الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

غابوا وإن حضروا!

نشر بتاريخ: 25/06/2019 ( آخر تحديث: 25/06/2019 الساعة: 18:00 )

الكاتب: ابراهيم ملحم

ليس ثمة ما هو أقرب إلى المعنى الحقيقي للغياب في قاموس المعاني ودلالات الألفاظ، سوى ذلك الحضور الباهت لكل مَن شارك في ورشة المنامة، التي ترمي إلى الانتقاص من الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، عبر طلاء وجه الاحتلال بدهان التنمية والازدهار، فيما الحقيقة تقول إن تلك الورشة ما هي إلا محاولةٌ لتعميق الاحتلال، وتكريس الاستيطان، وتقويض جهود السلام في المنطقة والعالم باحتضانٍ وحضورٍ عربيٍّ مُخجل .
وإذا كان الصّبُّ تفضحه عيونه كما قالت العرب، فإن ترامب وبطانته من غلاة المتطرفين أمثال الثلاثي (كوشنر وغرينبلات وفريدمان) تفضحهم ألسنتهم التي لم تتوقف عن الثرثرة على ضفاف الأوهام وأحلام التنمية والازدهار، وادعاء الحرص على رفاهية الشعب الفلسطيني، فيما تكشف سياساتهم ومخططاتهم وارتباك خطواتهم بفرض الحصار وتعميق الاستيطان، وبالدعوة إلى ضم أجزاء من الضفة الغربية، وتجويع اللاجئين بإلغاء الأونروا، حقيقة توجهاتهم وتهافت ادعاءاتهم.
وبينما تحضر فلسطين اليوم بقوة في الحناجر المجروحة بصيحات الحرية في شوارع المدن والقرى والبلدات والمخيمات في الوطن والشتات وفي قلوب الملايين من العرب والمسلمين والأصدقاء المناصرين في أربعة أرجاء الأرض، فقد بدا حضور الحاضرين في "ورشة الازدهار" بطعم الغياب الذي لا تبدده كلّ الادعاءات التي سيقت لتسويغه، كالحرص على مصالح الشعب الفلسطيني الذي أعلنت قيادته الشرعية منذ اليوم الأول للإعلان عن الورشة رفضها المشاركة فيها، ومطالبتها كلَّ من تلقى الدعوة بعدم المشاركة في ورشةٍ يحاول القائمون عليها تخليق حلول خارج رحم الشرعية الدولية، وهو ما قوبل برفض وعزوف العديد من دول العالم عن المشاركة في ورشةٍ تُعمق الاحتلال وتُقوّض جهود السلام.
وحيداً إلّا من التفاف شعبه حول مواقفه، وإسنادٍ كاملٍ من رفاق دربه والمناصرين لعدالة قضيته، يقف أبو مازن كصخرةٍ خليليّةٍ لا تتأثر بعوامل التعرية، في وجه العاصفة ورياحها العاتية، لا يخضع للذّهب ولا للسّيف، لا تخدعه الوعود ولا يُرهبه الوعيد، واثقاً بصمود شعبه، وثباته على مبادئه، وثقته في اجتياز المخاضة الملتبسة والإقلاع بالسفينة بحكمةٍ ويقينٍ لبلوغ شاطئ الأمان بعد إفشال الصفقة وتفريخاتها بالاتكاء على أسلحة الحق والعدل والحرية والديمقراطية في مواجهة غطرسة القوة، ونزعة الاستعمار والتوسع الإسرائيلية.
قوة الموقف ووحدته وسطوعه أدت إلى تفكيك الصفقة وتبهيتها وارتباك فريق إعدادها بالإرجاء المتكرر للإعلان عنها، ما يعكس حالة الارتجال التي يدير بها ذلك الفريق دفّة الدبلوماسية الأمريكية التي طالما حافظت على حدٍّ أدنى من الرّصانة الدبلوماسية، والحصافة السياسية، بالرغم من انحيازها الأعمى للسياسات الإسرائيلية، إلا أن فريق الصفقة الذي يتعامل مع القضية الفلسطينية بطريقة تعامل السماسرة وتُجار العقارات في "وول ستريت" أطاح بتلك التقاليد، وبهّت من صورة الولايات المتحدة كدولةٍ عظمى، ما أفقدها أهليتها في ممارسة ما ظلت تمارسه طيلة العقود الماضية كوسيطٍ لحل الأزمات وتسوية النزاعات.
ولعله من موجبات الأمانة التاريخية والمسؤولية الوطنية الإشادة بحسن إدارة الرئيس محمود عباس لملف الصفقة منذ اللحظة الأُولى التي تبدت فيها خيوطها المنسوجة بأصابع إسرائيلية ورعاية أمريكية كاملة، تمثلت بالسحب السريع لجميع الملفات الأساسية عن طاولة المفاوضات، ما جعل الولايات المتحدة في موضع الخصم والشريك في العدوان على الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، ماأفقدها أهليتها في ممارسة أيّ دورٍ للوساطة، فحجم الضغوط التي تعرض لها أبو مازن، ولا يزال يتعرض لها، من الولايات المتحدة ومَن شايعها لتسويق صفقتها لا يتحملها سوى رجلٍ يتمتع بجسارةٍ استثنائية، مستشعراً خطورة اللحظة التاريخية الحرجة في مواجهة كل تلك الضغوط بقوةٍ وحكمةٍ وثبات، وهو ما دفع أحد الكتاب الإسرائيليين إلى القول: "إن الزعيم الفلسطيني المخضرم يتمتع بمكانةٍ أكثر استقراراً من غيره من الزعماء في المنطقة، فهو وحده مَن يمتلك حق النقض "الفيتو"حتى ضد قوةٍ مثل الولايات المتحدة".
في المعركة المتدحرجة على الحق والحرية والكرامة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، يقف الموظفون في القطاع العام ومنتسبو الأجهزة الأمنية كسنان الرمح في معركة المصير غير آبهين بأكلافها ولا ما أصابهم من تداعياتها بنقص من الأموال والأنفس والثمرات، يحرسون الوطن برموش عيونهم، ووجع معاناتهم، معتصمين بالصبر الجميل وبالإيمان الراسخ وباليقين بما جاء في الذكر الحكيم: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين).
في جدول الأعمال المسرّب لبرنامج الورشة هزيلة التمثيل، وساذجة البرنامج، وفاقدة الشرعية كما وصفها دولة رئيس الوزراء د.محمد اشتية، تبدو "استراحة القهوة" على سلّم أولوياتها وفي صدارة اهتمام المنظمين لها، فـ"السامر البحريني" لا ينعقد إلا باستراحة قهوةٍ يعرف منظمو الورشة عمق معانيها ودلالاتها في الضيافة العربية الأصيلة، وهي ضيافةٌ سرعان ما سيشعر مقدموها في المنامة بحجم الخيبة وفداحة الندامة.
عشية انعقادها الباهت، باتت "ورشة الأوهام" كباقي الوشم في ظاهر اليد، وغدت بحكم المنتهية قبل أن تبدأ، وما التصريحات الصادرة عن منظميها ومُنظري أوهامها بـ"تقليصٍ مقصودٍ" لحجم الحضور فيها بسبب مقاطعة الفلسطينيين لها، كما جاء على لسان سفير الاستيطان ديفيد فريدمان، سوى محاولةٍ لمُداراة الفشل المدوي الذي مُنيت به أمام قوة الموقف الفلسطيني وشجاعته، وتهافت ادعاءات المنظمين لها بتوفير المليارات لإنعاش الاقتصاد الفلسطيني، الذي يشكل الاحتلالُ وتوسُّعُ الاستيطان السبب الرئيسي في تراجعه، وفي تفاقُم معاناة الشعب الفلسطيني جراء مواصلة السطو الإسرائيلي على مقدراته.
وبينما تخوض منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني معركة المصير بإفشال جميع المخططات الرامية للنيل من الحقوق الوطنية المشروعة التي أقرتها الشرعية الدولية، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 بعاصمتها القدس الشريف، فإن حكومة الشعب الفلسطيني برئاسة الدكتور محمد اشتية تواصل منذ اليوم الأول لتوليها مهامها تعزيز قيم العدل والحق والحرية والتعددية، باعتبار تلك القيم قرينة للديمقراطية، مع التأكيد على احترام المعارضة الوطنية باعتبار ذلك من أُسس النظم الحديثة التي تتمتع بالثقة والعافية السياسية، مثلما تعمل الحكومة على تعزيز قيم البناء والعمل، وإشاعة الأمل، واستنهاض الهمم عبر خطةٍ استراتيجيةٍ للانفكاك التدريجي عن الاحتلال، تقوم على تشجيع الإنتاج الصناعي والزراعي والسياحي؛ بإنشاء المدن الصناعية، وخلق مشاريع ريادية تنموية عنقوديّة، وتعزيز الاستثمار للحد من البطالة وتقليص أحزمة الفقر، ولا سيما في قطاع غزة، وتوفير البيئة الحاضنة للتعليم التقني والتدريب المهني، وتعزيز الاستثمار، واحترام الدور الذي تضطلع به السلطة الرابعة بإشاعة أجواء الحريات العامة والشفافية في الإدارة الحكومية.
ونحسب أنّ أبلغَ درسٍ ينهض من بين أذيال الفشل والخيبة التي تجرها ورشة المنامة هو أنّ غياب المسار السياسي يُقوّض أيّ فرصةٍ للسلام، وينال بقسوةٍ من أيّ جهودٍ أو رهاناتٍ على تحقيق السلام بغطرسة القوة ونزعة التوسع، وبتجاهلٍ كاملٍ للمرجعيات الدولية، فالاحتلال هو المُسبب الأول والأخير لانسداد أُفق السلام، ولغياب البيئة الحاضنة والمشجعة للتنمية والازدهار التي يتباكى عليها منظمو "ورشة الأوهام"، ولا فرص لنجاح أيّ مُقارباتٍ اقتصاديةٍ من دون حضورٍ فاعلٍ ومتوازٍ للمقاربة السياسية، فتنحية السياسة وصفةٌ لفشل أيّ محاولاتٍ مماثلةٍ تتعامل مع الحقوق الفلسطينية المشروعة من بوابة إنسانية.
خدعة الـ50 مليار دولار المرصودة لبيع أوهام السلام التي يبشر بها كوشنر ليست سوى سرابٍ وقبضِ ريح، لن يجد رجل العقارات من يشتريها منه دون أن يسبقَها حلٌّ سياسيّ يعترف بحل الدولتين، وبالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حقه في إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 بعاصمتها القدس الشريف؛ ذلك أن ارتباط السياسة بالاقتصاد كارتباط الإطارات بالسيارة بدونها لن تتحرك قيد أنملة.
ويحضر بالمناسبة قول الشاعر أمل دنقل:
(أترى حين أفقأ عينيك
ثم أُثبت جوهرتين مكانهما..
هل تَرى..؟
هي أشياء لا تُشترَى).