الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

كلام حول النصر والهزيمة والحروب القادمة

نشر بتاريخ: 17/11/2018 ( آخر تحديث: 17/11/2018 الساعة: 12:07 )

الكاتب: عوني المشني

من ينتظر ان يتغير ميزان القوى حتى نحقق نصرا سيبقى على مقاعد الانتظار الى الابد ، فالمعركة بين المُستعِمر والمستعمَر لا يمكن ان يحكمها ميزان قوى فدائما وابدا المستعمِر هو الطرف الاقوى ، هكذا كان في فيتنام والجزائر والهند وجنوب افريقيا ولكن في النهاية يهزم ، وطبعا لم يهزم بالانتظار .
الانتصار للشعوب لا يأتي بالضربة القاضية ، يأتي بالتراكم ، يأتي بتيئيس العدو من امكانية حسم بالصراع عبر قوته العسكرية ، يأتي بفارق قدرة الاحتمال لدى جيش الاستعمار والشعب المقهور ، يأتي بجعل الكلفة النفسية للاحتلال عالية على الاستعمار ، يأتي بالقدرة على التكيف مع مختلف الظروف ، يأتي بالإبداع في أشكال النضال ، يأتي بجعل كل تفصيلية معركة اشتباك .
في عالم المفاوضات فان الثبات الاستراتيجي للطرف الخاضع للاحتلال هو النقطة الأكثر قوة له ، تنازلات تكتيكية وثبات استراتيجي ، وفِي مرحلة ذروة القوة الاستعمارية فان الثبات الاستراتيجي لقيادة الشعب الخاضع للاحتلال سيقوض مشروع الاحتلال والتوسع ، الثبات الاستراتيجي يعني ان تتحول قوة العدو الى وهم لانها تصبح عاجزة عن تحقيق حسم للصراع ، يعني تآكل المشاريع التوسعية على اعتبار انها لن تؤثر في نفسية الشعب الخاضع للاحتلال ، تعني ان يستخدم عنصر الصبر بمفهومه الإيجابي ، تعني ان نحول الحياة بذاتها الى عنصر صمود ، تعني ان يتحول الزمن الى عنصر ضاغط على الاحتلال .
أدوات التقييم في حروب التحرير مختلفة ، عدم انتصار الاستعمار في معركة هزيمة له وعدم هزيمة الشعب المحتل في معركة انتصارا لهذا الشعب ، وفِي النهاية فان التقييم يخضع للمتغيرات السياسية التي احدثتها المعارك ، ان يكرر العدو حربه دون نتائج تؤثر في مستقبل الصراع يعني ان يعاني هزيمة ، ان تصبح قوته المتعاظمة غير قادرة على حسم الصراع يعني هزيمته .
من الأهمية بمكان استخدام الزمن كعامل مهم في الصراع ، الزمن عامل تآكل او تعزيز ، الزمن عنصر القوة المحايد يكون مع من يجيد استخدامه ، الوقت من دم ومعاناة وكفاح ، الوقت من صمود واشتباك يومي على كل التفاصيل مهما كانت صغيرة وهامشية ، الوقت من اصرار على التواصل .
في كل مراحل الكفاح الوطني فان إبراز صورة الشعب الخاضع للاحتلال كضحية له اولوية ، ان تنتصر بالحق يعني ان تستطيع إبراز صورة الشعب كضحية ، الفيتناميون انتصرو في شوارع نيويورك وواشنطن قبل ان ينتصروا في سايغون ، الحزائريون انتصروا في شوراع باريس قبل انتصارهم في الجزائر ، وهكذا جنوب افريقيا ، وليس من اجل الانتصار فقط بل المناضل يفترض ان يحتفظ بإنسانيته رغم اجرام الاحتلال ، اذا فقدنا إنسانيتنا لا نستطيع ان ننتصر ، عندما فقد الخمير الحمر إنسانيتهم هزموا ، ليس بالجانب الانساني ننتصر ولكن بدونه لا ننتصر ، يجب ان يمون فارق بين الكفاح وبين القتل ، الكفاح الوطني في جوهره فعل انساني يفترض ان لا يفقد هذه السمة .
الوحدة الوطنية للشعب الخاضع للاحتلال هي وحدة البرنامج وليست المحاصصة في الهيمنة ، هناك فرق ، محاصصة في ظل برامج متناقضة ليست وحدة شعب ، الوحدة الوطنية برنامج تحرر شامل ، مؤسسة وطنية شاملة ، تمثل حقيقي على قاعدة الالتزام بالبرنامج ، كل السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية تصب في خدمة البرنامج التحرري ، دون ذلك فالوحدة وهم ، والتحرر وهم ، وكل الشعارات وهم .
معيار التقييم في معارك التحرر ليس هو المعيار الكلاسيكي ، انه المعيار الملتزم بقضايا التحرر والاستقلال ، معيار الجودة ينطلق من ذات الهدف ، معيار النصر والهزيمة ينطلق من ذات الهدف ، معيار النجاح والفشل ينطلق من ذات الهدف ، معيار الولاء ينطلق من ذات الهدف ، عندما يصبح معيار الجودة هو ما يحقق مصلحة فئة اجتماعية ، ومعيار النصر ما يحقق مصلحة فئوية ومعيار النصر ما يحقق مصلحة القيادة ، ومعيار الولاء هو الولاء للقائد ، عندها لن يكون التحرر هو الهدف ويفتقد الشعب البوصلة وتسود ثقافة إلانا ، وقيم " الشطار" ويصبح الشعب حينها بحاجة الى تغيير يعيد اتجاه البوصلة .
حتميات النصر والهزيمة لا تعمل بشكل تلقائي ، هناك محرك للنصر وهو القدرة على تنظيم طاقات الشعب واستنفاذ كل امكانياته في معركة التحرير ، بدون ذلك تتعطل الحتمية وتتحول مفاعيل النصر الى مبررات هزيمة ، لا حتميات دون جهد واعي منظم يحرك عجلة التاريخ ، التاريخ يقدم سياقات للشعوب ويترك لها ان تنظم حركتها في هذه السياقات ، من يركن الى الحتميات سيجد نفسه في نهاية المطاف مهزوما وخارج من حركة التاريخ .
في الحروب القادمة ليس هناك جبهة للحرب ، كل أراضي طرفي الحرب جبهة مفتوحة ، لا مكان لجبهة داخلية ، المدن جبهة ، المطارات جبهة ، الموانئ جبهة ، محطات تحلية المياه جبهة ، محطات الغاز والنفط والكهرباء جبهة ، المصانع والشوارع والمجمعات التجارية ومحطات القطار كلها جبهة .
في الحروب القادمة الصواريخ لا تعرف الحدود ولا تتوقف عند خطوط الدفاع ولا السدود والأسوار والدشم العسكرية تصدها ، الصواريخ سلاح الأقوياء والضعفاء والبسطاء ، الصواريخ التي لا حلول تكنولوجية لصدها ولا قوة عسكرية تردعها ، الصواريخ العمياء والذكية والموجهة والمجنحة والقصيرة المدى والطويلة المدى كلها اصبحت في متناول اليد ولا امكانية لحرب دونها .
في الحروب القادمة لا يوجد منتصر ، يوجد خاسر وخاسر اكثر ، يوجد تدمير كلي او جزئي ، يوجد قتلى وقتلى اكقر ، جرحى وجرحى اكثر ، المنتصر في الحروب القادمة هو من يستطيع تجنبها .
في الحروب القادمة لا يوجد ميزان قوى حاسم ،القوة الزائدة قد تتحول الى عبئ ، الضعيف قد يكون متحررا في استخدام قوته اكثر من الطرف القوي ، لكل طرف نقاط ضعفه ونقاط قوته ، اذا وصلت الى نقاط ضعفه واستطعت المس بها بشكل جوهري ستخزنه ومهما كانت قوته ، العيار استخدم من قوتك ما يردعه وليس ما يستفزه ليصل الى مرحلة لم يعد ما نخسره ، هناك اهمية ان لا تخرج عدوك من أزمته عبر الحرب ولكن ان تجعل تعمق الازمة لديه ليصل الى استنتاج ان المخرج هو التخلي عن سياساته الاحتلالية . ادارة الحرب بعث سياسي اهم من ادارتها بعقل عسكري .
التحرر الوطني ليست بالتحديد حربا ، ليست مفاوضات ، ليست انتظار ، التحرر الوطني منهجية متكاملة فيها الحرب والمفاوضات والاقتصاد والتعليم والصحة ، هي طريقة حياة متكاملة بكل التفاصيل ، كل تفاصيل حياة الشعب تنطلق من هذا المنطلق لتخدم ذلك الهدف ، وظيفة القيادة تعميم هذا المنهج ، استثماره لصالح مفهوم التحرر الوطني ، لا يوجد تحرر وطني بعقلية القيادات التقليدية التي تعيش ترف قيادات التخلف والاستبداد وتنطق بشعارات التحرر الوطني ، قيادة كهذه تصبح عبئا على التحرر الوطني ، وتحرف الجماهير معها عن مسار التحرر . وضع حد لازدواجية المواقف والخطابات مسئولية وطنية ، وضوح الهدف والأدوات والاستراتيجية ضرورة وطنية في معارك التحرر ، هذا الوضوح محرك للفعل الشعبي ، عامل مساعد على الصمود ، عنصر اساس في الوحدة الوطنية ، وبدونه يحدث كل ما هو معيق ومعطل للفعل التحرري .