الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

ما بَيّنَ قَيْد الوَظيفية ومِفتاح العمل الحُّرْ ... (متى تَسْتَثْمِرْ

نشر بتاريخ: 30/09/2019 ( آخر تحديث: 30/09/2019 الساعة: 12:47 )

الكاتب: صخر سالم المحاريق

الحُرِّيَّة تعني إلى أي مدى أنت في حلٍ من القيود، والتي أهمها (قيود الذات) بغض النظر عن شكلها أو مستواها أو بساطَةِ تَركيبها أو تَصنيفها، فإن أي عائِقْ يسلبك القَرارَ والإرادة في تحقيق تلك الحُرِّيَّة يعتبر قيداً وعبودية، مهما بلغ في بساطتِهِ أو سذاجَتِهِ، وهنا أقصد شخصياً بالحُرِّيَّة؛ مدى قدرتك وإرادتك على التخلص من القيد، ومدى حثك وبحثك في قَرارِ نَفْسكَ عن ألف سبيل وطريق لذلك، فأنت بذلك حُراً ولو في ذاتك وهو الأهم وإن لم تَبْلُغْ مُبتغاك، أما سوى ذلك فلا أسميك إلا عبداً، وستبقى رهن قيدك وإن أبيت الاعتراف العلني بذلك.
عزيزي القارئ الكريم ... أنا لا أدعوك لكي تكونَ عبداً للمال تأتَمِرُ بِهِ وتَنْتَهِ بأمره أيضاً، فإنَ لكل شيءٍ إذا ما تم نُقصان، ولكن النُقصان هو أيضاً بقدر، وهناك فَرَض وحالة في هيئة فعلٍ يُبيحُ ويُتيحُ لنا جميعاً المقارنة وهو يسمى "المفاضلة" بين الأشياء من وسائل وبدائل، وهذه سمة العقل الواعِ، وإني أعلم علم اليقين بأهمية كلا المسارين (الوظيفة، والعمل الحر أو الخاص)، فكل منهما يقود إلى الآخر، ولكن بدرجة أقل بكثير من مستوى الحرية في الشق الوظيفي، فالعمل الحر هو تشغيل للذات وأيضاً للذوات من الآخرين، ولكن من يَمْلك الكل ليس كمن يملك الجزء اليسير، ومن يملك قطعة الكيك بكاملها، يوزع منها ما يشاء وكيفما يشاء، ليس كمن يُقْسَمُ له البضع اليسير منها، فالذي يصْنَعْ ليُحَّلي ليس كالذي يشاهد ليَتَحَلى.
فمن يملك وقته ليس كَمن يُفرض عليه، ومن يَكْتب إذن المُغادرة ليس كَمَنْ يَطلبه منتظراً، ومن يَفْرِض بَصْمة للدخول والخروج، ليس كمن يَبْصُمُ داخلاً وخارجاً صباحَ مساءْ، والذي يصيغ الرؤى الحالمة ويضع الأهداف الواعدة، ليس كالذي يعمل على تنفيذها لحساب غيره، والذي يطرح الأفكار ليس كالذي يملك الاستثمار فيها، والذي يملك الحساب البنكي والمحاسبة عليه وبه، ليس كمن ينتظر الأجر والراتب نهاية كل شهر... إلخ، وما هذه إلا بضعاً أو بعضاً من المقارنات والمفاضلات، والتي أَسْلَفْت ما بين (الوظيفية والعمل الحر) تجاه مفهوم "الحرية" ونقيضه في المعنى "العبودية".
أما التساؤل الأهم والذي سَيَضعك كموظف في مُفاضَلَةٍ مع قَرارِ نَفْسِكْ، هَلْ تملك قرار نفسك كموظف؟ أم هو القرار من يملكك، وعلى الأغلب هو "قرار غيرك"، وما نسبة المتحصلات المرجوة والمنشودة فيما يسمى "بالرِضا الوظيفي"؟، ومواءمتها معنوياً ومادياً (اقتصادياً)، مع مجهودك في نهاية كل يوم عمل لك، وأيضاً في نهاية المطاف على دِّكَة "التقاعد"، ألا تستقبل يومياً أوامر مشغليك فهل تصنعها؟ حتى وإن تم إقناعك بمستوى من المسؤولية والصلاحية، فهي تتحكم بك كما تحكم غيرك وبنفس الطريقة، إلى أي مدى لديك النفس بالانتظار، والتسلق، والتملق، لتحصل على رضا مشغليك وإن كانت حالة من الهراء على النفس والغير، لتحصل عبرها على النذر البسيط، والذي أجزم أنه لن يتجاوز زيادة بسيطة في قطعة الكيك السابقة، (فالواسطة، والمحسوبية، والتملق، والتسلق، والنفاق الوظيفي، والفساد الإداري، وسباق سلم الترقيات، والمكافآت المشروطة، وعقود العمل، والمقتطعات، والتسويف، والنظر للإنسان كآلة، وكعنصر من عناصر الانتاج، والراتب، والأجر، والبصمة، وسن التقاعد والصلاحية للستين، إلى أن نصل لعبارة لقد انتهت خدماتك راجع المحاسب ... إلخ)، أليست هذه جميعاً أشكالاً متنوعة من العبودية، وهنا لا أعمم.
إن الصراع القائم اليوم في شيءٍ من "الجدلية"، حول المسار المهني المثالي لبلوغ الطموح وما ترنو إليه الأحلام، ما بين العملِ بأجر "الوظيفي" والعملِ "الحر أو الخاص"، ومن سعيٍ حثيثٍ للأفراد في بلوغِ الدرجاتِ العَّليَةِ من هرم ماسلو للحاجات، وخاصة سلم تحقيق الذات وتقديره حتى ما هو دون ذلك من حاجات أساسية للبقاء، ما هو إلا حالة من الملل والاحباط الشديدين، تقف على إرادةِ وقَرارِ ومَقْدِرَةِ صاحبها، إلى التَحَوُلِ من الروتين المعهود في العمل الوظيفي، إلى التغيير المنشود في العمل الحر، ومن الارتباط المشروط إلا الحرية المطلقة، وإن حديثي هذا ليس من باب التَّهَكُمِ على "العمل الوظيفي" وأنا أحد شاغليه، وإنما هو نظرة في العمق، وفي الإطار العام لكل مسارٍ منها، ومدى تحقيقه لرضا الفرد عن نتائج أعماله معنوياً ومادياً، وما يكسبه من كَفافٍ في سداد تلك الحاجات والرغبات، والتي يرْنوها بناظريه ويراها صعبة المنال، فبريق الوظائف فقد لمعانه ومنذ زَمَّنْ، حينما انتقلنا بأنفسنا لعالم الماديات، والتي طفت على السطح وأصبحت المقياس اليوم، فسلة المشتريات اليومية أصبحت حملاً ثقيلاً، ولا يكفيها ضعفي الراتب المُعطى،(فالسيارة، والثلاجة، والغسالة، والهاتف، والانترنت، وربطة الخبز، وأسطوانة الغاز، ولتر البنزين، والفوط الصحية للأطفال وحليبهم) جميعها غدت من الأساسيات ولا جدال فيها، كما أنها لا تُؤْخَذُ بِعَيْنِ الاعتبار ولا ينظر فيها كزيادة حينما تستلم راتبك أو تستلف نصفه ديناً، على الحساب غير المعلوم.
فوظيفة (المدرس، والمعلم، والمهندس، والمحامي، والعامل، ... إلخ)، غَدَّتْ في هيئتها شيئاً من بريستيج القرن الماضي وأحلام سِنِّيْ (الستينات، والسبعينات، والثمانينيات)، فلا تَنْدُبَنَ حظك ولا تَنْدَمَنَ على وقتك، فالأمر برمته يقف اليوم على أعتاب قرارك أنت، في ذلك التحول نحو ذاتك ووفقاً إلى إرادتك أنت وحدك، وإني هنا لا أزين لك طريق الأعمال الخاصة أو الحرة، فهي لَيْسَتْ بالنزهة، وإنما لها ما عليها من محددات وظروف، تساهم في صناعتها وتحقيقيها، ولكن في نهاية المطاف إذا ما تمت ... فإنها ستنقلك إلى خير ما يرام، خير ما يرام في رضاك النفسي، وما يرام في الأفق الأوسع من ذلك، “ولكل أمرؤ ما نوى إليه” كما قال ، وللناس قدرات وهوايات، وللتنمية مسارات لك أنت الخيار في المُضّي بركبها كيف ما تشاء وبالمسار الذّي تشاء، وقد كان لي مقالة سابقة بعنوان "ريادة الأعمال وسلم النجاح"؛ تناقش الأمر من منطق "العمل الحر"، والذي أسعى شخصياً إلى تكريسه في ما أعلم، كسبيل آخر للتشغيل الذاتي في ظل البطالة المستشرية، ولأجل النهوض بالشباب من محطة الخريجين والمنتظرين لفانوس الوظيفة نهاية ذلك النفق المظلم، وأختم بمقولة المفكر الأميركي المرموق ناعوم تشومسكي عن الفروقات البسيطة بين عبودية الرقيق وعبودية الموظفين، فيقول في أحد لقاءاته: “قديماً كان الرقيق يُباعون ويُشترون، أما الآن فإن البشر يُؤجرون، ولا يوجد فرق كبير بين أن تبيع نفسك وأن تؤجر نفسك” فإن كثير من الناس اليوم يُضيع الفرص لأنها ترتدي (زي العمال، وتبدو كالعمل( كما قال أديسون.