الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

غزة بين احتمالات الحرب والتهدئة

نشر بتاريخ: 13/11/2018 ( آخر تحديث: 13/11/2018 الساعة: 12:02 )

الكاتب: معين الطاهر

تفيد التقديرات بأنّ العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، الليلة قبل الماضية (11/11/2018)، لم تستهدف اغتيال القائد في كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، نور الدين بركة، إذ إنّ مهمة الاغتيال، وفي ظروف مثل التي يعيش فيها قطاع غزة، لا تستدعي إرسال مجموعة من القوات الخاصة، يقودها ضابط برتبة مقدم (قائد كتيبة غولاني) قُتل في المعركة وجُرح معه ضابط كبير آخر، في سيارة مدنية (باص فولكسفاغن)، وتجتاز الحدود بعمق ثلاثة كيلومترات، حتى تصل إلى منزل الشهيد الذي كانت القوة متأكّدة من وجوده في داخله. إذ إنّ جميع ما كانت تحتاجه عملية الاغتيال، في مثل هذه الحالة، وكما حدث مرارًا وتكرارًا، إرسال طائرة، مسيّرة أو مروحية أو مقاتلة، لتطلق صاروخًا أو أكثر على منزل القائد القسامي.
لم تأتِ هذه العملية في سياق تدريب روتيني على التسلل في عملياتٍ سرّية في حالة اندلاع حرب، كما زعمت مصادر صحفية، فعملية تدريب لن يقودها ضباط بهذا المستوى، ولن يصادق عليها رئيس الأركان ووزير الدفاع ورئيس الوزراء قبل إطلاقها. وحتى في حال افترضنا أنّ هذا النمط من العمليات التدريبية قابل للتطبيق، فإنّ المستوى السياسي سيطلب حتمًا تأجيل هذه العمليات، في ظل الوصول إلى اتفاق تهدئةٍ، ظل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يطلق تصريحات تأييده له، والسعي إلى تطويره، كما قال في باريس التي قطع زيارتها بسبب هذه العملية، بل إنّ مثل هذا النمط من العمليات يحمل، في طياته، احتمال وقوع

"لا تهدئة كاملة في قطاع غزة، وإنما فترات هدوء متقطّعة، تهدف إلى تحييد القطاع إلى حين تمكّن العدو من استكمال ابتلاع الضفة الغربية"

المجموعة المتسللة في الأسر، وهي مسألةٌ بالغة الحيوية في إسرائيل، وقد تعرّض مصير الحكومة الإسرائيلية برمّتها للخطر، وتقضي على المستقبل السياسي لرئيس وزرائها الذي سيخوض الانتخابات في الربيع المقبل، وهو الأمر الذي بذل الجيش الإسرائيلي جهده كله لمنع وقوعه، عبر توفير تغطيةٍ جويةٍ ومدفعيةٍ، شكّلت حزامًا ناريًا حولها لمنع المقاومين من ملاحقتها، في عملية إنقاذٍ جويٍّ وصفتها المصادر الإسرائيلية بأنّها الأعقد والأصعب في الأعوام الأخيرة. .. في ظل هذه الظروف، ما الذي يدفع رئيس الأركان الصهيوني، غادي إيزنكوت، إلى طلب المصادقة على عمليةٍ من هذا النوع، ويوافق وزير الدفاع ورئيس الوزراء عليها، على الرغم من جميع التعقيدات العسكرية والسياسية المتعلقة بها؟

بداية، يجب ألّا يتكّون لدينا أدنى وهم بشأن نيات العدو تجاه أي مصدر قوة حالي، أو محتمل، قد يهدد مصالحه، أو يخلّ بميزان القوى بينه وبين خصومه الحاليين، أو من يصنفهم هو في خانة الخصوم مستقبلًا. ومن هنا، كانت دومًا حساباته في موازين القوى، وعلى امتداد الأعوام كلها، تضع الدول العربية كلها في كفّة وتضعه هو في كفّة أخرى. وفي الوقت الحالي، ثمّة خطران ماثلان من وجهة النظر الصهيونية العسكرية، هما: أنفاق المقاومة وصواريخها في قطاع غزة، وآلاف الصواريخ التي حُشدت على حدوده الشمالية. ولعل المهمة الأولى لرئيس الأركان الصهيوني وضع الخطط الكفيلة بمواجهة هذين الخطرين. وقد تمكّنت المقاومة في القطاع من بناء شبكة كبيرة وممتدة للأنفاق، ولم تفلح الاستخبارات الصهيونية في كشف أسرارها، على الرغم من استخدامها جميع الوسائل البشرية والتقنية، وهو الأمر الحيوي الذي يعيق تقدم القوات الإسرائيلية داخل القطاع في حال نشوب أي مواجهة برية مقبلة.
وبحسب التسريبات، فإنّ القائد القسامي نور الدين بركة هو مسؤول قطاع الأنفاق في جنوب قطاع غزة. ومن هنا، فإنّ عملية صامتة لاختطافه تشكّل صيدًا ثمينًا للعدو، وتجعله قادرًا على تفكيك أسرار أنفاق المقاومة في غزة، ولعلّ هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبرّر الحماقة الإسرائيلية، ويجعل من موافقة وزير الحرب ورئيس الوزراء أمرًا حتميًا، ويكلّل فترة خدمة رئيس الأركان الوشيكة الانتهاء بإنجاز كبير، بحيث يمكن أن يُنسب إليه فضل تفكيك هذه الشبكة لاحقًا، وتزداد بذلك احتمالات حدوث اجتياحٍ جديد لقطاع غزة.
ومن هنا، ينبغي الانتباه إلى أنّ مسألة التهدئة أمر ثانوي بالنسبة للعدو، وكما كتب سابقًا صاحب هذه السطور، لا تهدئة كاملة في قطاع غزة، وإنما هي فترات هدوء متقطّعة، تهدف إلى تحييد القطاع إلى حين تمكّن العدو الصهيوني من استكمال ابتلاع الضفة الغربية، وشعوره بأنه أصبح قادرًا على تحقيق حسم عسكري في اجتياحه المقبل، وهو أمر تحفّه مخاطر كبيرة، ويصطدم مع إرادة مقاومةٍ متجذّرةٍ هناك. وحاليًا، وربما بعد فترة توتر محدودة، سيبتلع العدو هزيمته، وسيعود الهدوء إلى حين، وستُشكّل لجان تحقيق إسرائيلية داخلية لمعرفة أسباب هذا الفشل الذريع، وأغلب الظن أن على المقاومة، بعد هذا الدرس، أن تستفيد من حالات الهدوء الموقت لتعزيز صمود الأهالي، وزيادة قوتها ومنعتها، والاستعداد للجولات المقبلة.
ما حدث في غزة الأسبوع الجاري متوقع حدوثه بأشكالٍ مختلفة في الشمال الذي شهد مجموعة غارات إسرائيلية على مواقع إيرانية، وأخرى تابعة لحزب الله في سورية. استهدفت هذه الغارات إعاقة إمدادات حزب الله بالصواريخ المتطوّرة، والتي يغطي مداها أرجاء فلسطين المحتلة، ومنع إيران من بناء منظومتها الصاروخية، والتي يستهدف جانبٌ منها نقل الصراع خارج الأرض الإيرانية في مواجهة تطوّر العقوبات الأميركية. ويمكن القول إنّ الجولة الأولى من هذه المعارك انتهت بفشل إسرائيلي كبير، إذ لم تتمكّن هذه الغارات من إعاقة تزويد حزب الله بالسلاح، وبناء منظومته الصاروخية التي تُقدّر بعشرات آلاف الصواريخ. وتوّج هذا الفشل بإسقاط الطائرة الروسية، ما حدّ من قدرة إسرائيل على شنّ غاراتٍ جديدةٍ خلال الفترة الماضية.
ستستمر هذه الجولة في الشمال كما في الجنوب، ومن العبث التوهم بأنّ تحقيق توازنٍ ما سيردع العدو عن القيام بمغامرةٍ هنا أو هناك، فالحرب دائرةٌ على شكل معارك صغيرة، قد

"تمكّنت المقاومة في القطاع من بناء شبكة كبيرة وممتدة للأنفاق، ولم تفلح الاستخبارات الصهيونية في كشف أسرارها"

تتسع يومًا، إذا توهم قادة العدو أنّ في مقدورهم تحقيق حسم ما. وقديمًا قيل إنّ الحرب أولها كلام، لكننا فعليًا تجاوزنا إطار الكلام إلى الاستعداد الفعلي لدى الطرفين لمواجهات واسعة، تتجاوز حالة المعارك الصغيرة المتكرّرة.
وثمة ملاحظتان هامتان؛ الأولى في رثاء حال الذين صوّروا عملية التهدئة في غزة بأنّها بمثابة "أوسلو" جديدة، وتخلٍّ عن المقاومة، فقد ثبت، عبر الاشتباك مع العدو، أنّ كلا لا يزال في خندقه. والسؤال الواجب هنا: لو كانت القوات الصهيونية التي تجتاح رام الله ومدن الضفة الغربية تجد من يشتبك معها، ويجعل من عملية استباحتها المدن الفلسطينية ذات ثمن، فهل سيجرؤ العدو على الاستمرار بذلك؟
الملاحظة الثانية، دعوة إلى جميع الفصائل الفلسطينية، وللفرقاء في الساحتين، السورية واللبنانية، أن يدركوا أنّ ثمة مواجهة مقبلة، وأنّ عليهم الاستعداد لها بتحقيق مصالحات تاريخية تتجاوز الماضي، وتهيئ بلادنا لمرحلة جديدة، قائمة على قيمة الحرية ورفض الاستبداد، والانتباه إلى العدو الرئيس الذي يسعى، عبر التطبيع مع بعض العرب، إلى الالتفاف على ما تبقى من أمتنا من قوى حية.