الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

متلازمة الاستبداد والفساد في العالم العربي

نشر بتاريخ: 20/02/2020 ( آخر تحديث: 20/02/2020 الساعة: 17:23 )

الكاتب: نضال منصور

حيثما كان الاستبداد وجد الفساد، وبالعكس حين يكون الفساد شائعا ومنتشرا؛ فإن الاستبداد يكون حاضرا على وجه اليقين.

لا أستطيع أن أرى المشهد في العالم العربي بمعزل عن ثنائية ومتلازمة الاستبداد والفساد. هذا هو السائد والاستثناء ليس قاعدة. فالحكام المُستبدون الذي عرفناهم على مر العقود، كانوا في الغالب رموزا للفساد، وتصرفوا في ثروات أوطانهم على أنها ملك لهم ولعائلاتهم، وأكثر من ذلك ساهموا في الإفساد وشراء الذمم لضمان الولاءات.

الفساد مشكلة كونية ليست مُقتصرة على العالم العربي، والفرق في الدول الديمقراطية لا يجد الفساد حواضن اجتماعية مُساندة، وفي بلادنا يظهر كبار الفاسدين كـ "شطار" و "فهلوية" يعرفون من أين تؤكل الكتف، ويحاطون بأقربائهم الذين يُمجدونهم ويدعمونهم.

أكثر الاحتجاجات في العالم العربي كانت ضد الفساد الشائع، وللمطالبة بالعدالة الاجتماعية، فالحكومات تستمع لصوت الأثرياء، بينما تُخنق وتُغيّب أصوات الفقراء، وأي مراجعة للاحتجاجات التي تجتاح شوارع العالم العربي؛ ستكتشف بسهولة ويُسر أن مكافحة الفساد على رأس شعارات المتظاهرين، وعودة إلى بيروت وبغداد التي لا زالت شوارعهما تغلي وتنتفض، تجد أن اجتثاث الطبقة السياسية الفاسدة التي تتحكم بالبلاد والعباد تتصدر أجندة المتظاهرين.

استشراء الفساد يُعمّق الفقر ويقلل فرص التنمية
لن تُصاب بالدهشة وخيبة الأمل حين تعلم أن الكثير من الدول العربية تعد من الدول الأكثر فسادا، والأقل شفافية ونزاهة، فالصومال مثلا أكثر دول العالم فسادا في التقرير السنوي لمؤشر مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية لعام 2019، وتحتل المرتبة الأخيرة (180)، تليها السودان (173)، تتبعها ليبيا (168)، فالعراق (162)، والقاسم المشترك بين هذه الدول غياب الحكم الديمقراطي الرشيد، وشيوع الاضطرابات والصراعات فيها.

دول عربية حتى وإن لم تُعرف بترسيخ حكم ديمقراطي؛ فإنها سعت للخروج من تحت مظلة الدول الفاسدة بسعيها الدؤوب لتكون بيئة جاذبة للأعمال، ولذلك حققت نتائج معقولة في المؤشرات الدولية للشفافية.

الإمارات احتلت المرتبة الأولى عربيا، وحجزت المقعد (21) عالميا بين البلدان الأكثر نزاهة، قطر بعدها مباشرة الثانية عربيا و(30) عالميا، تليها السعودية الثالثة عربيا و(50) عالميا، وسلطنة عُمان الرابعة عربيا، و(56) عالميا، والأردن الخامس عربيا، ونصيبه (60) بين دول العالم.

مؤشر مدركات الفساد الذي تُعده منظمة الشفافية الدولية لا يُعطي أولوية لواقع حقوق الإنسان في البلدان، لكنه لا يُغفل أهمية وجود هيئات مساءلة ورقابة، ويُعطي اهتماما بوجود قضاء مستقل، وصحافة حرة.

وكما كانت دول الاتحاد الأوروبي الأكثر تمتعا بالحريات والديمقراطية تقدمت ـ وهذا ليس غريبا ـ في مؤشرات الشفافية والحكم الرشيد، واحتلت الدنمارك المرتبة الأولى على كل دول العالم.

التوصيات التي قدمها تقرير منظمة الشفافية الدولية لتعزيز النزاهة والحد من الفساد لا تبدو غريبة، وقد تكررت على مر السنوات الماضية، فالمنظمة الدولية تدعو إلى تضييق فرص تعارض المصالح، والتصدي للمعاملات التفضيلية والمحسوبية، وإرساء المراقبة والمحاسبة، ومراقبة التمويل السياسي، وتعزيز النزاهة الانتخابية، والتوازن والفصل بين السلطات العامة.

هذه التوصيات التي توصلت لها منظمة الشفافية تستند إلى المؤشرات الأساسية التي تراقبها وتعمل على ترسيخها مثل الحد من الاختلاس والرشاوى، واستغلال الموظفين العموميين لمناصبهم في الدولة، وحماية الصحفيين باعتبارهم يقومون بكشف قضايا الفساد، وكذلك حماية المُبلغين عن الفساد، وبناء منظومة تشريعات تمنع وتحد من الفساد، وتُعزز قواعد الشفافية والحكم الرشيد.

في الدول الديمقراطية لا يجد الفساد حواضن اجتماعية مساندة
استشراء الفساد يُعمق الفقر في المجتمعات، ويُقلل من فرص التنمية، ويقول الأمين العام للأمم المتحدة في رسالة وجهها بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد عام 2018، إن "تكلفة الفساد تبلغ 2.6 تريليون دولار أي ما يُساوي 5 بالمئة من الناتج المحلي العالمي".

ويُضيف في رسالته أن "قيمة الرشاوى في العالم تصل كل عام إلى تريليون دولار"، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي يقول إن قيمة الفاقد بسبب الفساد عشرة أضعاف إجمالي المبالغ المُقدمة للمساعدة الإغاثية، هذه الأرقام المُرعبة لا تُمثل كامل المشهد لـ "عدوى" الفساد التي تجتاح العالم، وإنما ما يُستدل إليه وما يُكتشف، أما الفساد الشائع في الاقتصاد الموازي لتجارة الأسلحة، والمخدرات، وتبييض الأموال، فتلك حكاية أخرى.

كلما ذُكرت قصص الفساد تذكرت الواقع العربي والأنظمة المُستبدة التي رسخت قيم الفساد حتى أصبحت الرشوة هي الأمر الطبيعي للحصول على أي خدمة من الدولة، وأصبحت الواسطة الطريق للعمل والحصول على المنافع على حساب معايير العدالة وتكافؤ الفرص.

أخطر الخراب التي كرسته الأنظمة المُستبدة أنها رسخت ثقافة الفساد مجتمعيا، فالواسطة لا يُنظر لها على أنها خرق للقانون، والرشوة تأخذ اسم "الإكرامية" أحيانا، وتشيع حتى لا يتم التعامل معها باعتبارها جريمة تستحق المساءلة والعقاب، وهكذا استطاعت الأنظمة الحاكمة بالاتكاء على قيم اجتماعية ومفاهيم دينية من زرع بذور الفساد في وجدان وعقل المجتمع، فتساهلوا معه، وغضوا الطرف عنه، واستخدمتها الحكومات والأنظمة المُستبدة لتزوير إرادتهم بالانتخابات، ولسرقة ثرواتهم.

الفساد أصبح حالة مؤسسية في العالم العربي، والفساد يصبح مع مرور الأيام عابرا لـ "السيستم" مُتمكنا من حلقاته، وفي كل يوم تُفرخ أنظمة الفساد فاسدين يتحكمون بصناعة القرار، ويحاربون ويحاصرون ما تبقى من أشخاص "نزيهين" و"شرفاء" في أجهزة الدولة يعارضون أن تُدار بلدانهم على أنها "مزارع" للزعيم وأتباعه ومحاسبيه.

ستبقى متلازمة الاستبداد والفساد طاغية في العالم العربي ما دامت بعض أجهزة الأمن تتحكم بمصائر الناس، وتزج بهم في السجون خلافا للقانون والعدالة، وتنتهك خصوصياتهم وتستخدم المعلومات التي تتحصل عليها لتشويه سُمعتهم والتضييق عليهم وحصارهم.

الحكومات تستمع لأصوات الأثرياء، بينما تُخنق وتُغيّب صوت الفقراء
سيستمر العالم العربي متصدرا الدول الأكثر فسادا ما دام الحكم يورث حتى فيما يُسمى جمهوريات، وأبناء الرؤساء يحكمون ويُسيطرون أكثر من آبائهم، وما دام "الزواج غير المقدس" بين السلطة ورجال الأعمال سائدا وحاكما، وما دامت البرلمانات لا تُراقب ولا تُسائل، والصحافة ليست إلا أبواقا للزعيم، وما دام القضاء لا ينطق باسم العدالة والقانون.

نماذج الزعماء المُستبدين الفاسدين في العالم العربي كثيرة، فحتى وقت قريب كان الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح ـ قبل أن يُقتل ـ يحكم بلدا غنيا بموارده، لكنه فقير، بعد رحيله كان السؤال الأكثر أهمية كم هي ثروته المسروقة من أموال الشعب والمُهربة إلى بنوك وحسابات سرية وملاذات آمنة؟ ذات الأمر كان ينطبق على الزعيم معمر القذافي الذي قُتل بعد عقود من حكمه، ولا زال غامضا حجم الثروات التي نُهبت في عهده، وما زالت حتى الآن مختفية؟ ويُمكن الحديث أيضا عن أموال الرئيس المعزول حسني مبارك، والرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي الذي عاش آخر أيامه في السعودية قبل موته، وكانت زوجته وعائلتها نموذجا في سطوة الحكم على ثروات البلاد ومُقدراتها.

من الصعب على الناس أن يتفاءلوا بسقوط "دولة" ومؤسسة الفساد التي تحكم في العالم العربي، فالديمقراطية لم تزدهر وهزمت، وهذا يعني أن حواضن الحكم الرشيد لم تترسخ، والأمر ليس محصورا بزعيم خالد لا تُكسر كلمته، وإنما يمتد الأمر لزعماء الطوائف والأحزاب الذين ليسوا أقل استبدادا وفسادا، وأيدولوجيتهم، وبنادقهم، وأيديهم تُوظف لسرقة المحرومين من خيرات أوطانهم.