الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

هل تحولت إسرائيل إلى الدولة "القلعة"؟

نشر بتاريخ: 07/02/2019 ( آخر تحديث: 07/02/2019 الساعة: 11:43 )

الكاتب: د.محمود فطافطة

إن إسرائيل باتت تعيش مرحلة التراجع من عُمر الدولة، نزولاً نحو التفكك والتلاشي، وباتت تُحيط نفسها بالجُدر والأسوار لشدة خوفها على الوجود، فهي تُقيم واحداً مع غزة وثانياً في الضفة، وثالثاً مع الأردن، وتقترح آخر مع مصر، بحيث باتت تتحول إلى نموذج الدولة "القلعة" وهي بهذا لم تخرج عن السياق التاريخي للدول التي سبقتها في احتلال فلسطين، فما زالت أسوار قلاعِهم شاهدةً على زوالهم.
هذه هي إحدى النتائج التي خرج بها الباحث أبو زنيط في أطروحته الدكتوراه المعنونة بـ (دولة إسرائيل: القابلية الجيوسياسية للحياة، والتي حاز بها على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة تونس المنار في العام 2017، وجاءت في 480 صفحة).
وتؤكد الأطروحة على أن التحولات والمتغيرات المؤثرة في قابلية إسرائيل للحياة، كثيرةٌ ومتسارعة، ولا تخلو من عنصر المفاجئة، ولكنَّها في مجملها تحمل مؤشرات سلبيةٍ تجاه إسرائيل، فهي وإن كانت دولة مصطنعة إلاَّ أنها ليست خارج السياق الطبيعي الذي تنهار فيه الدول، بل على العكس هي ذاتها مختلفة عن الدول أجمع بكونها تكاد الدولة الوحيدة عالمياً المُختلف على وجودها.

الأهداف والمنطلقات
تَسعى هذِهَ الأُطروحَة إلى تَناوُلِ موضوعِ قابِليَّة إسرائيلَ للحياة، مُستعينةً بذلكَ بمنهجِ التَحليلِ النَظمي والمَنهجِ المِعياري، مُحاولةً من خِلالِهما تناولِ أبرزِ المُتغيراتِ المُؤثرةِ في تِلكَ القابليَّة، وهادفةً لرَسمِ تصوراتٍ مُستقبَليّة حَول مألآتِ الدِولةِ وكِينونَتها ومُستقبلها المَتَوقَع، فإسرائيلُ التي نَشأَت قبلَ ما يقرُبُ من سَبعينَ عاماً بِفعلِ عوامِلَ دافعةٍ ومُحركة، ساعَدتَها على التَكون، مستفيدةً مَن الدَور الذي لعَبهُ الانتدابُ البَريطاني في إنشائِها، وما ضَمنهُ لها الدَعمُ الخارجِي بَعدها من الاستِمرار، وما قَدّمه لها الضَعفُ العربي وحالةِ التيهِ التي عانَتهَا الشُعوبُ مِن التَمددِ والتِوسع، تَجدُ اليَوم نَفسها ما زالت تُراوحُ المَكان.
وتهدف هذه الدراسة العلمية إلى تحقيق مَجموعَةٍ مِنَ الأَهدافِ، أَهَمها: تَوضيحُ مَفهومِ إسرائيلَ كَدَولةٍ، لها تَطَلُعاتِها المُستَقبليَة التَي تُؤثِرُ حَتماً عَلى المُستَقبَلِ العَربِي والمَنطِقةِ، وإيضاحُ الَعوامل الرئيسية التي ساعدتها على التَقدُمِ والتَطورِ، وتِلكَ الأُخرى التِي مِنَ المُمكنِ أنْ تُسهِمَ في تراجُعِها وتآكُلِها، وكذلِكَ شَرحِ أهَمِّ العَوامِل التِي مِن المُمكنِ من خِلالِها التَصدي لرُؤيتِها المُستَقبليِة.

كما وتتناول الأطروحة أبرَزِ العَلاقاتِ الإسرائيليةِ الإِقليميَةِ والدَولِيةِ التي عَزَزت مِن استِمرارِيتِها بالشَّرح والتَحليلِ، وكَيفَ تَعملُ إسرائيل على بِناءِ عَلاقاتٍ مَتينةٍ خارِج َحُدودِها تُمَكِنها منَ الاستِدامَةِ أطولَ وقتٍ مُمكِن. وَمُحاوَلةِ الوُقوفِ على أَهمِّ الاستراتيجيات الجِيوسياسية الإِسرائيلية، وتَوضيحِ طَبيعتِها، وتَصنيفِها، وكَيفَ تَستَغلُها إسرائيلُ في المَدى القَريبِ والبعيد.

" مرجل" التناقضات!
ونظراً إلى الحجم الكبير للأطروحة والمعلومات والأفكار التي تضمنتها، فإننا سنقوم بتسجيل أبرز وأهم هذه المعطيات عبر نقاط موجزة. في المقدمة يقول الباحث: رغم ما تتميز به إسرائيل من تَفوقِ عَسكَريِّ وتِكنولوجِيِّ والمُساعَداتِ والحِمايةِ الأَمَيركيَّة والغَربِيَّة، وسواها إلا أنها تُعانِي مِن تَعقِيداتٍ وتَناقُضَاتٍ وعَلاقاتٍ صِراعِيَّة داخِليَّة وخَارِجِيَّة، تَضَعُها أَمامَ قَلقٍ وُجودِيٍّ مُستَمرٍ، واستِحقَاقاتٍ وأَسئِلةٍ، تُشَّكلُ تَضاداتِ وِحدَتِهَا، وعَوامِلَ أَو أَسبابِ التَغييرِ الذي جَعَلَ مِن إِسرائِيلَ الآنَ، إِسرائِيلَ أخرى، منوهاً إلى أن إسرائِيلُ لَم تَعد ذاتِها ولَم تَعُد تِلكَ "الدَولةِ" التَي كانَت قَبَلَ عُقودٍ، وأنه باتَ عَليها أنْ تَعيشَ في خِضَّمِ تَناقُضاتٍ بَينَ صُهيونِيةٍ كوَّنتها وأَرادَتها عِلمانِيةٍ، وبَينَ حَرَكاتٍ وأَحزابٍ باتَت تَشُدُها مِن أَطرافِها نَحوَ الدَولَةِ الدِينِيَّة.

وتؤكد الدراسة على أن إسرائيل تجِدُ نَفسها حائرةً بينَ حُلول تَضمنُ لها الاستمرارَ فلا هِي قادرةٌ اليومَ على حلِّ الدَولتين لما يَعنيهِ ذلكَ مِن تَخليها عن أرضِ إسرائيلَ التي حَاولت إقناعَ متدينيها بأنَّها قامت من أَجلِها، ولا هي قادرةٌ على حلِّ الدِولةِ الواحِدة لما يِعنيهِ ذلكَ من سيطرةٍ للعامِل الديمغرافي الذي عَملت على التَخلصِ منه، ولا هيَ ضامنةٌ لحلولٍ أُخرى في مَنطقةٍ ما زالت شُعوَبها لا تَقبلها، ولا هِي كذلك ضامنةً لأنظمةٍ طالما ساعَدتها على البقاءَ وقد رأت بَعضَها ينهارُ دونَ أن تَتمكنَ من المُساعدة.

ويرى الباحث أبو زنيط أن إسرائيلُ، اليوم، دَولةٌ لم تَعد ذاتها، وتَتكاثرُ في داخِلها تَحدياتٌ مُتنوعة، وتُحيط بها مُتغيراتٌ مٌتسارعَة التَبلور والتَغير، فَصحيحٌ أنَّها حقَقت إنجازاتٍ في كثيرٍ منَ المَجالاتِ وتَطورت تِكنولوجيا وعَسكرياً، إلاَّ أنَّ هناكَ حقيقةً تُقلل من قيمةِ ذلكَ النَجاح ولو كانَ كبيراً في مُقابلِ المتغيراتِ المُحيطة، حقيقةٌ تتمثل في كَونها دولةً غيرَ راسخة في منطقة تَواجُدها، جاءَت بقراراتٍ دَولية تناسَبت وتلِك اللحظَة وقد تِنتهي بقراراتٍ دَولية تتناسَبُ ومَرحلةٍ مُغايرة.
تُعاني إسرائيلُ تحولات ذاتية عدة، فالدولة التي أُنشأت بدافعٍ ذاتي هدفه إنهاء التمييز ضد اليهود في أوروبا حسب فكر آبائها، إذ بها مع بدء ظهورها تُمارس التمييز نفسهُ بينَ مواطنيها، مرةً بين يهود إسرائيل (اليشوف) ويهود الشتات (الدياسبورا)، ومرةً بين بين شرقييها وغربييها، وأُخرى بين الإسرائيليين ويهود العالم، ناهيك عن ذاك بين عربها ويهودها، إذ ببوتقة الصهر التي أُعدت لتذويب الفروق بين طبقات الشعب المُهاجر المُجمَّع تدفعُ باتجاه الافتراق في داخل الجسم الناشئ الجديد، لولا ذاك الشعور بالخطر المُوَّحِد. مثل هذه الفروق تؤكد على أنَّ التصدع العرقي ما زال قائماً في تركيبة الدولة الهجينة.

بين ارتخاء العقيدة ورخوة الجغرافيا!!
وبخصوص التصدع الديني في إسرائيل، فإنه لا يقلُّ أهميةً عن الآخر العرقي، فبدايةً ظهرت دولة مدنية تتجسدُ على الأرض هويتها الإسرائيلية، في مقابل دولةٍ دينيةٍ مُتَخَيلة عابرةٍ للحدود، ومع الوقت إذ بها تنقلب على ذلك لتصبح دولةً دينيةً تحمل خطاباً دينياً صارخاً يتنامي ويتعاظم، وتحمل تياراته أفكاراً وتوجهات تتناقض وأُسس الدولة التي صوَّرت نفسها ليهود العالم بالدولة النموذج، بحيث لا يرى المتدينون فيها إلاَّ تلك الدولة التي تطبق الشريعة اليهودية البحتَّة على كافة أفرادها، بينما يرى علمانيوها صعوبةَ العيشِ في دولةٍ تُكَبَّل فيها حرياتهم تحت غطاء الستار الديني، الأمرُ الذي يدفعُ بمزيد من اتساع الشرخ في البناء الإنساني للدولة مستقبلاً.

أما عامل الديمغرافيا، فيُعتبر عاملاً حاسماً في بقاء إسرائيل، فالدولة التي قامت منذ البدء على فرضية مفادها "أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض"، وراهنت على إثباتها عبرَ اقتلاع الساكن الأصلي من أرضه، وإحلال عُنصرٍ مُستقدمٍ مكانه، معتمدةً على الهجرة كعامل أساسيٍ في سياسية الإحلال تلك، ورافداً أولاً لتكوين الدولة، وعلى الاقتلاع والتهجير كوسيلة موازيةٍ لإخفاء الأول أو محوه وإنشاء الآخر بدلاً منه، باتت الآن وبعد سنواتها السبعين ترى الخطر الديمغرافي ماثلاً أمامها، بحيث أفلحت الهجرة في خلق عنصرٍ إسرائيليٍ على الأرض، ولكنَّها لم تُفلح في تذويب الآخر، بل زاد العنصر الديمغرافي الأساس إلى الحد الذي بات مساوياً للآخر المستقدم، ومع تعثر الدولة في استقدام مهاجرين جُدد وضحالة منابعها، بات الأساس الأول الذي أُقيمت عليه مهدداً بالفعل.
وبخصوص الجغرافيا، فإنه وفي إطار علاقتها مع المنطقة تُعاني إسرائيل تناقضاً واضحاً بين اعتبارها لنفسها دولةً يهوديةً، تنتمي للغرب وتُعدُّ امتداداً له في الشرق الأوسط، وبين إصرارها على الاعتراف بوجودها والتصالح معها، هذا التناقضُ يجعل منها دولةً لا يُمكنها أن تتصالح مع منطقة وجودها، ولا يُمكن لتلك المنطقة أن تقبلها.

ويسهب الباحث في العامل الأمني، إذ يرى أن المتغيرات الأمنية تحتل مرتبة هامَّة في قابلية إسرائيل للحياة، وقد برزت تحولاتٌ عدة في هذا الجانب تمثل أهمها: في تغير نوعية العنصر البشري نحو الأسوأ، وغياب جيل القادة العسكريين القدوة، وتلاشي أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وانعدام القدرة على حسم المعارك، وظهور الفساد في المؤسسة الأمنية، وفشل صناعة الفلسطيني الجديد، وبروز مقاومةٍ من نوع جديد أمام إسرائيل تختلف عن الأجيال التي عرفتها في حروبها السابقة، بحيث بدت منظمةً وتعمل ضمن تخطيط مسبق، بحيث لم تستطع إسرائيل تحقيق الإنجازات التي اعتادت عليها أمامها، مما أضعف دور التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية وفنّد الادعاءات حول الأسلحة المتطورة التي تمتلكها، كل هذا يتزامن مع وجود حالة من اللايقين الأمني التي تُعاني منها إسرائيل ناتجةً عن الفوضى التي تحيط بمحيطها.

بين طغمة المال ولهيب التجاور!!
وفيما يتعلق بالصعيد الاقتصادي، فإنه رغم تحقيق إسرائيل نجاحات بالنسبة لاقتصادها، فتمَّ تحويلهُ من اقتصاد زراعي إلى اقتصادٍ صناعي ومن ثمَّ معرفي، إلاَّ أنَّها أخفقت في جوانب عدة تُنبأُ بتأثيرات سلبيةٍ في المستقبل ومنها تكتل رأس المال في أيدي قلة وذوبان الطبقة الوسطى، واتجاه الدولة نحو الخصخصة، وارتفاع التكلفة الأمنية، الأمر الذي زعزع مفهوم دولة الرفاه، الذي استطاعت إسرائيل من خلاله تحفيز الهجرة إليها، وهذا بدورهِ أدى لزيادة الهجرة المعاكسة.
فإسرائيلُ اقتصادياً لم تَعُد الدولة النموذج التي تم الترويج لها، لم تعد الدولة التي تَسهر على رفاهية مواطنيها، بعد أنْ خلعت عن نفسها عباءة النجاح الأولى التي أسهم في صناعتها مؤسساتها الكبرى الأولى، وتوجهت نحو النيولبرالية الحديثة، الأمر الذي زاد الشرخ بين الطبقات في المجتمع، وأوجد طغمةً قليلة استطاعت السيطرة على رأس المال داخل الدولة، وأفقدتها الكثير من أدواتها في السيطرة الاقتصادية.

وتتطرق الأطروحة إلى التحولات التي جرت في المنطقة العربية بعد العام 2011م، إذ يراها الباحث بأنها مقلقةً لإسرائيل، وتزيد من حالة اللايقين الأمني التي تعيشها، فالدولة التي راهنت على بقاء أنظمةٍ عربيةٍ استبداديةٍ بجوارها مشغولةً في المحافظة على نفسها، وغير عابئةٍ بأيِّ مواجهة معها، إذ بها ترى تفككاً لبعضها، هذا التفكك رغمَّ كونه مُكلفاً للعرب فعلاً إلاَّ أنَّ له ما بعده، فهو بالنسبة لإسرائيل ناتجٌ عن وصولِ شعوب المنطقة لحالةٍ من اليأس المُرشح للانفجار، وهذا يدفع إمّا باتجاه الفوضى مستقبلاً إن أصرت الأنظمة على استبدادها، أو يدفعُ باتجاه انتشار الديمقراطيةِ في المحيط، وفي كلتا الحالتين تتأثر إسرائيل سلباً، فالفوضى -رغمَ كلفتها- تعني مزيداً من انتشار السلاح في المحيط، ومزيداً من التنظيمات والحركات التي لا تراهن إسرائيل على حسن سلوكها، والديمقراطية تعني أنظمةً مستقلةً تُعيد حسابتها مع إسرائيل حسب رغبة شعوبها التي لم تُفلح إسرائيل في التطبيع معها..

وفي إطار علاقات إسرائيل الدولية كذلك، تعتمد الدولة منذ نشأتها وفي استمراريتها وإدامتها حتى اللحظة على المعادلة الدولية التي أنشأتها في منطقة غريبة التركيب والثقافة والحضور عنها، وتُدركُ أنَّ أي خلل في المعادلة الدولية هذه يُمكنه إنهائها مثلما أتى بها وظيفياً لهذه المنطقة، وتُدرك تماماً أنَّها فشلت في التعاطي مع ملفات المنطقة بالشكل المطلوب، مما استدعى ذلك تدخل الاحتلالي الأصيل لتخليصها في أكثر من مرَّة، وفي هذا الإطار باتت الدولة تخشى استمرارَ فشلٍ كهذا، لأنَّه يعني تآكلاً للدور الوظيفي الذي أُنيط بها في المنطقة، وتراجعاً لعلاقتها مع الدول التي تحفظُ أمنها وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، مما قد يستدعي الأمر إعادة النظر والتفكير في الثمن الذي بات مطلوباً دفعهُ لضمان استمرار إسرائيل ووجودها.

أمّا في إطار تحول النظرة لها في المجتمعات الغربية، فقد استطاعت حملات المقاطعة التي قامت بها المنظمات المناهضة لإسرائيل بالتأثير على الرأي العام الغربي وخاصة في أوروبا وأمريكا الجنوبية وغيرها، ففي الوقت الذي كان شبهَ محرمٍ انتقاد إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، وتم الترويج للمحرقة اليهودية واستغلالها بشكلٍ كبير، وأحس المجتمع الأوروبي بعقدة الذنب تجاه اليهود وإسرائيل، وقدم الدعم والتعويض لهم، تغيرت النظرة في المرحلة الحالية، حيث أصبح نقد إسرائيل ومقاطعتها أحياناً أمرٌ واردٌ، وغير ممنوع، وباتت القناعة تزداد بزيف الادعاءات الإسرائيلية، والرواية التي تقدمها الدولة دائماً، ورغمَّ أن إسرائيل ما زال لها ذلك الحضور في العقل الأوروبي ولديها أذرعها الطويلة المؤثرة في الإعلام، إلاَّ أن هذا التحول في نظرة المجتمعات ومن خلفها الدول مؤشرٌ على تراجع الرواية الإسرائيلية، وتململ المجتمع الغربي منها، وقد عبرَّ في أكثر من مناسبة قادة إسرائيل عن خوفهم من مثل هكذا تحولٍ يُهدد إسرائيل.

تقييم عام:
إن هذه الدراسة تكتسب أهميتها من طبيعة الموضوع، فهي تعالج موضوعاً حيوياً ومتصلاً زمانياً، ذات بُعد تاريخي، يمتد تأثيره حتى الحاضر، ومن المتوقع أن يعبُر إلى المستقبل، ويبحث في مستقبل دولةٍ تكاد تكون الوحيدة في العالم التي يعتبر وجودها مثار شك.
وتكتسبُ الدراسة ميزةً أُخرى مِن خِلالِ احتِوائِها على جانبٍ استِشرافِيٍّ مُستقبلي، فهِي لا تَكَتفي بالبَحثِ في المُتغَيرات المُؤثَرةِ في قابِلية إِسرائيلَ للحياةِ، دونَ أَن تَضعَ تصوراتٍ لكَيفيةِ تَطورِ تلِكَ المُتَغيراتِ مَع الزَمَن، ودُونَ أَن تَحمِلَ تَوَقُعاتٍ لمستقبلِ صَيرورَتِها وتَحوَلاتِها مُحاولةً بِذلكَ فَتحَ البَابِ لدِراساتٍ مُستَقبليةٍ أُخرَى تَستَكِملُ ما بَدأَته. 
 
ومن خلال القراءة الدقيقة للأطروحة، فإنه يمكن الخروج بعدة نقاط، أهمها:
1. تَتميُز الدراسةُ بِتناُولِها غَيرَ التَقليدي لِقابِليةَ إِسرائيلَ للحَياة، فَهيَ تَبتعِدُ – قَدَر الإِمكانِ- عَن الأُسلوبِ السَردِي والرِوائِي التَاريِخي أو العاطِفي الذي يُحَرِّك المَشاعِر ويُلهبُ العَواطِفَ بَدلاً مِن إِعمالِ العَقلِ وتَحكيمُه، وذلكَ من خِلالِ الاستِعانةِ بِمناهِجَ بَحثيةٍ جَديدة تُحاكِي آخرَ ما تَوَصلَت لهُ أساليبُ البَحثِ والاستقراءِ والتَحليلِ، وأبرز ما صدَرَ مِن دراساتٍ ومُؤلفاتٍ، وغير ذلك..
2. هذه الدراسة لا تتجاوزُ محاولاتِ التقرُّب من الإشكاليَّة التي طرحتها وتحديد أبعادها وآثارها، بعيدًا عن أيِّ ادِّعاء بإصابة "كبد الحقيقة" كما يُقال؛ لذلك تظلُّ هذه عرضةً للمناقشة والتعديل والتحوير، ويتم الترحيب بكلِّ الملاحظات والتعقيبات، بل الردّ والتفنيد، مِمَّا يُعتبرُ تحفيزاً لإعادة النظر، واستئناف البحث. وهذا يُؤدِّي في النهاية إلى إثراءِ الموضوع، وتنويرِ كاتبه.
3. قد يكون هناك فجوةُ بين تعبير الكاتب في النص وذهن القارئ، لأنَّ القارئ يُضفي على معنى النصِّ طابعَه الخاصّ. فالمقروء يختلف باختلاف القارئ، في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من ذلك، ومع أنَّ تفصيلاتِ الأفكار ودلالاتها المختلفة والمتفاعلة قد لا تنتـقـلُ إلى ذهن القارئ بنفس الكَيْف والقَدْر اللذَين يُريدُهما الكاتب، فإنَّ التواصلَ بين القارئ والكاتب يظلُّ قائمًا في الغالب إذا نجح الكاتبُ في التعبير عن الفكرة بأسلوبٍ واضح ٍ ومُتسلسِلٍ منطقيًّا. وفي الحقيقة فقد حالف الباحث التوفيقُ في هذا الميدان.
4. كأيِّ دراسة لها بعداً استشرافياً، لا يُمكن الجزم بتحقق أي توقع ورد في هذه الأطروحة كما هو، فالمتغيرات كثر، لذا رافقت كلمة "ربما" معظم صفحات الدراسة ونتائجها.