الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

الخطأ والإهمال الطبي ولجان التحقيق الوهمية

نشر بتاريخ: 18/07/2019 ( آخر تحديث: 18/07/2019 الساعة: 14:49 )

الكاتب: د. وليد القططي

قال الإمام محمد إدريس الشافعي- ثالث الأئمة الأربعة- صاحب المذهب الشافعي عن مهنة الطب "إنما العلمُ علمان: علم الدين وعلم الدنيا، فالعلم الذي للدين هو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب... ولا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب" فرحمَ اللهُ الإمامَ الشافعي بما ألهمهُ اللهُ تعالى من حكمة عرف بها مكانة مهنة الطب وأهمية دور الطبيب؛ هذه المكانة وهذا الدور لا يتسق مع وضع الطب وحال الأطباء وكل العاملين في مجال الصحة بقطاع غزة، فأوضاعهم مُزرية، وأحوالهم بائسة، وحياتهم متعسّرة، فرواتبهم مقطوعة ومتدنية للغاية مقارنة بإخوانهم في دولة الضفة الغربية، والإمكانيات المُتاحة لهم متواضعة ومحدودة ومتآكلة، ويمارسون عملهم في بيئة صحية كئيبة أفرزها الاحتلال والحصار والانقسام والعقوبات والمناكفات.
رغم ذلك فالأطباء والطواقم المساعدة لهم يمارسون عملهم النبيل تحت الضغط بعزيمة جبارة، وجدارة استثنائية، مدفوعين بالشعور بالواجب الإنساني والوطني والمهني والأخلاقي تجاه شعبهم وأهلهم، لا سيما في أوقات الحروب والأزمات وتحت القصف والنار، وقد حققوا إنجازات طبية تتجاوز الحصار وغياب الرواتب أو تدنيها. وسط ظروف عمل شاقة، وجهود استثنائية للعناية بالمرضى، كما اثبتوا نجاحهم في إجراء عمليات دقيقة ومُعقّدة في مستشفيات القطاع، رغم محدودية الإمكانيات والميزانيات التشغيلية ونقص الدواء. وهذا كله لا يعني ولا يُبرر تجاهل الخلل الموجود في المنظومة الصحة بقطاع غزة، هذا الخلل يظهر في أحد أهم وجوهه مُمثلاً بالأخطاء الطبية المتكررة الناتجة عن الإهمال والتقصير والتهاون والتكاسل، أو عدم إتباع الإجراءات الطبية بشكل غير مسؤول بالفعل أو الترك.
الأخطاء الطبية الناتجة عن الإهمال والتقصير وغيرها سببت أضراراً خطيرة للمرضى وصل بعضها للإعاقة الدائمة وبعضها الآخر للموت، وآخرها- حتى كتابة هذا المقال- قصة الفتاة الفقيدة إسراء عمار ذات الواحد والعشرون ربيعاً، التي توفيت في أحد المستشفيات الحكومية بالقطاع بعد ثلاثة أيام من زفافها لعريسها، والتي استناداً إلى رواية أهلها تعرّضت لسلسة أخطاء طبية وإهمال طبي رافقها منذ دخولها للمستشفى صباح الجمعة وحتى وفاتها في ساعة متأخرة من الليل، وتفاصيل ذلك من تأخير في الفحص وتقديم العلاج وإدخالها العناية المُركزة وتقديم جُرعة زائدة من العلاج، ليست هي المهمة في هذا المقام... فقد يكون ذنب إسراء أنها بنت ناس عاديين (مش مهمين) لم يستطيعوا إحضار واسطة معهم إلى المستشفى، وعندما تمكنوا من إحضارها كان الوقتُ متأخراً، وقد يكون ذنبها أنها مرضت يوم الجمعة ومعظم الأطباء في إجازة، والمنابون منهم (مزوغين ومفلسعين) أو (مريحين ونايمين)، أو (بيشتغلوا على قد الراتب).
الموضوع لم يقف عن هذا الحد من الإهمال الطبي، فتعامل وزارة الصحة الفلسطينية مع مثل هذه الحالات غير المهني وغير الإنساني هو الأهم والأخطر في هذا المجال، فبعد تسرّب قصة الفقيدة الشابة العروس إسراء عمار إلى الإعلام اضطرت الوزارة إلى إصدار بيان صحفي هو في حد ذاته أسوأ من الخطأ والإهمال الطبي الذي حدث- حسب رواية الأهل- فالبيان اتخذ طابعاً تبريرياً دفاعياً، وكأنه أراد أن يقول بأن الفتاة تستحق الموت لأنها مريضة مُسبقاً، مع أن والدها أكد أن أعراض المرض لم تحدث لها منذ ثلاث سنوات، كما أن إجراءات علاجها لو عاد لها المرض معروفة وسهلة. والبيان يُعلن بأن "الوزارة قامت بتشكيل لجنة للتحقق من سلامة الإجراءات الصحية التي تمت"، بعد أن وضح البيان نتيجة التحقيق مسبقاً بتبرئة المستشفى من أي مسؤولية ناتجة عن خطأ أو إهمال طبي، وأصبحت لجنة التحقيق التي أعلن البيان تشكيلها لا قيمة لها، فالنتيجة معروفة مسبقاً، واللجنة أخذت توجيهاً مسبقاً من الوزارة التي شكلتها بمسار التحقيق ونتيجته.
وإصلاح منهجية التعامل مع لجان التحقيق في المؤسسة الصحية الفلسطينية وكل المؤسسات الحكومية والأهلية مُقدمة لإصلاح المنظومة الصحية وغيرها من المنظومات في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. وهذا ينطبق على لجنة التحقيق المُشكّلة "للتحقق من سلامة الإجراءات التي تمت" بعد وفاة الفقيدة إسراء، فتشكيل اللجنة لم يتم بناء على رغبة حقيقية لإصلاح الخلل في المنظومة الصحية لتفادي تكرار مثل هذه الحوادث؛ بل تم تشكيلها استجابة لضغط الأهل والإعلام والرأي العام، ويتم تشكيلها بعد إصدار بيان صحفي من الوزارة يُبرر الخطأ، ويُدافع عن المهملين، ويحوّل التقصير إلى إنجاز، فتكون مهمة لجنة التحقيق هي تأكيد صحة بيان الوزارة فقط، إن لم يكن هدفها تمويت الموضوع وتبرير القضية. عملاً بالقول المعروف عند أنظمة الحكم البيروقراطية المتخلفة (إذا أردت لقضية أن تموت فشكّل لها لجنة).
وإذا تركنا اللجان في بلدان العربان إلى اللجان في بلاد الألمان والأمريكان، ومن شابههم وسار على درب التقدم والتطور من بلاد الهند والسند، نجد أن للجان التحقيق مهام ووظائف أسمى وأرقى، بعيداً عن تمويت المواضيع وتبريد القضايا، لعل أهمها وفي مقدمتها وضع اليد على مكمن الخلل وأساس الخطل، ليس لتغطيته وتخبئته، بل لكشفه وإصلاحه، ومعرفة نقاط الضعف لعلاجها، ونقاط القوة لتعزيزها، واستخلاص العبر والدروس، ومكافئة المنجزين ومعاقبة المقصرين... وصولاً إلى إصلاح المنظومة بأكملها كي لا يتكرر الخطأ ولا يتراكم الخلل، وبدون ذلك ستظل لجان التحقيق عندنا وهمية خادعة لا تسمن ولا تغني من جوع.