الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

إشكالية الأديب والمحلل السياسي

نشر بتاريخ: 10/02/2019 ( آخر تحديث: 10/02/2019 الساعة: 14:00 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

أنا من ضمن فريق لا أدري كم يبلغ عدده على مستوى العالم العربي، من الذين يحاولون التوفيق في الجمع بين الأديب والمحلل السياسي، فيجدون أنفسهم يتحركون بصعوبة وحذر بين حدي إشكاليه، ليست طارئة أو حديثة زمنياً، وقد قيل وكتب الكثير عن معضلة أن يجمع إنسان واحد بين الأدب والعمل في الصحافة المكتوبة، وأقصد قبل بروز ميادين أوسع في الإعلام. واعتبر نقاد ومحللون أن اللغة الصحفية بما فيها من مباشرة وخشونة، تفقد الأديب بعد سنين لغته الإبداعية العالية، إذ من المتوقع أن تتسلل إلى نصوصه لغة الصحافة، الأمر الذي يهبط بالإبداع من حيث اللغة وعلوها وجماليتها.
مقابل هؤلاء رأى آخرون أن العمل الصحفي يوسع أفاق الأديب ويزوده بالمواضيع والقصص والمعلومات، ويجعله أقرب إلى الناس، كونه لا يكتب وهو معلق في السماء بمعزل عن ملامسة واقع الناس والاصطدام بتحديات الحياة. وأصحاب هذا الرأي على قناعة بأن عمل الأديب في الصحافة يشكل إضافة نوعية لتجربته لاسيما إذا تكامل الجانبان الأديب والصحفي وتفاعلا جدلياً في داخله، لأن محصلة هذا التفاعل ستفضي إلى ما يفيد الصحافة والأدب على حد سواء.
لكن الإشكالية أخذت أبعاداً اكثر تعقيداً مع تطور التقنيات الإعلامية ودخول الفضائيات على الخط في ثورة معلوماتية لا حدود لانفتاح أفقها، فنشرات الأخبار والبرامج الإخبارية والتحليلية تحتاج إلى محللين يتمتعون بقدرة عالية على القراءة والاستشراف ويكونون دائماً على جهوزية للتعامل السريع والفوري مع أي مستجد، ولأن الأدباء والمبدعين من الأسماء المعروفة والحاضرة في الأذهان، وأن لهم رؤى سياسية ومواقف في مجمل مناحي الحياة على اختلاف تشعباتها وميادينها، سياسياً وفكرياً و اقتصادياً و ثقافياً واجتماعياً... فغالباً ما يتم للجوء إليهم لمحاورتهم بغية استخلاص ما يمكن استخلاصه منهم على مستوى التشخيص والتحليل والتوقع.
والحقيقة وبعد أن عانيت سنوات خلال عملي الصحفي، من هذه الإشكالية، وبذلت جهداً كبيراً في كيفية استثمار الجانبين دون تمكين جانب من الاستحواذ على الآخر، أو السيطرة عليه أسلوباً ولغة، لتتداخل الامور في بدايات التجربة الصحفية، ثم ليتضح المساران بعد سنوات، حينما صار للمسار الأدبي أدواته وللمسار الصحفي مفرداته وتقنياته المختلفة، بيد أن هذا تطلب قراءات وسلسلة من الإسهامات الكتابية في الجانبين.
ولم يتوقف الامتحان هنا، بل تعقد عندما أصبح لي عدد من الكتب والبحوث المنشورة، ودخولي ساحة التحليل السياسي عبر المقالة والمشاركات الإذاعية والتلفزية، حيث اعترف أنني أفضل منذ سنوات الأدب والثقافة والعمل البحثي المنهجي، إلا أنني لم استطع إغلاق باب التحليل السياسي لسببين أولاً لأنه من الطبيعي أن أتابع واقرأ كمواطن فلسطيني ما يدور حولي وما يتعلق بقضيتي ومجمل ارتباطاتها وتداخلاتها العربية والكونية. وثانياً لأن إعلاميين في محطات فضائية أو إذاعية لا يعطونك الفرصة في كثير من الأحيان لكي تختار أو لتعبر عمّا تفضل، فالحدث السياسي يفرض نفسه على المحطة الإذاعية أو التلفزية أو الصحيفة ووكالة الأنباء الالكترونية، وبالتالي فإن الإعلامي المكلف يبدأ في استعراض الأسماء التي هي مرشحة للحديث في هذا الشأن، فأخطر كمحلل بين الفترة والأخرى على بال هذا الإعلامي أو ذاك، وعندما أحاول الاعتذار أجد نفسي و كأني متهم بالتهرب أمام إعلامي زميل ، على اعتبار أنه يدرك مسبقاً، أن لي قدرة على تقديم ما يفيد في هذا المجال.
وهنا وخلال كتابتي لمقالتي أجد أن قلمي يتنقل بين عام الظاهرة وخاصها وأعني بالخاص ما يتعلق بتجربتي الشخصية، التي استنتج منها أن افراط الأديب أو المثقف في الخوض اليومي في التحليل السياسي، قد يلبسه لباساً سياسياً تحليلياً ويضيع تدريجياً هويته الإبداعية والثقافية، مقابل ذلك فإن إدارة ظهر الأديب القادر على التحليل والمتمكن من أدواته لأية مشاركات في هذا الميدان، يحرمه من التعبير عن رأيه وإفادة الآخرين بتحليله ورؤياه.
واعترف أيضا كخلاصة، أن كتابة موضوع ثقافي أو أدبي يكلف من حيث الوقت والجهد أضعاف ما يكلفه موضوع سياسي، فتناول القضايا السياسية أسهل من الثقافية، من منطلق أن السياسي يرتبط في معظمه بالحدث اليومي، وأن المفردات السياسية بسيطة وحاضره، فيما المواضيع الثقافية التحليلية وإن كانت تتناول قضية أو ظاهرة بعينها، فإنها لا تنفصل في عمقها ومداها عن استراتيجية الأديب والمثقف المرتبطة بفهمه العام الذي لا يمكن سلخه عن حلمه .والسياسيون يتحدثون باستمرار عن التكتيكي المرحلي والاستراتيجي البعيد المدى، وكذلك الأمر بالنسبة لمعظم المحللين السياسيين، فالانشداد للحظة لديهم قد يضيع البوصلة، ويجعل كل التركيز على الحدث، ليبرز الإغراق في اليومي على حساب النظرة الأبعد، فيصبح المرحلي أو التكتيكي وكأنه الاستراتيجي، في حين أن للمبدع استراتيجيتة ذات العلاقة المباشرة بحلمه، وهنا تكمن الإشكالية الكبرى للذي يجمع في تجربته بين الأدب والإبداع والتحليل السياسي، بين ذلك المرتبط بالحلم البعيد المدى، والآخر المرتبط بالتكتيكي اليومي المباشر الصارخ، لكنه المحدود في مداه الزمني وأفقه. كيف يتم التوفيق وكيف يكون التناغم ومتى يجري الفصل؟ أسئلة مطروحة يومياً في ذهن الأديب المبدع والمحلل السياسي حينما يكون قدرة الجمع بين متناقضين أو الجمع بين متكاملين، فهما متناقضان ومتكاملان حقاً.