الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

البرلمان الالماني والمقاطعة وعُقدة الذنب

نشر بتاريخ: 21/05/2019 ( آخر تحديث: 21/05/2019 الساعة: 10:53 )

الكاتب: د.وليد القططي

البرلمان الألماني (البوند ستاغ) أقر يوم الجمعة الماضي مشروع قانون تقدم به حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تتزعمه المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، يصف حركة مقاطعة (إسرائيل) المعروفة اختصاراً (بي دي أس)، بأنها حركة مناهضة للسامية، مما أدى إلى ترحيب نتنياهو بالقرار، ودعوته لبقية برلمانات أوروبا باعتماد تشريع مماثل، وبالمقابل هاجمت حركة المقاطعة القرار، واعتبرته معادٍ للفلسطينيين، وخيانة للقانون الدولي، وانقلاب على الديمقراطية الألمانية، ونكسة لمكافحة العنصرية. والقرار سيكون له تأثير سلبي على الجهود الموجهة لمحاصرة وعزل الاحتلال في أوروبا سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وأكاديمياً وفنياً. ونظراً لخطورة هذا القرار ضد حركة المقاطعة البي دي اس فمن المفيد إلقاء الضوء على حركة المقاطعة، ومفهوم اللاسامية، والجذور التي نبع منها هذا القرار، لاسيما عُقدة الذنب الجمعي الألمانية التي لازالت تحكم العلاقة بين الكيان الصهيوني والدولة الألمانية.
حركة المقاطعة بشكل عام هي حركة عالمية، تسعى إلى كشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وفضح عنصريته، ووقف كافة أشكال التطبيع معه، وتدعو إلى مقاطعة الشركات الداعمة للكيان، معتمدة على ثلاث ركائز هي: المقاطعة، وسحب الاستثمارات، والعقوبات، بهدف إنهاء الاحتلال، وتحقيق المساواة، وعودة اللاجئين. وقد بدأت الحركة في فلسطين عام 2005، وامتدت إلى مختلف أنحاء العالم، بمساعدة المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، ولم تهتم بها دولة الاحتلال في البداية، ولكن بعد أن بدأت الحركة تؤثر سلبياً على الكيان الصهيوني في مختلف المجالات، بدأ الكيان يتحرك بجدية ضد الحركة، واعتبرها خطراً استراتيجياً على الكيان، وحرّك اللوبي الصهيوني للعمل ضد حركة المقاطعة، ويأتي قرار البرلمان الألماني باعتبار حركة المقاطعة حركة مناهضة للسامية في هذا الاطار، وهذا يدعونا إلى تسليط الضوء على مفهوم اللاسامية.
اللاسامية تعني في المفهوم الصهيوني "كراهية اليهود وملاحقتهم على يد غير اليهود من حكومات وجماعات وشعوب، وذلك بسبب انتماء اليهود للشعب السامي المنحدر من سام بن نوح، حسب الرواية اليهودية، مع أن العرب ينتمون أيضاً إلى الشعوب السامية، ولكن الحركة حصرته باليهود فقط، لإظهارهم كعرق مميز له صفات خاصة دون سواه من شعوب الأرض، وقد استغلت الحركة الصهيونية (اللاسامية) لخدمة مشروعها، بإنشاء دولة لليهود في فلسطين تحت ذريعة التخلص من اللاسامية والاطهاد، ولابتزاز الحكومات الأوروبية عاطفياً وسياسياً واقتصادياً، لدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وامتد هذا الاستغلال إلى ما بعد قيام دولة (إسرائيل) لممارسة الإرهاب النفسي والإعلامي ضد كل من ينتقد إرهاب الاحتلال وسياسة الكيان تجاه الشعب الفلسطيني، ويأتي قرار البرلمان الألماني في إطار هذا الابتزاز وتحريك اللوبي الصهيوني ضد حركة المقاطعة.
ان اتخاذ البرلمان الألماني هذا القرار متقدما على كل برلمانات الاتحاد الأوروبي , مرتبط بعامل اضافي جعل ألمانيا سباقة لهذا القرار، و هو ما يُعرف بعُقدة الذنب الجمعي الألمانية، فبعد هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية عام 1945، على يد الحلفاء بزعامة أمريكا، قرر الحلفاء الانتقام من شعوب دول المحور، و قد نالت المانيا نصيب الاسد من هذا الانتقام، ومن أشكال هذا الانتقام غرس عُقدة الذنب على ما ارتكبته ألمانيا النازية من جرائم ضد البشرية، و جعلت الشعب الألماني يخجل من تاريخه ، و قد استغلت الحركة الصهيونية ذلك ابشع استغلال، فحصرت عُقدة الذنب الألمانية في جريمة النازية ضد اليهود فقط، متجاهلة جرائم النازية ضد الأخرين من غير اليهود، بل و بالغت بعدد الضحايا اليهود ربما أكثر من عشرة أضعاف العدد الحقيقي ، بغرض ابتزاز ألمانيا سياسيا و اقتصاديا لدعم الكيان الصهيوني الوليد، وخدمة الدعاية الصهيونية.
نجحت سياسة غرس عُقدة الذنب الجمعي في نفوس الشعب الألماني المهزوم بعد الحرب العالمية الثانية، و تشرّب الألمان هذه العُقدة والرغبة في التكفير عنها، محمّلين بالإرث المسيحي حول توريث الخطيئة للأجيال اللاحقة، و بإمكانية تكفير الأجيال الحاضرة لخطايا الأجيال السابقة. و قد تُرجمت هذه العقدة عمليا و الرغبة في التكفير عنها في اتفاقية لوكسمبرج عام 1952 بين الحكومتين الألمانية والإسرائيلية، والذي تعهدت فيه ألمانيا تجاه (إسرائيل) باعتبارها ممثلا لحقوق اليهود و الذين دخلوا المعسكرات النازية أو قتلوا فيها، التزمت بتعويض اليهود الناجين و تعويض الحكومة الإسرائيلية باعتبارها ولي الدم اليهودي في كل العالم، ومنذ هذا الاتفاق دفعت ألمانيا لدولة ( إسرائيل ) ما يقرب من تسعين مليار دولار، على صورة تعويضات مالية، وتحويل صفقات سلاح، وغواصات نووية كهدايا وغيرها من طرق المساعدات.
وبعد مرور أكثر من سبعة عقود على نهاية الحرب العالمية الثانية والمحرقة النازية لازالت عُقدة الذنب الجمعي الألمانية تتحكم في سياسة الحكومات الألمانية المتعاقدة وهو ما عبرت عنه المستشارة الألمانية انجيلا ميركل مؤخرا بقولها: " نحن كألمان مسؤولون عن الأمور التي حدثت أثناء الهولوكست و المحرقة اليهودية إبان الحقبة النازية، إن هذه المسؤولية مستمرة وكل حكومة ألمانية ستضلع بها ". الكيان الصهيوني يعرف كيف يستغل هذه العقدة كما أوضحت ذلك الناطقة باسم السفارة الإسرائيلية في برلين بقولها: "إن شعور الألمان بعُقدة الذنب تجاه المحرقة النازية يخدم وزارة الخارجية الإسرائيلية، إن مصلحة (إسرائيل) تقتضي صيانة شعور الألمان بالذنب، ومن دون هذا الشعور نغدو مجرد دولة كباقي الدول في نظرهم".
السؤال المطروح هو الى متى يمكن ان تصمد دولة على قيد الحياة تعيش محملة بعُقدها الخاصة، وتستمر حياتها على عُقد الآخرين، وتغرق في مازقها الوجودي وعُصاب المصير الخاص بها.؟!