الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الهند: التحالف مع إسرائيل و"التعاطف البارد" مع الفلسطينيين!!

نشر بتاريخ: 14/02/2018 ( آخر تحديث: 14/02/2018 الساعة: 11:03 )

الكاتب: د.محمود فطافطة

إن دراسة العلاقة الهندية ـــ الإسرائيلية أظهرت أهمية عامل المصالح الاقتصادية والاستراتيجية على حساب الاعتبارات الأيديولوجية المتراجعة في فترة ما بعد الحرب الباردة التي دشنت نمطاً جديداً من العلاقات الدولية، يقوم أساساً على معادلة المصالح وتمتين الشراكات وإعادة تشكيل التحالفات الدولية وفقاً لهذه الأسس الجديدة.
ولما كانت العلاقات بين الدول لا تنشأ فقط بين دول متساوية وإنما تصنعها المصالح، وتفرضها الضرورات، فإن الهند وإسرائيل التقتا حول نقطة واحدة في إطار سياسة خارجية ترتكز على تحقيق المنافع عبر تبني مقاربة نيوليبرالية تهدف إلى الاستفادة من كل الفرص الكامنة والمتاحة في البيئة الدولية ومحاولة استثمارها بالأسلوب الأمثل، وهذا ما جعل الدبلوماسية الهندية ـــ الإسرائيلية تنشط في تطوير العلاقة بينهما، لا سيما في ظل تزايد المخاطر المشتركة لكلا الدولتين مثل الإرهاب والأسلحة النووية والجيران المعادين وسواها.
هذه العلاقة تقدم نموذجاً لنجاح إسرائيل في استغلال التحولات الدولية لتطوير علاقاتها بالدول الصاعدة، ومنها الهند، وإقناع هذه الدول بالفصل بين مسار الصراع العربي ـــ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية من ناحية، وعلاقات تلك الدول بإسرائيل من ناحية أخرى. وبوجود حزب جاناتا بهاراتيا اليميني في الحكم، فإن الهند ستعزز علاقتها بإسرائيل التي تسعى هي الأخرى إلى تعميق تلك العلاقة بغض النظر عن طبيعة الحكومة القائمة فيها. ورغم بعض التحديات والقيود التي تعيق مسيرة تطور هذه العلاقة، فإن المعطيات تؤكد أن العوامل الدافعة لاستمرارها وتوسيعها هي السائدة.
ومن خلال التشخيص الذي سمح لنا بتتبع التطورات الممكنة سلباً وايجاباً للعلاقات الهندية ـــ الإسرائيلية، فإن التحليل قادنا للوقوف على طبيعة هذه العلاقات التي نرى أنها في مستوى الشراكة الإستراتيجية ودون التحالف الاستراتيجي. وما يدفعنا إلى ذلك هو حرص الطرفين على عدم استدراج أحدهما الآخر إلى الصراعات الإقليمية المشتبكين فيهما، فإسرائيل لا تريد أن تبدو عدواً لباكستان أو إقحامها في صراعها مع العرب، كما أبدت حرصاً شديداً على علاقاتها مع الصين، وبالمثل فإن للهند مصالح سياسية واقتصادية واسعة مع العديد من الدول العربية، لا سيما الخليجية منها، عدا عن أنها لا تزال مؤيدة للقضية الفلسطينية رغم خروجها بين حينٍ وآخر عن هذا الخط بسبب ضغوطٍ خارجية أو تجاذبات داخلية.
ومع هذا، فإن تلك العلاقة تبقى أقرب إلى التطور الايجابي منه إلى السلبي طالما غابت عن الساحة العوامل المؤثرة في اتجاه القضية الفلسطينية وعمقها العربي والإسلامي. وفي هذا السياق، يستوجب الأمر الإشارة إلى أن الهند كانت حليفاً للدول العربية، وأن هذا التحالف تغير بسبب اقامتها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهذا غير صحيح، فالحقيقة أن الهند كغيرها من الدول، تبحث عن مصالحها، ولم يكن لديها أية مصلحة في التحالف مع أي دولة عربية خلال فترة الحرب الباردة، وإنما كان هناك تضامن وتنسيق وتعاون في الأمم المتحدة وحركة عدم الانحياز، وتأييد متبادل للترشيحات في المناصب الدولية المختلفة.
إلى ذلك، شكلت السياسة الخارجية الهندية التقليدية المتمثلة بمناهضة الاستعمار والتمسك بالدولة العلمانية وعدم الانحياز، علاقة الهند بالقضية الفلسطينية طوال فترة الحرب الباردة. واستناداً إلى هذه السياسة أيدت الهند نضال الشعب الفلسطيني واقامة دولة مستقلة له. ورغم اعتراف الهند بإسرائيل عام 1950 إلا أن الهند عبرت أثناء كافة الحروب العربية ـــ الإسرائيلية عن موقف داعم للعرب وقضاياهم. ولئن بقيت العلاقة الهندية ـــ الإسرائيلية في مستوى الإعتراف دون التبادل الدبلوماسي الكامل فإنها شهدت تبادلاً محدوداً للزيارات وابرام اتفاقيات، خاصة في المجالين الاقتصادي والتجاري .
وفي بداية التسعينيات من القرن المنصرم طرأ تغيير نوعي في السياسة الخارجية الهندية عبر التوجه نحو الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها إسرائيل التي أقامت معها نيودلهي علاقات كاملة وصلت إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية في شتى المجالات، لا سيما الإقتصادية والعسكرية والأمنية. ومن هذا المنطلق، لا يمكن فهم التغيرات في سياسة الهند الخارجية حيال القضية الفلسطينية بمعزل عن التغيرات في العلاقات بين إسرائيل والهند.
ومنذ العام 2012 بدأت الهند تعبر عن " قلقها" مما يحدث من مواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني من دون التنديد بممارساته ضد المدنيين الفلسطينيين. ورغم بقاء تأييد الهند لإقامة دولة فلسطينية تستند إلى حدود العام 1967 فإن التعبير عن دعمها للسلطة الفلسطينية تغير تدريجياً.
ومنذ تولي ناريندا مودي منصب رئيس الوزراء في العام 2014 أصبحت تجليات هذا التغيير واضحة، مجسدة أهمها في التقاء مودي برئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في العام 2014، وزيارة وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون للهند في العام 2015، وعدم انتقاد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، عدا عن الامتناع عن التصويت على قرار مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة الذي يدين إسرائيل على عدوانها المذكور.
ولكن في المقابل، فإن عضوية الهند في العديد من المنظمات الإقليمية والدولية والمجموعات، لا سيما في مجموعة (البريكس) التي تدعم حقوق الفلسطينيين، يجعل الموقف الهندي تجاه إسرائيل مُعقداً، كما وأنه على خلفية الاحترام الذي تحظى بها الهند في هذه المنظمات والمجموعات، وكذلك من جانب إيران ودول الخليج العربي فإن التقارب بين الهند وإسرائيل والولايات المتحدة سيضطر الهند إلى السير على حبل رفيع، يستند إلى انتهاج سياسة خاصة تتمثل بعدم التدخل ورفض الحكم على الأمور.
إن الهند مستعدة لمواصلة دعمها للعرب، لكنها تفضل أن يقرروا مصيرهم دون أن يتدخلوا في سياستها الخارجية وتوجهاتها. وفي هذا الشأن، فإن الهند دائماً تردد مقولتها: إن علاقتها مع إسرائيل مستقلة عن علاقتها مع فلسطين. هذا القول ينطلق من تقليد قديم يتمثل في محافظة الهند على موقف حيادي وعلاقات صداقة مع الجميع، ناهيك عن النأي بعلاقاتها الفردية عن التحالفات المتشابكة.
إن توسيع الرهانات الاستراتيجية والاقتصادية يجعل من الصعب على الهند الالتزام بمبدأ الصداقة مع الجميع، ولكن التوازن الأمثل للمؤثرات المتنافسة في سياسة الهند في الشرق الأوسط قد يتمخض فعلياً عن استمرار انتهاجها لموقف حيادي، وهذا ما يجعلها شريكاً دبلوماسياً ذا قيمة كبيرة، ويعطي الهند نفوذاً أكبر مع إسرائيل وفلسطين والدول العربية وإيران وغيرها إذا استطاع مودي أن يدرس بدقة أهمية دول الشرق الأوسط في علاقات الهند، فربما ينجح حينها في تحقيق مصالح بلاده مع التمسك بقيمها في الوقت ذاته.
يظهر مدى تأثير تطورات العلاقات الهندية ـــ الإسرائيلية على الأمن المشترك عربياً وإسلامياً، إذ إن التقاطعات والتحالفات المتعددة تجعل من التأثيرات موسعة وشاملة، فلا يمكن أن تستثني أحداً.
وبالحديث عن مدى انعكاسات العلاقة الهندية ـــ الإسرائيلية على الأمن القومي العربي والإسلامي نرى أن هذه العلاقة لم تصل بعد إلى مرحلة تنطوي على تهديد؛ سواء بالنسبة للمصالح العربية مع الهند، أو بالنسبة للميزان الاستراتيجي في الشرق الأوسط عموماً، وإن تقديراً دقيقاً لآثارها المحتملة على المصالح العربية يجب أن يراعي جملة من الضوابط؛ تجنباً لإحتمال الوصول إلى نتائج خاطئة، أبرزها عدم التوسع في مفهوم " تهديد المصالح القومية"؛ فليست كل علاقة تدخل فيها دولة مع دولة ثانية تكون موجهة بالضرورة ضد المصالح الحيوية لدولة ثالثة أو أكثر.
فالشائع في العديد من الأوساط السياسية العربية ظاهرة التهويل من حجم النشاط والتوسع الإسرائيلي في دول الجوار العربي البعيدة؛ إلى درجة أن علاقات إسرائيل الإقليمية أصبحت تمثل شبحاً أو خطراً دونما تمييز ما إذا كانت هذه العلاقات تتضمن بالفعل تهديداً للمصالح العربية أو لا تتضمنه.
ولكن هذا لا يمنع دول العالم العربي من التنبه لمخاطر التغلغل الإسرائيلي في الهند، إذ عليها أن تسعى لكسبها، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال لغة المصالح، فهي اللغة الوحيدة القادرة على تكوين التحالفات وإقناع الآخرين واستقطابهم لصالح القضايا العربية. ورغم صعوبة تحقيق هذا الشرط في الظروف الراهنة، نتيجة حالة التجزئة واختلاف الأولويات لدى كل بلد عربي، فإننا نرى أن هذا الشرط هو المعمول به بين معظم دول العالم التي تحدد سياستها الخارجية وفقاً لمصالحها. وهذا يتطلب وضع استراتيجية عمل حقيقية لتطوير وتوسيع العلاقة مع الهند من طرف جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، ومنظمة التعاون الإسلامي، وغيرها، لا سيما أن هناك الكثير من المجالات السياسية، والاقتصادية والعسكرية التي يمكن للعرب التعاون فيها مع نيودلهي.
إن الحديث عن سحب إسرائيل البساط من تحت أقدام العرب داخل الهند غير صحيح، لأنه بمقدور الجانب العربي أن يكون فعالاً داخل تلك الدولة، وإن استمرار انتقاد العرب للهند لإقامتها علاقات مع إسرائيل لا يستقيم مع الواقع والمتغيرات، انطلاقاً من أنه إذا كانت بعض الدول العربية نفسها المعنية بالصراع أو بالمواجهة، أو حتى البعيدة عن ذلك، أبرمت اتفاقيات، وتعاوناً في القضايا الأمنية والعسكرية والتجارية مع إسرائيل، فكيف إذن الحال مع الهند التي ليست بينها وبين إسرائيل أية حالة من حالات العداء أو النزاع، وقد فرضت عليها مصالحها الأمنية والاستراتيجية هذا التوجه، في الوقت الذي انشغل فيه العرب بنزاعاتهم الجانبية التي عطلت فعلهم الدولي المؤثر.
وفي خضم تطور العلاقة الهندية ـــ الإسرائيلية، تتباين السيناريوهات المطروحة حول مستقبل هذه العلاقة، وهي أربعة تتراوح ما بين استمرار تطور هذه العلاقة، أو ثباتها النسبي في ما وصلت إليه، أو تراجعها، أو تدهورها وهو ما نستبعد حدوثه في ضوء ما تشهده العلاقة من تطور. وجاء اختيارنا لسيناريو استمرار تطور العلاقة لجملة أسباب، أهمها: تحقيق الطرفين منافع تفوق ما يتعرضان له من مخاطر وتهديدات، خاصة في ظل مناخ دولي واقليمي مساعد لتطوير علاقتهما، وتغليب الهند المصلحة على الأيديولوجيا في العلاقة مع العرب والقضية الفلسطينية، وتقارب وجهتي النظر بين البلدين، خاصة في قضية محاربة الارهاب، إضافة إلى دعم الولايات المتحدة الأمريكية هذه العلاقة لأنها تخدم مصالحها الحيوية في منطقتي جنوب آسيا والشرق الأوسط.
وفي ظل تغير الواقع الدولي ببروز أقطاب جديدة ذات أوزان سياسية واقتصادية معتبرة ظهر دور سياسي واستراتيجي لروسيا والصين وبعض الدول الصاعدة، وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن إمكانية العمل على هذه التوازنات لصالح المنطقة العربية والعالم الإسلامي، بما يُعيد العمق العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، واستعادة عنصر التأثير في العلاقة بين الهند وإسرائيل .
وهذا لا يمكن أن يتم إلا بعملٍ مشترك، وتنسيق متكامل بين الدول العربية والإسلامية وشركائهما من الدول الصاعدة على أسس السيادة واحترام القانون الدولي. وفي حال عدم تحقق ذلك فقد تتحول العلاقة الهندية ـــ الإسرائيلية من مستوى الشراكة الاستراتيجية إلى تحالف استراتيجي طالما بقي العرب منشغلين في صراعاتهم الداخلية، وغير مكترثين لتوابع علاقات إسرائيل المتنامية مع الهند وغيرها، على أمنهم القطري والقومي.
إن العلاقة الهندية ـــ الإسرائيلية تبدو مفتوحة على احتمالات متعددة بالنظر إلى خضوعها لتأثيرات موازين القوى في العلاقات الدولية، إذ لا يمكن عزلها عن سياق متغير ومتحول تعددت فيه الأقطاب الصاعدة التي تجاوزت تأثير القطب الواحد الأميركي الذي يُعد عنصراً داعماً وأساسياً للعلاقة بين الهند وإسرائيل.