحو الكل) في تكوين الصورة التعليمة السليمة والكاملة وليس العكس، والاهتمام بوسائل التعليم التقليدية بنسبة أكبر من الحديثة، فنجد مثلاً أن أكثر بلدان العالم تطوراً في التكنولوجيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية، لا زال فيها العداد اليدوي للأرقام، والطبشورة والصبورة هي التي تصنع قاعدة تعليم أساسي، وخط مستقبلي جميل ومقروء، على صعيد الفرد والمجتمع.
• تتطلب المرحلة الأساسية جيلاً واعياً، ومتفانياً من المدرسين، القادرين على التعامل مع الطفل معاملة تتـقمص شخصيته نحو اكتشاف ذاته، وتشجيعه على بناء قدراته، عبر مهارات اتصال وتواصل فعّال، ومهارات تعاطف يجيدها ويتقنها المدرس، تبنى وفق فلسفة التغيير في حاجات ومتطلبات هذا الجيل، ولنا في دولة فنلندا المثل الأعلى في هذه المرحلة الفاصلة.
• اختيار مدرسي المراحل التعليمية اللاحقة وفق تخصصية دقيقة، وخبرة في مجال الاختصاص، ووعي بالتطور الحاصل في تلك التخصصات، من مواد ومساقات مختلفة، وخضوعهم لتنمية مستمرة في تطوير اختصاصاتهم، مع البدء في إدخال وسائل التكنلوجيا المختلفة لأهميتها في تلك المرحلة، وفق حاجة كل اختصاص وتنمية استخدام الطالب لها وتعامله معها.
• إعادة مأسسة المدارس على قاعدة التشاركية والتفاعل المتبادل مع المجتمع ومؤسساته المختلفة، إضافة لإعادة إنتاجية المدارس ورياديتها بحيث تكون المدارس المهنية مهنية حقاً " تأكل مما تزرع .. وتلبس مما تصنع" وبهذا الشكل تصبح مدارس تمول ذاتها بذاتها.
وفي الختام لنطرح تساؤلاً هنا لقراء هذه المقالة، كم يعاني ابنك وابنتك -عزيز القارئ- من وزن حقيبته المدرسية، ولو وضعنا الوزن في مقابل الفهم بمعنى آخر )عناء مقابل نتيجة ومحصلة نهاية(؟ ناهيك عن الوسائل التعليمية وغيرها، الاجابة موجودة عند كل شخصٍ منكم، وتختلج في داخله، إلى متى يعود طلابنا لبيوتهم "بفهم وعقل" بلا حقيبة مدرسية مشتاقين لخروج شمس الصباح للعودة بشغف مرددين تتمة الأبيات الأولى: عدنا والشوق بأعيننا، وبذور الخير بأيدينا، عدنا وسنكمل رحلتنا، ودروب العز تنادينا.