السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الرئيس أبو مازن.. لاعب على حواف الخطر

نشر بتاريخ: 11/10/2019 ( آخر تحديث: 11/10/2019 الساعة: 16:03 )

الكاتب: ناصر دمج

ثبت للجميع بأن الرئيس "أبو مازن" لديه من الخبرة واليقين السياسي، ما مكنه من مقارعة الخصوم والدول التي تمتلك خبرات سياسية ودبلوماسية فذة وعريقة، لأنه لاعبهم وهو يقف على حافة الخطر بمهارة السياسي المجرب والمحترف.
ويمكن الاستدلال على وجود هذه الحقيقة من خلال ما يقوم به الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" من مراجعة للسياسات الأمريكية في المنطقة العربية، وهي مراجعة ستشمل إعادة بناء آليات التعامل الأمريكي مع الملف الفلسطيني، وهذه نتيجة لم يتم الوصول إليها بسبب رغبة الرئيس الأمريكي بالانكفاء إلى الداخل طمعاً وحباً بتوفير المال على الخزانة الأمريكية وجلب المزيد منه.
بل، كان هناك العديد من العوامل التي ساهمت في توصل الإدارة الأمريكية لما توصلت إليه من استنتاجات، ومنها موقف الرئيس أبو مازن من صفقة القرن، ورفضه العنيد للتساوق معها بأي شكل من الأشكال.
حيث قدم الرئيس أبو مازن لعالم العلاقات الدولية، تجربة جديدة، قوامها إنه يمكن للدول والكيانات الصغيرة أن تقول (لا) كبيرة للدول العظمى، وهذا ما أنطوى على تحطيم كامل لمبدأ الخارجية الأمريكية المعمول به من بعد الحرب العالمية الثانية، والقائم على أن الدول الصغرى مطالبة بالانصياع لمشيئة الدول الكبرى لأن في انصياعها تحقيق لمصالحها التي لا تدركها بعد.
وهذا يذكرني بالحديث الذي دار بين المبعوث الأمريكي لبيروت خلال حصارها في عام 1982م "فليب حبيب" والمرحوم "هاني الحسن" مندوب الرئيس عرفات لمفاوضة (فيليب حبيب والسّفير موريس درابر) من خلالِ "شفيق الوزّان" رئيس وزراء لبنان زمنذاك، حيث عرض "فليب حبيب" على "هاني الحسن" فكرة مفادها أن الإدارة الأمريكية ستعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في حال وافقت القيادة الفلسطينية على مغادرة بيروت، أي أن الرّئيسُ رونالد ريغان سيُلقي خطاباً بنفسِه ِ للإعلانِ عن هذا الاعتراف.
لكنْ بعدَ أنْ يعتلي المقاتلين الفلسطينيين المُحاصرونَ وقادتُهم السُّفنَ، وهذا وفقاً للنصِّ الحرفيِّ الذي نقلهُ "هاني الحسن" للقيادةِ الفلسطينيّةِ المُحاصرةِ، التي وافقت عليهِ بالإجماعِ، لكنَّ الإدارةَ الأمريكيّةَ لم تفي بوعدِها إطلاقاً، حتّى بعدَ أنْ أصبحَ المُقاتلونَ وقادتُهم في عرضِ البحرِ، وكانَ لهذا التنصل الأمريكي أثراً كبيراً في تكريسِ هزيمةِ منظّمةِ التّحريرِ السّياسيّةِ بعدَ العسكريّةِ.
بعد مرور فترة من الزمن على هذه الواقعة قام "هاني الحسن" بزيارة "فليب حبيب" الذي كان يخضع للعلاج في مشفى بيرسي في العاصمة الفرنسية باريس، فعاتبه على قام به، فكان جواب فليب حبيب حرفيا [خي هاني، مين قلك أنو الدول الكبرى لازم تفي بوعودها، هذا ليس من عاداتها ولا من قيمها، إنما هو من واجبات الدول الصغرى، وتلك الدول مطالبة بتصديق أكاذيب الدول الكبرى؛ وهي تسعى لتحقيق المصالح المشتركة، غير ذلك سيعيق سلاسة العلاقات الدولية ويدفع العالم للفوضى العارمة].
إذن، هو قدرنا من وجهة نظرهم، وعلينا أن نتكيف معه ونوائم استراتيجاتنا الوطنية على هواه، وهو أمر يجعل من حرية أوطاننا أمراً بعيد المنال، وكفاحنا الوطني جهداً لا يرجى أي طائل منه.
لهذا رسمت كلمات الرئيس أبو مازن الثاقبة وهو يرفض صفقة القرن، فاصلاً بيانياً حاداً وشديد الأثر بين عهد الانصياع التام والقبول غير المشروط بما يتفوه به الأمريكي، وبين عهد الرفض العلني والصريح لكل ما يمس بحقوقنا ويتسبب باضمحلالها وذوبانها.
يعني ذلك، أنه تم تحطيم العديد من القواعد الحاكمة للعلاقات الدولية، من بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمتها أثر الوزن النسبي للدول في تحديد مواقفها السياسية والاقتصادية، بعد أن قامت دولة صغيرة وخاضعة لسلطان الاحتلال العسكري الأجنبي، برفض طلبات دولة عظمى ما تسبب بتعطيل أكبر خطوة لها كان من المتوقع أن تذهب بالحق الفلسطيني إلى الدرك الأسفل من الجحيم.
وهو ما شكل نقطة توقف لدى العديد من دول العالم التي أبهرها الأداء الفلسطيني على قلة خياراته المادية، لكن حسن الفطنة والتدبر؛ وعبقرية الاستثمار في أصغر العناصر المتاحة وتوظيف الوزن النسبي للشأن الفلسطيني، كان له عظيم الأثر في بلورة موقف سياسي عنيد؛ بدد اعتقاد الآخرين بأنه من حقهم التضحية بنا.
وهنا أتذكر مقطع مهم من مذكرات "بيير الجميل 1905م – 1984م" مؤسس حزب الكتائب، الذي دعا الرئيس ياسر عرفات لمشاركة حزب الكتائب اللبناني الاحتفال بالذكرى الأربعون لتأسيس الحزب في عام 1972م، حيث قال: للرئيس عرفات، "يا أبو عمار إذا إنت مش واثق من أن إسرائيل ستعطيكم شيئاً فلا توقع لهم أو لغيرهم على شىء".
إن اعتصام الرئيس أبو مازن بما اعتصم به من مواقف، يشبه موقف الأسرى الذين يضربون عن الطعام، ويرفضون التوقف دون تحقيق مطالبهم، فهم في الحقيقة لا يملكون أي سلاح للدفاع به عن أنفسهم، لكنهم يملكون أهم شىء في المعركة، وهو قدرتهم على إنهاءها، رغم أن سلاحهم ليس بسلاح مادي؛ لكنه صاحب الأثر الكلي في صراع الإرادات بين إدارة المعتقل وبينهم، وهو سلاح لا يمكن الوصول إليه من قبل العدو ولا يمكن تحطيمه.
لهذا كان العالم أجمع يراقب المتغيرات التي من الممكن أن تظهر على موقف الرئيس من صفقة القرن، وهو موقف لم يتغير قط، ما زاد من تقدير العالم للمواقف الفلسطينية التي تخللها العديد من الانجازات الدبلوماسية الهامة في ساحة الأمم المتحدة وإقرار العديد من القرارات المؤيدة للكفاح الفلسطيني ومنها قرار الجمعية بأهمية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967م، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وضرورة إيجاد حل شامل ودائم للقضية الفلسطينية- الإسرائيلية، ودعوة إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني.
وقرار التأكيد على حق الفلسطينيين في تقرير المصير حصل على تأييد 176 دولة ومعارضة سبع دول -بينها إسرائيل وأميركا- وامتناع أربع، وقرار التأكيد على حق الفلسطينيين في استغلال مواردهم الطبيعية، وقرار رفض أي إجراءات لتغيير الوضع في القدس، وهو ما يعني رفض القرار الأميركي اعتبار المدينة المقدسة عاصمة لإسرائيل، وقرار اعتبار الاحتلال الإسرائيلي عقبةً أساسيةً في وجه المرأة الفلسطينيّة، ويعتبر أنّه لا يعيق تقدّمها فحسب، بل يحرمها من أبسط حقوقها الإنسانيّة التي تكفلها لها القوانين الدولية.
وترأس فلسطين بتاريخ 15 كانون ثاني 2019م لمجموعة الـ77 الصين بمقر الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتراجع العديد من الدول عن قرارات لها بنقل سفاراتها للقدس المحتلة.
انعكاسات الموقف الفلسطيني
يمكنني القول: بأن الموقف الفلسطيني ساهم مع غيره من العوامل في قيام الرئيس ترامب بعملية مراجعة شاملة للدور الأمريكي في المنطقة، كموقفه من الخصومة القائمة بين إيران ودول الخليج العربي، وسحبه للقوات الأمريكية من شمال سوريا، وتنصله من العلاقة مع الأكراد في تلك المنطقة، وهذه مواقف تضر بطريقة أو بأخرى بسياسات ورغبات إسرائيل، ما يمهد عقلياً لاتخاذ المزيد من المواقف الأمريكية الانكفائية مستقبلاً، والقائمة على توزين انتاجية السياسات الخارجية ومدى فائدتها وضررها بالنسبة للخزينة الأمريكة.
وهو المعيار الذي يستخدمه ترامب لحذف أو تثبيت سياساته الراهنة، وهذا معيار تم تعزيز واقعيته من قبل الأطراف المناهضة للمواقف الأمريكية، وفي مقدمتها الموقف الفلسطيني.
مواقف مشابهة كفيلة بانتاج المزيد من الانتصارات
بعد مرور سبعين عاماً على قيام إسرائيل، يبدو أن الإسرائيليون أقل ثقة بحلم الاستقلال، لأن المقطع الأول من حلمهم ما زال مشوشا ويعاني من عدم الصفاء، فلم يختفي الفلسطيني من المنطقة الواقعة بين دائرتي عرض 29.30 ـ 33.15 شمالاً وخطى طول 34.15 ـ 35.40 شرقاً، وما زالت المنطقة نفسها تعج بالسكان العرب الفلسطينيين.
ولأن دائرة الإحصاء الإسرائيلية أخبرت العرب واليهود في هذه الديار، بأن عدد السكان العرب مع بداية عام 2018م بات أكثر من عدد اليهود، وأن هذا الفرق سيزداد على وتيرته حتى يصبح اليهود أقلية حقيقة قبل عام 2048م أي عندما يصبح عمر إسرائيل 100 عام.
وهذا يعني ببساطة أن المشروع الصهيوني باء تطبيقه بالفشل، وهذه نتيجة مباشرة لممارسة العربي الفلسطيني لمهاراته في حب الأرض والتمسك بها.
نجاح الرئيس أبو مازن يكمل دائرة الأمل
مطلوب من الرئيس "أبو مازن" مواصلة ما بدء به، لأنه حتما سيقود إلى المزيد من تعزيز الصمود وتعميقه، وهو هدف ينبغي أن يكون مقترناً بالعديد من الخطط واستراتيجيات العمل، التي من شأن تظافرها أن يصنع لشعبنا شبكة العبور للمحنة وتجاوز المكيدة، وفي مقدمة تلك الاستراتيجيات محاربة البطالة والفقر والمضى قدماً في إجراء الانتخابات العامة.