الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف
خبر عاجل
جيش الاحتلال يعتقل جهاد نواجعة رئيس مجلس قروي سوسيا بالخليل

عن "الثورة" في لبنان: هل العنف الثوري مطلوب؟

نشر بتاريخ: 18/10/2019 ( آخر تحديث: 18/10/2019 الساعة: 21:16 )

الكاتب: زاهر أبو حمدة

يرى المفكر جون لوك، أن الطغيان السياسي يبدأ عندما تنتهي سلطة القانون، وبمعنى آخر عندما ينحل العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم. وفي لبنان، لا يوجد سلطة قانون عادل. وبالتالي لم يعد العقد الاجتماعي وفقا لاتفاق الطائف قائما، واضحى الدستور مخترقا.. وبالتالي لا بد من اندلاع "الثورة"، لكن ماذا عن شكلها؟
كلمة ثورة تعني الثأر من الظالم، وهذا الثأر لا يكون حنوناً إنما عنفياً بطرق متعددة. وفي لبنان لا بد من العنف المحدود لا سيما ضد المصارف الحاكمة. ويعرف المتظاهرون أن عدوهم الاساسي هي السياسة الاقتصادية المتحكمة بها مصرفيون وسياسيون بعد تزاوج رجال السياسية ورجال الاعمال. ولأن الطائفية ركيزة لبنان، يكون العنف الثوري ضرورة للضغط على زعماء الطوائف.
فعندما يصل الطغيان إلى حده الأقصى تتراجع قيمة الحياة لدى الأفراد المقهورين نتيجة ما أصاب ذاتهم من تبخيس في عهود الظلم، فيتحرك الأفراد متّحدين في مجموعات ومتسلحين بالعنف، للانتقام من كل رموز السلطة، ويطلقون العنان للحقد والكراهية الكامنة في ذواتهم الثائرة، وفي هذه الحالة يتماهى الجمهور المقهور "بعنف جلاده" كوسيلةٍ أخيرة للقضاء عليه. وفي الجمهور يكتسب الفرد شعوراً جارفاً بالقوة والثقة بالنفس الجمعية، بفعل العدد الكبير لأفراد جمهوره، وبفعل رغبة الجميع في التضحية وتدمير السلطة الجائرة إيماناً منهم بعدالة قضيتهم. فتتحرر الجموع من عقدة الخوف، وتواجه عدوها بكل عنف ممكن لتقويض دعائم سلطته الجائرة. وكتب زعيم الثورة الصينية ماوتسي تونغ: "لا يمكن أن تكون الثورة حفل عشاء، أو كتابة مقال، أو رسم لوحة، أو تطريز قطعة. لا يمكن أن تكون بهذه الرقة واللطف، لا يمكن أن تكون رحيمة ودمثة ومهذبة، الثورة انتفاضة، عمل عنيف تستطيع بموجبه طبقة أن تطيح بطبقة أخرى". وعليه، الثورة هي الاطاحة بكل رموز السلطة من دون أدنى شفقة، حيث لا توجد "ثورة بيضاء" أو "ثورة ياسمين" كما أطلق بعضهم على الثورة التونسية، أو "ثورة سلمية" كما يطلق بعض المفكرين على الثورة المصرية، فكلها مصطلحات مغلوطة ورِدّة عن الحتمية الثورية القاضية بالعنف الإقصائي الهادف إلى "تطهير" الوطن من كل أعدائه.
ويتحرك الجمهور وفق نمط جمعي لا شعوري يفقد فيه الأفراد ذاتيتهم ويذوبوا في الذات الجمعية، فيكتسب الجمهور شخصية جديدة تختلف عن شخصية أفراده المكونين له، وتظهر أشكال من التضامن لم تكن بادية قبل اتحاد الأفراد في جمهور، ويكون دافعهم الأهم هو تحقيق المصلحة الثورية الجمعية، ويطرحوا جانباً كل المصالح الذاتية الضيقة، ويكتسبوا فكراً تنظيمياً تصقله الممارسة. ويصف عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، الجمهور الثوري بأنه اندفاعي، وعاطفي، ومتفانٍ، وسريع التأثر، وسهل الانقياد، وجامح الرغبات، ووحشي، ومتجرد، ومثابر، وغير متسامح.
ويشير عالم النفس سيغموند فرويد، إلى أن انتشار عدوى الثورة سببه التأثير المتبادل الذي يمارسه أعضاء الجمهور على بعضهم البعض، إلى جانب ظاهرة الإيحاء "الحالة النوامية"، أو ما أطلق عليه: "الانقياد الحبي الشامل" للقادة في الميدان، حيث تنتاب أفراد الجمهور حالة من الإيثار والتجرد يفقد فيها الفرد جزءاً من شخصيته الواعية ويخضع لإيحاءات القائد. فحاجة الفرد إلى التوافق مع مجتمعه - كما يرى فرويد - تدفعه إلى طاعة القائد حباً في الآخرين الذين يشكلون جيشه الجمهوري، آنياً، ومجتمعه المدني، بعد انتصار الثورة. ويعتنق الجمهور رؤى ثورية تقدمية، كما يميل إلى اعتبار كل من يعارض رؤاه بمثابة عدوه، فالوقائع في فكره لا تخرج عن أحد أمرين: صواب أو خطأ.
وبعد خروج الشعب ضد السلطة المستبدة، غير عابئين بوعودها الكاذبة، يشتري الزعيم ذمم عدد من المرتزقة ويوكل إليهم مهمة التنكيل بالجماهير، تعويضاً عن مركب النقص الذي يعانيه، ولإقناع ذاته بأن الوضاعة والهوان هي صفات لصيقة بكل أفراد المجتمع، وليس بذاته المنتهكة فحسب. وفي خضم الأحداث، يجترح الحاكم المستبد كل الشرور بلا أدنى إحساس بالإثم، حيث يتأصل في كينونته المشوهة أنه يدافع عن نفسه، وأنه مؤتمن على شعبه، وأن رحيله أو تركه السلطة خسارة كبيرة لوطنه وللتاريخ، وأن الثورة هي ثمرة آثمة زرعتها أياد أجنبية خبيثة، واعتداء على ذاته المتألهة. وتحاول الأجهزة الامنية إضعاف الحركة الفكرية الثورية ووقف تسربها إلى أفراد المجتمع، فتعمل على تعريضها إلى التهديد المتواصل بالقمع وتسخير البلطجية المأجورين، مما ينهك الثوار وينقلهم من موقف الهجوم إلى الدفاع الدائم عن النفس. كما تدس الأجهزة الأمنية بينهم من يدعو إلى التغير السلمي، أو من يحاول حرف الثورة عن أهدافها، أو من يَنهى الجماهير عن الهجوم على رموز الحكم ومؤسسات النظام بتصويرها مؤسسات وطنية مملوكة للدولة.
ويراهن النظام على استراتيجية إطالة أمد الاضطرابات وممارسة الحيل، حتى يقلل من تعاظم الشحنة الوجدانية لدى أفراد الجمهور ويُخفّف من حدة هياجهم، فتتمزق الروابط الوجدانية التي تجمعهم تحت حث (عدوى) الشعور الثوري، ويحل مكانها الخوف الجمعي من مصدر التهديد، ويفقد الجمهور سر قوته. كما يحرك النظام أعوانه لمفاوضة قادة الثوار ويقدم بعض التنازلات لزعزعة شرعية الخروج على النظام في وجدانهم، ولزرع الشقاق بينهم. وكذلك يتدخل النظام لإشاعة البلبلة وسط الجماهير المعتصمة، فيطلق يد "البلطجية" ويخلق حالة من الفوضى، ليوفر ذريعة للجيش لإخلاء الجميع من الشوارع، وما إن تخلو الشوارع من المحتجين حتى يضعف نفوذ قادة المعارضة، ويسهل ملاحقتهم واحتواء التمرد الشعبي. وقد حذر قائد الثورة الإسلامية في إيران الإمام الخميني من إضاعة الوقت والتقاعس في الانقضاض الكامل على النظام فقال: "على الشعب ألا يتقاعس، كي لا تتمكن قوة السلطة المتلاشية من لمّ شملها وفرض سيطرتها من جديد".
وفي المحصلة فالثورة لا تنتصر من دون اكتمال أركان التغيير الثوري وهي: إبدال القيم، وإبدال البناء الاجتماعي، وإبدال المؤسسات، والتغير في تكوين القيادة الشخصية والطبقية، وانتقال السلطة، وممارسة العنف لدحر النظام.

والثورة هي نهاية أحد طرفي النزاع المسلح، الثوار أو النظام. ويشكل الجمهور الثوري مارداً مؤقتاً لا يلبث أن يتلاشى بمجرد قضائه على السلطة الجائرة. وبوصول الثوار إلى سدة الحكم لا يمكن تقليص حجم دائرة العنف والقهر المكتسب من تجربتهم الثورية إلا بانتزاع مسوغات العنف؛ وتتحقق هذه الغاية عبر التمسك بالثوابت القومية وإحلال الوفاق الاجتماعي والاحتكام إلى سلطة القانون؛ ليعود أفراد الجمهور إلى حياتهم الطبيعية، وفي ذاكرتهم عبق الأحداث الجماهيرية التاريخية.

مصادر:
- عادل عزام سقف الحيط، العنف الثوري ومنهج التغيير
- عمار علي حسن، التغيير الآمن: مسارات المقاومة السلمية من التذمر إلى الثورة
- ‏المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة