الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

كلام غير مُفيد في التهدئة

نشر بتاريخ: 09/08/2018 ( آخر تحديث: 09/08/2018 الساعة: 17:23 )

الكاتب: د.وليد القططي

أفرز الصراع المتواصل مع العدو الصهيوني العديد من المفاهيم والمصطلحات، لم تكن موجودة في القاموس السياسي الفلسطيني والعربي، ومن أمثلتها: النكبة، والنكسة، والخط الأخضر، وجدار الفصل العنصري، والهبة الجماهيرية، والانتفاضة الشعبية، وغيرها من المفاهيم والمصطلحات، ويأتي في نفس السياق مصطلح (التهدئة)، ويعني كمفهوم لغوي واجتماعي: تهدئة النفوس، وتخفيف الانفعال، وإخماد نار الغضب، وتسكين الروع، بعد شجار أو نزاع بين أفراد أو جماعات- عائلات أو عشائر أو أحزاب – تمهيداً للعودة إلى الحالة الطبيعية قبل الشجار أو النزاع. 
والمصطلح دخل القاموس السياسي الفلسطيني بشكل واضح أثناء الانتفاضة الثانية، وبالتحديد في نهايتها، وما تبعها من حروب عدوانية إسرائيلية وجولات تصعيد دموية على قطاع غزة، وفترات تهدئة قصيرة أو طويلة.
جاء مصطلح (التهدئة) في نهاية الانتفاضة الثانية لأول مرة في وثيقة إعلان القاهرة الموّقعة بين الفصائل الفلسطينية في شهر مارس 2005، وبالتحديد في بندها الثاني ونصه: وافق المجتمعون على برنامج لعام 2005 يرتكز على الالتزام باستمرار المناخ الحالي للتهدئة مقابل التزام إسرائيلي مُتبادل بوقف كافة أشكال العدوان على أرضنا وشعبنا الفلسطيني... . وهذا يعني ببساطة: الهدوء مقابل الهدوء ،أي تسكين جبهات القتال، وميادين المعارك، ووقف العمليات العسكرية، بدون تسوية سياسية ،أو تغييرات ميدانية على الأرض، ومصطلح التهدئة بهذا المفهوم مُتداخل ومُختلف في نفس الوقت مع غيره من المصطلحات الأخرى: وقف إطلاق النار، والهُدنة، وفك الاشتباك.
مفهوم (التهدئة) الموجود في (وثيقة إعلان القاهرة) قريب من مفهوم (وقف إطلاق النار)، بمعنى وقف أو تعليق أو تجميد العمليات العسكرية بين طرفي النزاع، قبل أن تبرز مشكلة الحصار المفروض على غزة، وتُصبح التهدئة مرتبطة بإنهاء الحصار أو تخفيفه عقب كل جولة عدوانية، باعتبار الحصار عملا عدوانياً، وشكلا آخر للحرب لا يقل بشاعة عنها. والتهدئة تتداخل مع (الهدنة)، التي تعني وقف مؤقت للقتال بدون الإعلان عن نهاية الحرب أو الصراع، وقد تكون بداية لمعاهدة سلام دائمة. ولا يُبعد كثيراً عن مفهوم (فك الاشتباك)، الذي برز عقب الإعلان عن وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر 1973م، ويشير إلى الفصل بين القوات المُتحاربة على الأرض، بوجود منطقة عازلة بينهما، وترتيبات عسكرية تمنع الاشتباك المُسلح بينهما، ومن الجدير بالذكر أن اتفاقية فك الاشتباك بين سوريا و(إسرائيل) لا زالت سارية المفعول رسمياً، بينما مهدّت لمعاهدة سلام دائمة بين مصر و(إسرائيل) لاحقاً.
التهدئة من جانب آخر تختلف عن المفاهيم السابقة؛ لأنه مفهوم مطاطي فضفاض لا يمكن ضبطه، ولا ينص صراحةً على وقف كل الأعمال العسكرية، ويُعطي الحق لأي طرف بتحديد مدى التزام الطرف الآخر بالتهدئة، وبالتالي خرقها، والتحلل من التزاماتها عندما يرى أن من مصلحته ذلك ،كما تحاول (إسرائيل) على الدوام بعد حرب 2014 تغيير قواعد الاشتباك دون جدوى، أو شن حرب جديدة لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية معينة...والتهدئة التي قد تتبلوّر معالمها قريباً لا تخرج عن هذا الإطار إلاّ من حيث مدتها الطويلة المقترحة، وستكون أقرب للمقايضة من التسوية، عنوانها الجوهري: التهدئة مقابل حل مشكلة غزة الإنسانية كُليّاً أو جزئياً، ويدخل تحت هذا العنوان مقايضات: وقف مسيرة العودة وكسر الحصار مقابل فتح المعابر، وتجميد المقاومة مقابل تسهيلات اقتصادية، وإذا شملت المُصالحة يصبح تمكين حكومة الحمدالله مقابل رفع العقوبات عن غزة.
هذه المقايضة أو الطريقة في التعامل مع غزة لم تكن لتتم لولا المأزق الإنساني العميق المفروض على غزة، والناتج بدوره عن الحصار المتواصل، والحروب المتكررة، والعقوبات المفروضة. ولم تكن لتأخذ المسار الثنائي الحالي بعيداً عن الكل الفلسطيني لو لم يكن الانقسام موجوداً، ولم تكن لتحوّل قضيتنا الوطنية إلى مشكلة إنسانية، لو كانت القضية الوطنية حاضرة في بؤرة العمل الوطني، ولم تكن لتتزامن مع خطة فصل غزة عن الوطن كمقدمة لصفقة القرن، لو كانت لدينا خطة وطنية موّحدة للتصدي لصفقة القرن الصهيو أمريكية.
إلى هنا قد يكون الكلام في التهدئة مُفيداً، أو على الأقل غير ضار؛ أمّا الكلام غير المُفيد في التهدئة، فهو الذي يوظفها في المناكفات السياسية، ويستخدمها وقوداً جديداً يُصب على نار الانقسام، ويحرض على سياسة العقوبات ضد غزة، والطعن في وطنية الطرف الآخر، واتهامه بالمساهمة في فصل غزة وتمرير صفقة القرن. بدلاً من امتلاك الإرادة الحقيقية لإنهاء الانقسام، والقيام بالعمل الوطني الفعلي لتحقيق الوحدة الوطنية، تمهيداً لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني القائم على التحرير والعودة والاستقلال، وإعادة بناء كل من المنظمة والسلطة بناء على استحقاقات مرحلة التحرر الوطني، وحينئذ ستسقط صفقة القرن وكل مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، ولن تكون بحاجة إلى الاتهامات المتراشقة والمناكفات المتبادلة على خلفية اتفاقية التهدئة المرتقبة، وقد لا نكون بحاجة إلى اتفاقيات تهدئة مع العدو من الأساس.