الثلاثاء: 23/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

انطباعات اولية من زيارتي لغزة العصية

نشر بتاريخ: 12/02/2018 ( آخر تحديث: 12/02/2018 الساعة: 15:48 )

الكاتب: د.حازم الشنار

في صيف عام 2003 كانت آخر زيارة لي الى غزة وكان آخر لقاء حضرته فيها في المجلس التشريعي مع قادة الفصائل الوطنية والاسلامية حيث كنت اجلس حينها بين عدد من القيادات التي اصبحت لاحقا ماسكة بزمام الأمور في القطاع. وكان المتكلم الرئيس آنذاك وزير الداخلية الاخ عبد الرزاق اليحيى وكان الموضوع هو حول سلاح المقاومة وكيفية التعامل معه حيث تكلم بلهجة الأب الناصح بضرورة التعامل مع المسألة بعقلانية وحساب النتائج لاي سلوك نسلكه وتوخي مصلحة البلد والاجيال الناشئة وشدد على اهمية وحدة السلاح والتناغم في الأداء بين السلطة وفصائل العمل الوطني على اختلاف مشاربها.
بعدها حصلت عدة أحداث حالت دون توجهي الى القطاع ففي عام 2004 استشهد الرئيس ياسر عرفات وفي عام 2005 تم إخلاء الاحتلال من قطاع غزة وجرت الانتخابات الرئاسية وتلتها الانتخابات التشريعية عام 2006 وتلاهما الانقسام عام 2007 ثم تلته ثلاثة حروب 2008، 2012، 2014 وتم تشديد الحصار واطباقه من كل الجهات واستمرت جهود المصالحة مع تقدم بطيئ ومحدود في النتائج.
ذهبت الى غزة يوم الاثنين 5/2/2018 بمبادرة ذاتية بعد ان وافق الاحتلال على طلب اصدار تصريح دخول لي لثلاثة ايام للقطاع كنت قد قدمته منذ شهور عبر شبكة للمنظمات الأهلية وكان هدف الزيارة استطلاعي لفرص إقامة مشاريع تنموية من المؤسسة الفلسطينية لتشجيع المنشآت الصغيرة والمتوسطة (بلسمي) بالتعاون مع الشركاء المحتملين مساهمة في مساعدة القطاع اقتصاديا.
كنت تواقا لدخول غزة ليس فقط لاني من عشاق سمكها بل لأرى أكثر مما اسمع واتحقق بنفسي قبل ان اتقبل احكام الاخرين. في طريقي الى غزة من بيت حانون شاهدت أثار الحروب: العمارات والبنية التحتية المدمرة، والناس الهائمة حول بيوتها والكارات والتوكتوكات والسيارات البالية تسير في شوارع مهترئة مكسوة بالطمم. ورأيت مئات الأطفال المتسولين والكثير من الشباب بلا عمل يتسكعون في الشوارع، والأسر والعائلات المشردة التي تسكن في مأوى بعضه من ورق الجرائد او الصفيح. وشعرت ان كارثة انسانية مذهلة تعيشها غزة حيث عائلات بكاملها لا تجد مأكلا او ملبسا اومأوى وان حالة من البؤس تسود احياء ومخيمات القطاع. وسمعت ان البطالة قد ضربت اطنابها وبلغت اعلى مستوياتها خصوصا في اوساط الشباب والخريجين بشكل اكثر تحديدا(175 الف عاطل عن العمل) والفقر المدقع (اكثر من 50%) والبؤس الاجتماعي (غير محدد). ولا يخفى ما تركته الحروب والحصار من اثار مدمرة على البنية الاقتصادية وانعكاساتها على الوضع المعيشي في القطاع، فعلى سبيل المثال لا الحصر علمت عن تقلص عدد العاملين في مصانع الملابس من 30 الفا الى 3 الاف. وحين زرت مقر جمعية رجال الأعمال في غزة وجدته قد تحول الى مركز للخدمة الاجتماعية وتوزيع المساعدات العينية للعائلات المنكوبة التي لا تفتأ تطرق بابه.
وسرت في المساء في شوارع بلا انارة وفي الفندق الذي نزلت فيه كانت الكهرباء تعمل بشكل متقطع ومفاجئ لتوقف كل الأجهزة حتى المصعد وانا فيه. ولمست تلوث البيئة في كل مكان ذهبت اليه في قطاع غزة في البر والبحر والجو.
وفي طريق العودة من غزة الى بيت حانون سرت من الطريق الساحلي عبر مخيم الشاطئ الى حي جباليا المكتظ سكانيا في شارع رئيسي خاو رغم انني كنت اسير في منتصف النهار ووسط الاسبوع وفي بداية الشهر وبعد دفع الرواتب كانت 70%من المحلات مغلقة والبقية بدون زبائن. سألني السائق ماذا يعني ان يكون 30 الفا في السجون بسبب قضايا افلاس وعجز مالي عن السداد بينهم اسماء لامعة في عالم التجارة والصناعة؟؟
ولشد ما صدمتني تلك المناظر والشهادات وحين سألني البعض عن انطباعاتي عن غزة قلت بأني اقدرالفارق الزمني في التطور بأنه يصل من 25 الى 35 سنة يضاف اليهم 15 سنة فترة انقطاعي عن القطاع اي ما مجموعه نحو نصف قرن الى الوراء. ( وقد علق أحد الأصدقاء الغزيين على منشوري حول ذلك :غزة انهارت وانهار معها كل شيء، فأصبحت تنتقل من حالة الموت السريري إلى مرحلة قبض الروح)
لكن علي أن أعترف بأني وجدت تناقضا واختلافا شاسعا داخل المجتمع الغزي ففي المساءين الذين ذهبت فيهما للقاء الأصدقاء فى كوفي شوب شعرت بوجود تفاوت كبير في مستويات المعيشة بين عامة المجتمع وقلة قليلة من كبار التجار ورجال الاعمال والموظفين الحكوميين وغير الحكوميين والقطاع الخاص وموظفي المؤسسات الدولية و الاجنبية.
ومن اجل فحص امكانية المساهمة في تغيير الواقع التقيت عددا من مدراء حاضنات الأعمال والمكاتب الاستشارية وممثلي مؤسسات القطاع الخاص واصحاب المصانع والتجار وقد بهرني اصرار وتصميم مجتمع أعمال غزة وريادييها رجالا ونساء في مواجهة الحصار والصمود رغم الصعوبات. لكن انحسار السوق وإغلاق المعابر يظل هو المشكلة الرئيسية أمام اقتصاد قطاع غزة. اما المشكلة الثانية التي اتفقوا على تحديدها فكانت ان الانتاج الرئيسي في قطاع غزة هو الاطفال وان جيلا كاملا من الغزيين الشباب يحرم من تأمين مستقبله في غزة وبالتالي فإن ذلك يتطلب تدريبا لموائمة مهاراتهم مع احتياجات السوق. اما الشباب الرياديون فقد أشعلوا امامي بارقة امل حيث تستحق مبادراتهم وابتكاراتهم كل رعاية ودعم. واسجل لمن ساعدني منهم تنظيم رحلتي الى غزة عظيم الثناء والشكر.
واخيرا ربما لقتل رغبتي في العودة وإحباطي من امكانية تغيير الوضع القائم اختصر الاحتلال رسالته لي بتفريغ مقتنياتي من حقيبة بعجلات في كيس زبالة ومصادرة قسم منها وشبحي مرتين مع رفع الملابس على ماكنة X للتفتيش عند مغادرة غزة لكن رغم كل شيئ فإنني مصمم على العودة إلى هناك والمساعدة قدر ما استطيع.