الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

صناع التاريخ ومدرسو التاريخ

نشر بتاريخ: 19/02/2020 ( آخر تحديث: 19/02/2020 الساعة: 21:49 )

الكاتب: اللواء الدكتور محمد المصري


يخطئ كثيراً من يعتقد أن خطاب الرئيس محمود عباس كان بمثابة خطوة إلى الوراء. ويخطئ أيضاً من يعتقد أن خطاب سيادته كان ضعيفاً أو ناقصاً أو لم يعبر عن الحالة الفلسطينية والعربية وحتى الدولية.
لماذا نقول هذا الكلام؟!
نقوله لأن خطاب السيد الرئيس أمام مجلس الأمن كان مصمماً لمخاطبة العالم الذي هو ليس جمعية خيرية ولا منظمة إنسانية. كان الخطاب موجهاً إلى قوى كبرى لها ضغوطها ومصالحها ومطامعها وتحالفاتها، وما نحن في هذا العالم الظالم سوى شعب صغير أعزل ومشتت ويراد له أن يشطب عن الخارطة، فما هي قوتنا إن لم تكن في مواقفنا وكلامنا واعتصامنا بما نعتقد أنه الحق والمقاومة. خطاب الرئيس من هذه الناحية كان موجهاً إلى هؤلاء ليرفض صفقة القرن دون أن يمتلك دبابة واحدة أو طائرة واحدة، فإن ذلك يحسب له. لن نختلف على اللغة، الرئيس قال ذلك بلغة قد يعترض عليها معترض، ولكن الرئيس قال ما أراد وقال ما أراده شعبه. لن نختلف على الشكل، فالمضمون هو الأهم. هناك منا من يعترض على جملة هنا أو هناك، وبرأيي أن ذلك كان بسبب الضغوط أولاً ثم بسبب أن هذه هي لغة العالم ثانياً. إذا أردت أن يقف العالم معك، فعليك أن تتحدث كما يتحدث.
هذا أولاً، أما ثانياً، فإن الرئيس محمود عباس حدد الموقف الفلسطيني بثلاثة أمور، هي: رفض صفقة القرن وبالتالي وضع سقفاً لا يمكن تجاوزه من قبل أي فلسطيني أو عربي أو غيرهما، وبذلك سحب عن هذه الصفقة صفة المرجعية أو القبول أو الشرعية، ثم أن الرئيس طرح الرؤية البديلة للتسوية التي تقوم على عقد مؤتمر دولي للسلام برعاية متعددة، وحتى لو لم نكن قادرين على عقد مثل هذا المؤتمر، ولكن مجرد طرح هذه المبادرة يعني أن هناك بديلا، وأننا لا نرفض لمجرد الرفض وأن الكرة في ملعب المجتمع الدولي. وبالتالي، لا يجب النظر إلى هذه الفكرة وكأنها دليل ضعف أو تهرب أو شراء وقت. المشكلة أن هناك بعض الكتاب أو المحللين الذين يعتقدون أن مجرد معرفتك "بالصواب" كفيل بأن يجعلك في منأى عن الخطأ أو الوقوع فيه. في السياسة لا يكفي أن تعرف الصواب، بل عليك أن تعرف متى تستخدم هذا "الصواب" وكيف وأين. أليس هذا هو بالضبط الذي يجعل من "القائد" قائداً ومن "المثقف" مثقفاً؟!
عندما تكون في "الدائرة المريحة" أو تعتقد أنك تكتب عن "الدائرة الصحيحة" هذا لا يعني أنك تمتلك "الحقيقة"، في السياسة الحقائق مجرد تسويات ووجهات نظر. ولا نقول ذلك للتهوين أو التفريط أو التضليل، بل نقوله لأننا مدركين كم هي الضغوط التي يعانيها الرئيس، وبصراحة نقول، بأن الرئيس قد يشعر أنه مكشوف الظهر في بعض الأحيان نتيجة بعض المواقف الغامضة أو الغائبة أو الرخوة أو الضاغطة.
المسألة الثالثة التي أكد الرئيس عليها في خطابه هي مسألة البحث عن شريك إسرائيلي للسلام، وبرأيي أن الرئيس كان معنياً بإظهار أن القيادة الإسرائيلية الحالية هي قيادة متطرفة وعنصرية أمام العالم كله. كان الرئيس معنياً بالقول أن هذه القيادة هي قيادة ترعب جمهورها وتأخذ نظامها السياسي إلى حرب لا تنتهي. وبالتالي، فقد عمد الرئيس إلى التوجه إلى الجمهور الإسرائيلي للتأثير عليه، ولا نعتقد أن لقاءه بأيهود أولمرت كان من أجل احياء أولمرت أو دفعه إلى الحياة السياسية الإسرائيلية، بل كان من أجل ألا يتصدر نتنياهو المشهد، وأن تكون هناك نسخة أخرى من نسخ التفاوض التي تم اجهاضها من قبل أطراف متطرفة قذفت بأولمرت في السجن، فالمحاكمات في إسرائيل سياسية، ونتنياهو يعرف ذلك جيداً ولهذا فهو يستميت من أجل أن يقنع تلك الأطراف في أمريكا وإسرائيل أنه بطل وليس مجرد لص خائن للأمانة.
لقاء الرئيس بأولمرت كان من أجل القول أن هناك شريك وهناك مفاوضات وهناك أمل ولكن نتنياهو ومعسكره في أمريكا وإسرائيل لا يريدان ذلك. وهذه سياسياً يعني أن هذا اللقاء يزيد من حالة الجدل في إسرائيل على المستوى السياسي والثقافي وحتى الأمني. وهو لقاء يجب ألا يستخدم ذريعة لتطبيع بعض العرب مع إسرائيل، فالعلاقات المشار إليها كانت قبل هذا اللقاء، وبعد هذا اللقاء.
عندما دفع العرب منظمة التحرير الفلسطينية إلى التفاوض مع إسرائيل، بسبب الضعف أو الحكمة أو الواقعية، فقد بدأ المسلسل الطويل والكريه حتى الآن. يجب أن نعرف أن الصلح مع إسرائيل والذي بدأ قبل حوالي أربعين عاماً قد غير من مكانة ومكان إسرائيل في العالم العربي، وأن مكانة القضية الفلسطينية أصبحت مثار تعب وإحراج لكثير من الأطراف، فلا يجب القول إن هذا اللقاء بين الرئيس وأولمرت هو تشجيع على التطبيع أو غيره. أصلاً، فإن إحدى أهم أسباب الأزمة التي نمر بها هو الضعف العربي الذي لم نلعب نحن دوما فيه إطلاقاً.
فمن الظلم القول أن خطاب الرئيس كان خطوة إلى الوراء، ذلك أن الرئيس عندما ألقى الخطاب، فقد أستمع -بالتأكيد- إلى كل الآراء ووازن بين كل الأطروحات، ووصلت إلى مسامعه أنواع التهديدات المغلفة بالنصائح أو النصائح المغلفة بالتهديد، وبالتأكيد فقد جاءه الصديق بلباس العدو وجاءه العدو بلباس الصديق، ولهذا كان الخطاب تسوية أخرى بين أسباب القوة وأسباب الضعف، وبين امتلاك كل شيء أو فقدان كل شيء.
كان من السهل على السيد الرئيس أن يقلب الطاولة وأن يذهب إلى خيار شمشون. وكان من السهل على الرئيس أن يسلم مفاتيح السلطة الوطنية وأن يوقف كل الاتفاقيات. ولكنه لم يفعل، لأن الرئيس القائد الذي يأخذ بعين الاعتبار اللحظة التاريخية واشتراطاتها، وهي لحظة صعبة جداً، تتعانق فيها الهزائم والتفكك والتطبيع والضعف البنيوي وقوة الاعداء وجبروتهم.
هل كان على الرئيس أن يواجه العالم كله؟!
هل كان على الرئيس أن يغامر أو يقامر بشعبه؟! هل كان على الرئيس أن يقذف بهم إلى المجهول؟!
وحتى أكون هنا واضحاً وصريحاً مع نفسي أولاً، فإن الرد الفلسطيني على صفقة القرن هو رد يبدأ بموقف هذا الرئيس الحازم والحاسم وينتهي عند أصغر شبل في مخيمات هذا الشعب الجريح. الرد الفلسطيني يبدأ بأن تقول النخبة أنها ترفض وأترك الباقي للجماهير. الجماهير ذكية ذكاءً فطرياً، تعرف باتجاه وحركة بوصلتها.
كنا نرغب ألا تتحول بعض مقالات "الكتاب" إلى ما يشبه وصفة الطبيب أو استاذ الجامعة الذي يطرح المشكلة ثم يطرح حلها وهو في غرفة الصف. اساتذة صنع التاريخ لا يشبهون على الاطلاق مدرسي التاريخ.
ثم أن هؤلاء الكتاب وعندما يبدؤون بإسداء النصائح عليهم أيضاً أن يعرفوا مواقعهم وإلى أين يمكن أن تذهب مقالاتهم التي تكتب -في بعض الأحيان بحسن النية-، حيث يصبح توقيت هذه المقالات ويرددوها وأثارها كارثية.
لا نريد مثقفين تروتسكيين، يقفون مع الثورة ولكنهم يخدمون الامبريالية في ذات الوقت.
فإذا قلنا إن خطاب الرئيس كان تراجعاً، فإن هناك من الظواهر في مجتمعنا ما يتعلق وبشكل ليس مجرد تراجع بل ما قد يوصل إلى الإدانة الوطنية، ولسنا هنا بمعرض سرد الوقائع.