الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الفلسطينيون المسيحيون جزء لا يتجزأ من الحركة الوطنية

نشر بتاريخ: 14/03/2018 ( آخر تحديث: 14/03/2018 الساعة: 16:50 )

الكاتب: السفير مناويل حساسيان

ازدادت محنة المجتمعات المسيحية في الشرق الأوسط مع اندلاع “الربيع العربي” وخصوصاً بعد حملة التطهير العرقي التي أطلقتها داعش، وأصبحت قضيتهم محور التركيز في الغرب، وغُمِرَت مواقع التواصل الاجتماعي بحملات التوعية لهذه القضية، وصُوِّرَ الصراع على أنه بين المسلمين والمسيحيين، ولكن يجب مسح هذه الصورة المشوهة كلياً، لأن المسيحيين في الشرق الأوسط عاشوا لقرون كجزء من السكان الأصليين في المنطقة مع أصدقائهم المسلمين، وعملوا على بناء المنطقة وتطورها معاً.
ينبثق التعايش والتشارك بينهما من مبادئ الهوية الوطنية، حيث يتشارك المسلمون والمسيحيون بتاريخٍ واحدٍ وأرضٍ واحدة بغض النظر عن مشاركتهما باللغة الآرامية القديمة التي كانت بكل تأكيد لغتاً مسيحيةَ منذ ولادة السيد المسيح، إلا أن اللغة العربية وحَّدَت جميع الأقليات العرقية والوطنية في الشرق الأوسط.

أعتقد أن المعضلة التي يواجهها المسيحيون في الشرق الأوسط في يومنا هذا هي اعتبارهم محطِّ للأنظار بجانب مضايقات الجماعات المقاتلة التي تشوَّه وتحرّف الحقائق الواقعية من خلال اتهام المسيحيين العرب على أنهم عملاء للغرب، وهذا يكثّف الضباب على حقيقة أن المثقفين المسيحيين العرب في بلاد الشام كانوا روادً للقومية العربية التي حاربت الإمبراطورية العثمانية وقاومت في وقت لاحق الاستعمار الأوروبي. لا يوجد فرق بين مسيحي ومسلم، حيث واجها كلاهما نفس التحديات من أجل الحرية، ولم يكن الاختلاف الديني عامل خلاف أبداً، وفي الواقع بذل المسيحيون والمسلمون معاً جهوداً مشتركتاً تفوق ما هو منصوص عليه في التفسيرات اللاهوتية والكتب المقدسة، ووجهوا جهودهم نحو موقف موحد للقتال من أجل حريتهم واستقلاليتهم وللتخلص من آثار الاستعمار الأوروبي واستعباده.

لَعِبَ “الإسلام المتطرّف” ومذهبه الضيّق دوراً كبيراً في تدمير الإسلام كدين، واستقطبوا الاهتمام عبر تشويه صورة غير المسلمين من خلال وصفهم بالملحدين والكفار وذلك لتحقيق دوافعهم السياسية الخفية، فإن خلق مثل هذه الصورة يشوه دين الإسلام ويصوره على أنه دين يدعو للعنف والإرهاب، ولكن في الواقع هذا غير صحيح إطلاقاً، ففي عهد الإمبراطورية الإسلامية تعايش اليهود والمسيحيون والمسلمون معاً وازدهروا معًا تحت ظل دين الإسلام المتسامح.

تكمن قضية اليوم في حقيقة أن الصراع يكرر نفسه ويستعيد الأحداث من زمن الحروب الصليبية، وهذه يخفي حقيقة أنه صراعٍ تتضارب فيه المصالح حيث يتفوق فيه المذهبية.

أحاول في هذا المقال الموجز توضيح وإظهار ماهية حال المسيحيون في فلسطين، والتحديات المماثلة التي يواجهونها تحت ظل الاحتلال الإسرائيلي، وأحاول أيضاً رسم صورة توضح هجرة المسيحيين، ليس بسبب مضايقة المسلمين وتعصبهم، وإنما بسبب السياسات المنهجية لنظام الاحتلال الاسرائيلي.

وكذلك سأحاول دحض الادعاءات بأن المسلمين في فلسطين يطهرون المجتمعات المسيحية عرقياً ويستولون على أراضيهم بالقوة، هذه مجرد إشاعات يستغلها الإسرائيليون لتغطية الصورة الحقيقية لاحتلالهم الوحشي ولبناء مستوطنات من خلال مصادرة الأراضي الفلسطينية. واجه المسيحيون والمسلمون تحديات الاحتلال معاً وكانوا دائماً يدركون النوايا الإسرائيلية في خلق العداوة بينهم، واستغلت الدعاية الصهيونية التي تبناها الصهاينة الذين يدعون المسيحية وسائل الإعلام وحملاتهم المتطرفة لتشويه صورة المسلمين الفلسطينيين على أنهم ارهابيين ومتعصبين، في حين تُبرئ إسرائيل من جميع سياساتها التي تجرَد الشعب الفلسطيني إنسانيته.

في جميع محاضراتي، سواء في الداخل أو الخارج، وخصوصاً في المملكة المتحدة حيث خدمت فيها كسفير فلسطيني منذ تشرين الثاني 2005م، أقدّم نفسي على أنني أرميني الأصل، ومسيحي الديانة، وكاثوليكي المذهب، وفلسطيني الميلاد والمواطنة، وعربي القومية، ومسلم الثقافة. وبالطبع تتلقى هذه المقدمة إعجاباً من قِبَل الجمهور بشكل عام لأنها تناسب جميع الفئات وتعكس الصورة الحقيقية لمجتمعنا الفلسطيني، ولا شك في أن السكان الأصليين لفلسطين هم العرب المسلمون والمسيحيون معاً الذين تربطهم القرابة والهوية والتاريخ والأرض منذ زمنٍ بعيد، وتربطهم الوحدة والتكافل في كفاحهم وسعيهم من أجل الحرية والاستقلالية.

تسهم الهوية الوطنية والعبادة الدينية في تحديد بنية المجتمع، لذا الدين ليس عاملاً رئيسياً لتحديد هوية الشخص بغض النظر عن الحرية المطلقة لممارسة مختلف الديانات في فلسطين.

كان كفاحنا على مر التاريخ ضد الغزاة واللصوص مبني على مفاهيم القومية وحب الوطن والاستقلالية، لم يكن هناك فرقاً بين فلسطيني مسلم أو مسيحي صادقاً في قتاله ضد الاحتلال وتحقيق هدفه باستقلال فلسطين، الفرق الوحيد بينهما هو الأعراف والشعائر.

وغني عن القول، إن للفلسطينيين المسيحيين جذوراً عميقة في الأرض المقدسة، حيث عاشوا فيها منذ القدم، أما في الوقت الحاضر يوجد 56 ألف مسيحي في الضفة الغربية وقطاع غزة مما يشكل حوالي 2% من إجمالي تعداد السكان المقدر بـ 4.9 مليون نسمة.

ينقسم الفلسطينيون المسيحيون في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة إلى خمسة عشر طائفتاً مختلفة، وأكبر طائفة من بينهم هي الطائفة اليونانية الأرثوذكسية (51%) والطائفة الرومانية الكاثوليكية (32%)، ويوجد طوائف صغيرة مثل الأقباط الذين أصلهم من مصر ولا يتجاوزون العشرين عائلة.

كانت المؤسسات التربوية الأوروبية التاريخية في فلسطين تزرع الثقافات واللغات الأجنبية في الفلسطينيين المسيحيين، ومن الواضح الدور الذي لعبته هذه المؤسسات في تقليل أعداد المسيحيين من خلال تشجيع هجرتهم من الإمبراطورية العثمانية إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، وعلى العموم لدى حرب 1948م في فلسطين تأثيراً كبيراً في تهجير المسيحيين إلى أمريكا الشمالية والوسطى، ناهيك عن الذين توجهوا إلى الأردن والخليج العربي.

وبالرغم من ذلك، كان لحرب 1967م تأثيراً أكبر على هجرة المسيحيين إلى دول الخليج ومن ثم إلى أمريكا، وأدى التصعيد المستمر للتوترات بين المسيحيين والمحتلين المستوطنين الإسرائيليين إلى جعل حياتهم صعبة للغاية مما أجبرهم على ترك بلاد أجدادهم.

ومن الجدير بالذكر أن أولئك المسيحيين الذين بقوا في فلسطين قد تبنوا مفهوم التسوية السياسية من أجل إنهاء الاحتلال ولتأمين حقوقهم الأساسية وخصوصاً الحقوق الوطنية. وتجلى هذا الموقف خلال الانتفاضة الأولى في كانون الاول 1987م، حيث شارك المسيحيون من الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية في الانتفاضة بكل طاقاتهم، وأسفرت عن استشهاد بعضهم واعتقال البعض الآخر بالإضافة إلى من تم ترحيلهم إلى خارج البلاد. لَعِبَ الفلسطينيون المسيحيون دوراً محورياً في تشكيل القوة السياسية وكذلك قيادة الانتفاضة بسرّية.

لا يمكننا أن نغفل عن هذا التكافل والتعاون بين الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين، كون هذا التعايش بينهم قد نما عبر قرونٍ من التعاون مع بعضهم في كبرى مدن فلسطين، حيث تشاركوا في سعيهم وراء تلبية احتياجاتهم اليومية قبل هموم الاحتلال ومخاوفه.

فمن الأمانة أن نقول أن هناك العديد من الأسباب وراء متانة هذه العلاقات وتماسكها:

أولاً خسارتهما المشتركة لفلسطين وكذلك المقاومة المشتركة لإنهاء الاحتلال.
مساهمة المسيحيون في المؤسسات الإسلامية في شتى مجالاتها من صحة وتعليم وثقافة وحتى في المجتمع المدني الفلسطيني.
وجود أماكن مقدسة مشتركة في فلسطين والاحترام المتبادل لها.
لعبت المساكن والأحياء المشتركة بينهما دوراً حيوياً في ترسيخ الترابط بينهما وفي التشارك بمصالحهم وثقافتهم.
يفتخر المسيحيون بهويتهم وثقافتهم وتراثهم في فلسطين.
وبالطبع أهتمَّ المسيحيون بالتعليم واعتبروه وسيلتاً للخروج من الأحياء الفقيرة، ولهذا السبب يُعتبر المسيحيون من أكثر شرائح المجتمع دخلاً، ومن المعروف أنهم مجتمع متعلم جيداً ويمارس المهن المكتبية التي تتطلب المجهود الذهني وليس الجسدي وغالباً ما يكونوا أصحاب شركات وبدخل فوق المتوسط. ويعيش معظم المسيحيون في المدن الكبرى الستة في الضفة الغربية بما في ذلك القدس، ولكن من المهم ملاحظة أن هناك أسباباً حقيقية وراء هجرة المسيحيين:

الملف الاجتماعي الاقتصادي للمسيحيين الحضريين من الطبقة الوسطى.
التقليد القديم للهجرة المسيحية بسبب الظواهر الطبيعية.
تصورهم لانعدام الحياة الكريمة واستحالة التنمية الإجتماعية الاقتصادية وذلك بسبب الاحتلال الاسرائيلي.
وبالطبع لعب الإعلام الغربي دوراً كبيراً في تصوير مسيحيي الشرق الأوسط على أنهم ضحايا جيرانهم المسلمين الذين يجبرون المسيحيين على مغادرة فلسطين والوطن العربي من خلال العنصرية والترهيب. وبكل تأكيد المشكلة ليست الإسلام، وإنما الإسلام المتطرف.

وما زال الإعلام الغربي يصور الإسلام على أنه دين عنف مما يؤدي إلى تشويهه بالكامل ويحول المجتمع الدولي ضده، ولكن يدرك الفلسطينيون وقياداتهم هذه الألاعيب الغربية، ونتيجة لذلك حرصوا على إظهار التعاون الكامل بين المسحيين والمسلمين من خلال الأعمال الخيرة وشاركتهم حياتهم ومواجهة التحديات الهائلة التي يواجهونها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

يشكل المجتمع المسيحي في القدس جزأَ متكاملاً من البنية السكانية الفلسطينية المرتبطة بالأماكن الدينية المقدسة والبنية الاجتماعية الفلسطينية، حيث لعبت الكثير من المنظمات المسيحية دوراً محورياً في تنشيط المجتمع المدني وبنائه.

أنشأت المؤسسات التبشيرية العديد من المدارس الفلسطينية الخاصة الرائدة ، والتي كان مستوى التعليم فيها ممتازاً خصوصاً للمرحلتين الابتدائية والثانوية، ومنها كلية لا سال ومدرسة راهبات الوردية وكلية شميدت للبنات ومدرسة راهبات مار يوسف ومدرسة المينوناتية وكلية تراسانطة والمدرسة الأرمنية. بالإضافة إلى العديد من مراكز الخدمات المجتمعية التي تديرها المجتمعات المسيحية، وكذلك الخدمات الطبية المُقدَمَة للمقدسيين. على العموم تروّج العديد من الكنائس (علماً أنها تنحدر تحت 13 طائفة) الأنشطة الثقافية وتقدم مختلف المساعدات مثل توفير المأوى والمساعدات الطبية، وهناك أيضاً منظمات خيرية تلبي احتياجات الفقراء والمحتاجين.

دائماً ما تستهدف إسرائيل البنية الإجتماعية الاقتصادية للمجتمع المسيحي لغايات أمنية أو لفرض الضرائب، بالرغم من أن الممتلكات في القدس وضواحيها تعود إلى الكنائس الرئيسية سواء كانت اليونانية الأرثوذكسية أو البطريركية اللاتينية وإلى خادم الكنيسة بالإضافة إلى الكنيسة الأرمنيّة.

باعَ الروم الأُرثوذكس والبطاركة الأرمن العديد من الممتلكات والأراضي الدينية للمنظمات الإسرائيلية مما أثار الغضب والفزع بين المجتمعات المسيحية إلى حد طرد بطريرك القدس.

يواجه المسيحيون في القدس صعوبات الاحتلال المتكررة كل يوم من اسرائيل، وبغض النظر عن صمودهم ضد سياسات الاحتلال الوحشية فإن الهجرة أمراً محتوماً، وتتضاءل أعداد المسيحيون في القدس يوماً بعد يوم مما يثير القلق للكنائس الغربية وكذلك للقيادة الفلسطينية التي تعتبر المسيحيين جزءاً لا يتجزأ من البنية الاجتماعية الفلسطينية والعنصر الأساسي للمقاومة الوطنية الأكبر ضد الاحتلال.