الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

حركة الجهاد الإسلامي بين المنصة والثورة الإيرانية

نشر بتاريخ: 06/11/2019 ( آخر تحديث: 06/11/2019 الساعة: 15:39 )

الكاتب: سري سمور

(9)
في صيف عام 1800م قام شاب أزهري عشريني قادم من عفرين-حلب إلى القاهرة اسمه(سليمان الحلبي) بالترصد لقائد قوات الغزو الفرنسي(سراي عسكر الفرنسي) الجنرال(جان كليبر) وتظاهر بأنه متسول، ثم انقض الحلبي على العلج وطعنه طعنة قاتلة في صدره، وكي يتأكد من إرساله إلى المكان الذي يستحقه أتبعها بثلاث طعنات أُخَر.
الحلبي ابتاع الخنجر الذي نفذ فيه مهمته التي تمت بتنسيق ومباركة ضباط الانكشارية العثمانيين، من (سوق فراس) في غزة، وكان من ضمن زملائه الذين قتلوا أمام ناظريه قبل أن يقتله علوج الفرنجة بطريقة سادية بشعة، بضعة أزهريين من غزة أيضا!
وبالتأكيد لم يخطر في بال الحلبي الذي صار رمزا للبطولة والتضحية والفداء والجهاد ضد الغزاة، أنه وبعد 181 سنة سيقوم عشريني آخر، وهو هذه المرة صعيدي من أصول تركية، وليس أزهريا بل ضابط برتبة ملازم أول، بتنفيذ عملية اغتيال أخرى وفي مكان آخر من القاهرة، وببندقية لا بخنجر، وسيكون الهدف حاكما عربيا مسلما، وليس ضابطا أجنبيا، وفي ظرف دولي وإقليمي ومصري مختلف تماما، ولأسباب مغايرة كليا، ولن يكون هناك لا انكشارية ولا سلطنة عثمانية، وفي زمان لم يعد فيه للمسلمين عموما وللعرب خصوصا كيان معتبر جامع، وتتقاسمهم الدولة القُطرية، وقد اقتسمت بلادهم الدول الغربية، ورسمت حدودا بينها، وسيطرت على ثرواتها، وأصبح الغربيون أولي الأمر والنهي في الإقطاعيات(الدول) الجديدة...والأنكى والأدهى والأمر في وقت صار فيه حلم/دعوة نابليون سيد كليبر بعودة اليهود إلى فلسطين أمر واقعا تحقق فعليا، وصارت لهم دولة تعربد وتضرب يمنة ويسرة وتحتل ثالث مقدساتهم، ويقوم حاكم مصر وهو هذه المرة ليس ألبانيا ولا تركيا ولا مملوكيا/شركسيا بل مصري منوفي، بتوقيع معاهدة سلام معها، وهو سبب من ثلاثة أسباب قدمها (خالد الإسلامبولي) كمبرر لتنفيذ عملية الاغتيال، هذا بغض النظر عما أشرت إليه سابقا من وجود شبهات وتشكيك، ووجود مؤامرة وراء كل ما يتعلق بهذه الحادثة(حادثة المنصة)...لدرجة أن (رقية السادات) في حوار مع وائل الإبراشي نفت أن يكون حكم الإعدام قد نفذ في الإسلامبولي وأنها رأته خارج مصر...بعيدا عن كل هذا اللغط أو (الآكشن)، ولنبق في أثر الحدث المرتبط بموضوعنا...حركة الجهاد الإسلامي.
(10)
ويكأن قدر غزة المكتوب هو (الاقتحام العنيف) للتاريخ وضرب ولخبطة المعادلات الجيوسياسية والمشاركة في صناعة الحدث أو التأثير فيه، فمن خنجر الحلبي وزملائه الغزيين بل عبوره من غزة في قافلة تجارية إلى مصر، إلى ما هو موضوع حديثنا، وما سيأتي بعده، إلى أحداث مفصلية أخرى حتى هذه الساعة...لم تتغير غزة كصانعة أحداث تاريخية أو مساهمة مركزية في تلك الصناعة!
سيدخل غزة طبيب ثلاثيني كان قد غادرها منذ سنوات، فيعود إليها هاربا من أمر باعتقاله بعيد حادثة المنصة، والتي كما قلت ألهبت عواطفه، وساهمت في بلورة فكره وخطابه...يدخل غزة حاملا ومبشرا بفكر جديد وخطاب مختلف، مكملا مرحلة تأسيس الحركة الجديدة؛ التي رأى أنها ضرورة لأن الإسلاميين في فلسطين قد أهملوا قضية فلسطين، أو في أفضل التقديرات لم يعطوها الاهتمام الكافي وأجلوا الاستجابة إلى إلحاح القضية بكل ثقله إلى حين قيام دولة إسلامية تتولى مهمة تحرير فلسطين وإنقاذ بيت المقدس...وأن الوطنيين ويقصد بهم فصائل م.ت.ف حيّدوا بقصد أو بغير قصد البعد الإسلامي للقضية ولم يعطوه مكانته التي يستحقها وهي مكانة مركزية مطلقة، من الخطأ تجاهلها أو إهمالها أو الحياد في التعاطي معها.
وأكاد أزعم أن وقع وتأثير وتداعيات حادثة المنصة في بعض عواصم العرب والمسلمين كان أشد وطأة وتأثيرا منه في مصر ذاتها؛ ففي مصر فرضت حالة الطوارئ التي استمرت طيلة حكم حسني مبارك الذي خلف السادات في منصب رئيس الجمهورية، وباستثناء الهجوم على مديرية الأمن في أسيوط البعيدة عن العاصمة، لم تسجل حوادث تذكر، وسارت الحياة طبيعيا، لا سيما بعد تفكيك التنظيم ومحاكمة المنفذين، وإخلاء سبيل المعتقلين الذين زج بهم السادات في السجون عشية اغتياله.
وإذا قلت بأن هناك من عرف الجهاد الإسلامي من خلال أخبار (خالد الإسلامبولي) أو العكس فإنه قول لا مبالغة فيه، ومن هو من مواليد مطلع ثمانينيات القرن العشرين وما قبلها يعرف هذه الحقيقة جيدا ولا تخفى عليه ويتذكر بعض -أو كافة- تفصيلاتها.
فقد وصفه الشقاقي بأنه(الواجب الذي تحرر من أسر الإمكان)...أما في طهران فإن شارعا سيحمل اسم خالد الإسلامبولي ناهيك عن طوابع بريدية ستحمل اسمه وصورته، ومظاهرات تهتف باسمه، وتتغنى بفعله، وكان السادات قد استقبل محمد رضا بهلوي بعد أن أغلقت في وجهه أبواب عواصم العالم، وحينما مات أمر السادات إماما شيعيا عراقيا بالصلاة على جنازته وشيّد له ضريحا!
وهذا جعل مسألة المذهب تتصاغر وقتيا، وقد صرح الأمين العام الثاني لحركة الجهاد الإسلامي د.رمضان شلح-شافاه الله وعافاه- بأن الشاه كان شيعيا وكان السادات سنيا، وكان الخميني شيعيا والإسلامبولي كان سنيا، ولكن كل ذهب إلى من ينسجم مع نهجه وسياسته، دون اعتبار لمسألة المذهب.
وكانت الساحة العربية ومنها الفلسطينية، قد غلب عليها الاحتفاء برموز مقاومة ورجال ثوريين من غير العرب والمسلمين مثل(تشي جيفار) و(الجنرال جياب) و(هوتشي منه) و(فرانتز فانون) وتكنّى العديد بأسمائهم وصارت صورهم مرسومة أو منقوشة في غير مكان، وذلك على حساب رموز مقاومة وثورة من العرب والمسلمين، نظرا لعوامل عدة، منها أنه منذ الشيخ عز الدين القسام الذي استشهد في مثل هذا الشهر عام 1935 لم يبرز أي وجه إسلامي ثوري صاحب مدرسة أو له منهج مقاومة معروف.
ولكن في هذه اللحظة التاريخية وحيث أن رائحة البارود في المنصة ما زالت في أنوف الناس، فإن الطبيب الثائر (فتحي الشقاقي) حامل مشعل حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين حضر ليقدم للجمهور خطابا يربط بين سيرة وفعل الإسلامبولي مستحضرا سير عمر المختار وعبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي وعز الدين القسام يضيف لهم أمثال سليمان الحلبي ويربط بين كل هؤلاء وبين الزنكيين والأيوبيين مع قادة ورموز المسلمين الأوائل، مع منهج الخميني، بخطاب مشبع بأيديولوجيا ثقيلة تستدعي البساطة في قراءة الماضي والحاضر، وأن الطريق واضح والنماذج أمام الناس، منها من رحل ومنها من رأيتم بأعينكم!
فلسنوات طويلة ظل خالد الإسلامبولي رمزا يحتفي به قادة ونشطاء حركة الجهاد الإسلامي وعلى رأسهم الشقاقي، كما أشرت في المقال السابق، مستخدمين كافة الأدوات المتاحة من مطبوعات(كمجلة الطليعة الإسلامية) وأناشيد وخواطر وأشعار، وظل هذا الرمز مادة استقطابية خصبة عند الحركة، وإذا كانت الحركة في السنوات الأخيرة، قد تخففت من هذا الإرث، وابتعدت عن التفاخر والاحتفاء بالإسلامبولي، لأسباب مفهومة في ظل مناخ العلاقات الإقليمية والحسابات الفلسطينية، ولكن هذا لا يمكن إغفاله أو تناسيه عند أي دراسة وازنة تتعلق بالحركة وأسلوبها الخطابي والتعبوي.
بل لم يقتصر التغني بخالد الإسلامبولي على جزء من التيار الإسلامي؛ فقد تعداه إلى من هم على غير وفاق معه، أو لا علاقة لهم به من أي ناحية؛ مثل الشاعر الشعبي الراحل(أحمد فؤاد نجم) الذي رثى الإسلامبولي ورفاقه المنفذين بقصيدة بالمصرية المحكية الدارجة، وقال فيها:-
أصل الحكاية ولد
فارس ولا زيه
خد من بلال ندهته
ومن النبي ضيه
....
والناس يا خالد
هنا عمك
هنا خالك
يا غنوة من قهرنا
اسمك وموالك
ولهذا لا نستغرب أن ثمة مواليد ذكور حملوا اسم(إسلامبولي) بل لربما حمل بعض المواليد الاسم مركبا، وبعض آخر في ظل تلك الأجواء حملوا اسم(خميني) علما بأن(الخميني) اسم نسبة إلى بلدة (خمين) مسقط رأس الرجل الذي اسمه الأول (موسوي) ولكن الناس لم تكن لديهم أدوات البحث عن هذه الحقيقة أو المعلومة التي تبدو لنا بسيطة وسهلة، كما أن طاقتهم في ظل المناخ الصاخب ما كانت ستدفعهم إلى أي نوع من الاستقصاء حول هذا الذي قد يعتبرونه مسألة جزئية لا قيمة تذكر لها.
وبهذا الخطاب الصاخب والدعوة إلى نهج ثوري جديد جاء الشقاقي مع رفاقه إلى غزة(ولاحقا إلى القدس) يبشرون ويستقطبون الشباب الذي كان ربما جزء منه يتعطش إلى شيء يكسر الجمود، وكان للأمر وقع صادم في مختلف الأوساط.
ولقد اعتبروا الثورة الإيرانية والخميني أنموذجا يجب اتباعه وتقليده والسير على نهجه، خاصة بعد أن سارع الخميني إلى إعلان (يوم القدس) الذي يصادف يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان سنويا، وألقى الخميني خطابات وأطلق تصريحات تقول صراحة بأن إسرائيل يجب أن تزال من الخريطة، وهاجم ثوار إيرانيون سفارة إسرائيل في طهران وتم إهداؤها لتكون سفارة فلسطين حتى الآن.
وفي المقال القادم بمشيئة الله سأناقش موضوع إيران وقضية فلسطين وموقف الجهاد الإسلامي منها، مع التأكيد سلفا أن موضوع إيران أثر على الجهاد الإسلامي كمانع قوي من كسر الثنائية القطبية في فلسطين، مع أن الجهاد قد تأسس وبدأ العمل قبل حماس ببضع سنين.