الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

غياهب النسيان: الحقيقة المؤلمة للأزمة السورية

نشر بتاريخ: 16/07/2017 ( آخر تحديث: 16/07/2017 الساعة: 09:27 )

الكاتب: د. فادي الحسيني

مع إستمرار حالة الجمود في الأزمة السورية، أصبح من الصعب توقع أي مستقبل يمازجه التفاؤل على الأقل في المستقبل القريب، فالقوى الكبرى إتفقت فيما بينها على حل بعض جوانب هذه الأزمة بما يخدم مصالحها الخاصة، ليبقى الصراع مستمراً ومهدداً لإستقرار المنطقة بأسرها.
أفرزت السبع سنين من عُمر هذه الأزمة العديد من المُسلّمات التي لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها. أولى وأهم هذه المُسلّمات هو أن سوريا التي نراها اليوم على خارطة العالم لم تعد موجودة كما كانت، فقد تغيرت أمور كثيرة، وأضحت فكرة ترك السوريين لإدارة شؤونهم بأنفسهم سيناريو غير مقبول للقوى الكبرى وحتى الإقليمية، بدعوى أن التدخل واجب في هذه الأزمة التي توفر جميع أسباب عدم الإستقرار وتنذر بإنفجار أكبر وتبعات أبعد من حدود سوريا.
أما ثاني هذه المُسلّمات فهو مستقبل الرئيس بشار الأسد، فلم يعد بقاء ومستقبل الأسد خاضعاً لقرار الشعب السوري، أو حتى الإجماع الدولي، فقد أضحى بيّناً بأن بقاء الأسد أو غيابه عن المشهد قرار روسي حصري. وقد أثبت حتى الآن بأنه حليف يمكن الإعتماد عليه وقد حققت الشراكة معه نتائج إستراتيجية هامة لموسكو. وبالتوازي، يمكن القول بأن شراكة الأسد مع موسكو حجّمت فرص طهران من أخذ زمام الأمور وإمتلاك اليد العليا في القرارات المتعلقة بهذا البلد، خلافاً لما كان يتوقع الكثيرون.
ثالث هذه المُسلّمات هو أن أية جولات جديدة من المفاوضات برعاية أمريكية و/أو روسية لن تفضي عن شيء ولن تخرج بأي نتائج حقيقية تنهي الصراع وتضع حداً لمعاناة الشعب السوري، فالمحادثات الحقيقية والمنتجة تكون فقط بين واشنطن وموسكو حول توزيع الأدوار، وتقسيم مناطق النفوذ بينهما. وعليه، فإن بقاء ووجود بشار الأسد في أي مستقبل لما تبقّي من سوريا أصبح أمر لا تحكمه الهرطقات الإعلامية، وخاصة مع بروز خطر أعظم وأخطر- من وجة نظر صانع القرار الغربي- وهو خطر الجماعات الإرهابية.
وتجسدت هذه الخلاصة فيما تناقلته بعض الصحف- وتحديداً Daily Beast عن قبول الولايات المتحدة بمبدأ وجود بشار الأسد في أي حل مرحلي شريطة طرد داعش من سوريا. إضافة لذلك، فإن إتفاق وقف إطلاق النار الأخير في جنوب سوريا بين موسكو وواشنطن يفضي بذات الخلاصة وإلى تبدّل رؤى الدول حيال الصراع في سوريا.
في حقيفة الأمر، عكس إتفاق وقف إطلاق النار الأخير- والذي شمل أيضاً الأردن وإسرائيل - مستوى جديد للتدخل الأمريكي في سوريا، مختلفاً بشكلٍ جذري عن ذلك الدور إبان إدارة الرئيس السابق أوباما، كما عكس تشابك كبير للعلاقات وإختلاط غير مسبوق للأوراق والمصالح والأدوار للقوى المختلفة في سوريا. فدعم الأطراف المتناحرة لم يقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، بل شمل دول وقوى إقليمية أخرى كتركيا، وإيران، وبعض دول الخليج.
من جهة ثانية، تشير التطورات الميدانية إلى إرتفاع واضح في نسق وحجم تواجد وتدخل القوى الكبرى، وبالتوازي فهناك تراجع ملحوظ لدور الميليشيات والجماعات المسلحة، حيث كان إعادة إنتشار القوات الروسية عند الحدود اللبنانية مؤشر واضح لهذا التطور وسط توقعات بإستبدال مقاتلي حزب الله بالقوات النظامية السورية والروسية.
يبدو بأن القوى الكُبرى إرتأت الإعتماد على الجماعات المسلحة كمرحلة إنتقالية، من أجل تقليل خسائرها، وفي الوقت ذاته ضمان حضورها في المناطق التي ستعاني من فراغ نفوذ، كتلك المتوقع أن يُخلفها ورائه تنظيم داعش بعد إنهياره المرتقب. فعلى سبيل المثال، نفذت قوات سوريا الديمقراطية- المدعومة أمريكياً، عمليات مكثفة ضد تنظيم داعش، وإستطاعت أن تسيطر على المنطقة التي تقع جنوب نهر الفرات، وتكون بذلك قد قطعت على داعش ما تبقى من طريق يربط مدينة الرقة بباقي الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم. وعلى الرغم من أهمية هذا التطور، إلا أن قوات سوريا الديمقراطية لم تستطع فرض سيطرتها على باقي المناطق الشرقية في سوريا، والتي تمتد جنوباً حتى الحدود الأردنية، التي تبقى تحت سيطرة داعش وجماعات مسلحة متشددة أخرى.
وعليه، فبوجود دول كإيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية إضافة للنظام السوري، وتنظيمات وجماعات مسلحة كداعش والقاعدة والنصرة والميليشيات العراقية والباسداران وحزب الله والجيش السوري الحر وقوات سوريا الديمقراطية وغيرها، فإن خارطة توزيع مناطق النفوذ في سوريا تنبئنا بالكثير.
يبقى الشمال السوري مقسماً بين الولايات المتحدة الأمريكية وقوات سوريا الديمقراطية التي تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وتركيا والجيش السوري الحر من جهة ثانية. ومع ما يقارب على 14 مليون كردي في تركيا يكون القبول بنفوذ كردي جديد في شمال سوريا أمراً يداعب الخيال، والقبول بأية تنازلات في هذا الشأن- من وجهة نظر أنقرة- يكون رسالة تشجيع على النزعات الإنفصالية داخل تركيا. وعلى الرغم من هذا، إلا أن الأتراك والأكراد لم يتسطيعان فرض السيطرة الكاملة، فالشمال الغربي من سوريا يبقى خاضعاً لقوات معارضة مسلحة، وجماعات إسلامية أخرى.
أما في الجنوب، فيبدو أن واشنطن حاضرة هناك أيضاً، وخاصة مع التنسيق المعلن مع كل من الأردن وإسرائيل. وكلما إقتربت أكثر من الجولان السوري المحتل، يُضحي الحضور الإسرائيلي- وبكل أسف- أوضح. وفقاً لصحيفة التايمز البريطانية، كانت إسرائيل حاضرة في المحادثات الأخيرة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية من أجل تأمين منطقة آمنة جنوب الأراضي السورية تمتد مساحتها 30 ميلاً شرقي الجولان المحتل وصولاً لمحافظة درعا ومروراً بمحافظة السويداء. وفقاً للإدعاءات الإسرائيلية فإن الهدف من هذه المنطقة الآمنة هو منع إيران وحزب الله من التحرك والعمل في هذه الرقعة. هذه الإدعاءات تلقى صدى جيداً في واشنطن التي تتخوف من النفوذ الإيراني وخاصة في جنوب سوريا، وكانت القوات الأمريكية قد أسقطت خلال شهر يونيو فقط وفي حادثتين منفصلتين طائرتي إستطلاع إيرانيتين من نوع شهيد-129 بالقرب من مواقع تدريب إمريكية بمحازاة الحدود العراقية الأردنية.
في الوسط والغرب السوري (الساحل حيث قاعدة حميميم الروسية والحدود اللبنانية) يظّل وجود النظام والقوات الموالية له والقوات الإيرانية وعناصر حزب الله والقوات الروسية هو الغالب، حيث إستطاع النظام أن يستعيد سيطرته على مساحات واسعة منذ التدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية. وكان لإستعادة النظام السيطرة على هذه المناطق من جهة وتراجع سطوة الجماعات الإرهابية والمتشددة من جهة ثانية أثره على بث بعض الطمأنينة في قلوب العديد من اللاجئين السوريين. فوفقاً لتقرير وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، عاد ما يقارب من نصف مليون لاجئ سوري إلى بيوتهم منذ بداية العام الحالي. ويضيف التقرير بأن ما يقارب من 31,000 لاجئ سوري عادوا من الخارج ليصل عدد اللاجئين الذين عادوا إلى سوريا منذ عام 2015 إلى 260,000 شخص، إضافة لما يزيد عن 440,000 نازح عادوا إلى بيوتهم من داخل سوريا.
وعلى الرغم من هذا، فلا يجب أن تكون هذه الأرقام مضللة، فسوريا تعاني ومنذ أكثر من سبع سنوات من مآساة غير مسبوقة، أنهكت جميع مقومات الدولة، أما التدخلات الخارجية فما هي إلا نذير شؤم بما هو أسوأ.
رفض العرب عبر المنابر والصحف أي حديث عن تقسيم جديد، في حين عمل الآخرون بصمت على التقسيم والتفتيت، وبعد إستعراض خارطة توزيع مناطق النفوذ في سوريا، يبدو وأن البلاد على وشك أن تسقط فريسة تقسيم ثلاثي طائفي عرقي- وإن لم يكن رسمياً: الوسط والغرب للعلوين وتكون منطقة نفوذ روسية يديرها النظام السوري. الشرق والجنوب للسنة العرب وتكون منطقة نفوذ أمريكية مع تقديم ضمانات أمنية لإسرائيل. الشمال للأكراد وتكون منطقة نفوذ أمريكية مع تقديم ضمانات لتركيا.
أحلام أطفالنا أصبحت كوابيساً، بعد أن تغير صوت زقزقة العصافير ضجيجاً، ينذر بموت الأحباب والجيران أفواجاً. تبدلت طموحات شبابنا أوهاماً... تحولت الأسماء أرقاماً والبساتين قبوراً والزهور ألغاماً، فإعتصر القلب ألماً وأَنّ الفؤاد وجعاً، على ما وصل عليه من كانوا يوماً أشجع فرسان، وعُرفوا بعزمهم، بمجدهم، بنخوتهم... بجيوش عتية وقيادات أبية حُفرت أسمائها في سجل الزمان، ذهبوا بأقدامهم إلى حقبة التشرذم والوهن والتيه والهوان، فقاموا بتقسيم المُقسم أصلاً من أرضهم، ودقوا إسفين الصراع الطائفي بأيديهم، دفعوا من أموالهم ثمن إحتلالهم، عادوا أخوتهم، حاربوا من أحبهم، وأحبوا من عاداهم...إذاً هي أدهى وصفة لأمة إن أرادت السير نحو غياهب النسيان.