الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

إسرائيل وسياسة "الترانسفير

نشر بتاريخ: 10/11/2019 ( آخر تحديث: 10/11/2019 الساعة: 11:53 )

الكاتب: د.محمد جبريني

سیجد المتتبع للأدبیات الصهیونیة والإسرائيلیة، عدد كبير من التصریحات المباشرة وغیر المباشرة لسياسيين وقادة عسكريين ورجال دين وأكاديميين إسرائیلیين، تضمنت الدعوة إلى ترسیخ أغلبیة یهودیة في فلسطین عبر وسائل شتى، على اعتبار أن هناك علاقة وطیدة بین حجم السكان الیهود في فلسطین وبین صحة إدعاءاتهم فیها، ما جعل التفوق العددي والنوعي للیهود في فلسطین مسألة استراتیجیة حظيت بإهتمام المسؤولین ومراكز صنع القرار في إسرائیل.
سعت إسرائيل إلى تحقیق هذا الهدف المعلن، واستخدمت وسائل وأسالیب وإجراءات مباشرة وغیر مباشرة: منها تهجیر الفلسطينيين وإبعادهم القسري المباشر، واختلاق ظروف سیاسیة واقتصادیة واجتماعیة وأمنیة وسن تشريعات عنصرية تُصَعِب حياتهم وتدفعهم للهجرة لتحسين أوضاعهم، وغالباً ما یتحول هذا النوع من الهجرة إلى هجرة دائمة، بسبب عدم زوال أسبابها.
الترانسفير سياسة قديمة جديدة:
تبنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ تأسيس إسرائيل وحتى الوقت الحاضر سياسة "الترانسفير"، فقبل أن يمضي أسبوعان على حرب حزيران عام 1967، عقدت الحكومة الإسرائيلية جلسة خاصة لبحث ما يتوجب عليها فعله لمواجهة مشكلة "الخطر الديمغرافي" الفلسطيني الناجمة عن احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد أشارت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، في مقالة نشرتها في نهاية سبتمبر 1988 إلى أن "مناحيم بيغين"، الوزير بلا وزارة في حكومة "الوحدة الوطنية" آنذاك، دعا إلى تصفية المخيمات الفلسطينية في الضفة ونقل سكانها إلى سيناء، بينما طالب "بنحاس سبير" (وزير المالية آنذاك) بنقل اللاجئين الفلسطينيين إلى إحدى الدول العربية المجاورة. ولأن نقاش الحكومة الإسرائيلية لم يسفر وقتها عن أي قرار محدد بهذا الخصوص، تركز الإهتمام باتجاه تأييد اقتراح نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية "يغئال آلون" القاضي بنقل اللاجئين الفلسطينيين إلى سيناء وتوطينهم هناك؛ على أن يجري في الوقت نفسه إقناع سكان الأراضي المحتلة بالهجرة إلى الخارج، وقد تم التنسيق بين مكتب رئيس الحكومة ووزير الدفاع والجيش الإسرائيلي من أجل تشكيل وحدة سرية تعمل في أوساط الفلسطينيين لإقناعهم بمغادرة بيوتهم وتقديم تسهيلات لهم في الأماكن التي سيتوجهون إليها خارج فلسطين والشرق الأوسط.
وقد تطرق "شارون" إلى تلك الخطة خلال محاضرة ألقاها في تشرين الثاني عام 1987، وأوضح "بأن السلطات الإسرائيلية عملت طوال السنوات الماضية على تهجير العرب بمختلف الوسائل، وكانت هناك منظمة خاصة لذلك الغرض".
ومنذ ذلك الوقت، توالت الأفكار والمقترحات والخطط والمشاريع التي صدرت عن جنرالات وأكاديميين وسياسيين ورجال دين تدعو إلى ترحيل الفلسطينيين.
الترانسفير لمواجهة الأخطار:
إن فكرة "الترانسفیر" أو نقل العرب الفلسطینین إلى خارج "أرض إسرائیل" بإرادتهم، لیست فكرة جدیدة ولا تؤیدها فقط جماعات هامشیة في إسرائیل، فقد أظهرت الاستفتاءات العامة واستطلاعات الرأي أن الكثیر من الإسرائیلیين یؤیدون هذه الفكرة ویؤمنون بها، وأرجع "شلومو غازیت" رئیس الإستخبارات العسكریة الأسبق زیادة التأیید والحماس الإسرائيلي لفكرة "الترانسفیر" إلى أمرین مهمین لهما تأثیر في الرأي العام والشخصیات السیاسیة أیضاً: "الأمر الأول هو البروز الواضح لخطر المشكلة الدیمغرافیة العربیة"، بینما "یكمن الثاني في صحوة مواطني الأراضي المحتلة وانتفاضتهم، والقضاء على وهم إمكانیة التعایش تحت ظل الحكم الأجنبي".
وأضاف "غازيت" أن فكرة "الترانسفیر" أضحت قابلة للتنفیذ في ظل العجز الإسرائيلي عن كبح الانتفاضة الأولى، وأزمة السیاسة الإسرائيلیة التي زادتها الانتفاضة حدة، سوغت النقاش السیاسي في شأن مزایا إبعاد الفلسطینیين جماعیاً وبالقوة تخلصاً من معارضتهم المستشریة للحكم الإسرائیلي، وحولت النقاش إلى مسألة كيفیات نقل وحتمیة تاریخیة. وفي هذا السیاق زعم "موشیه آرنس" وزیر الدفاع الأسبق "أن الإبعاد إجراء ناجح ورادع، وأن إسرائیل لجأت إلى استخدامه من أجل مواجهة ظاهرة تزاید التطرف القومي والدیني في المنطقة".
كما دعا الباحث "مردخاي نیسان" في وقت مبكر إلى ترحیل العرب قائلاً: "إن فكرة ترحیل العرب عن أرض إسرائیل لم تسقط من جدول الأعمال القومي في إسرائیل"، وقد علل "نیسان" تأییده "للترانسفیر" لأسباب كثیرة رآها جوهریة وهامة، فزعم أن: "إفراغ البلد من العرب سیزیل مشكلة تهديد الأمن الداخلي، وسیفقد العرب شرعیة المطالبة بأرض إسرائیل، و"ستكون أرض إسرائیل حصریة للشعب الیهودي".
وقد انشغلت الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية فى السنوات الأخيرة بالمسألة الديموغرافية وبفكرة التبادل السكاني، محذرة من نسبة التكاثر الطبيعى لفلسطينيي عام 1948. ومن أبرز ما خلص إليه الباحث "أرنون سوفير": "إن لم تقم إسرائيل بتنفيذ فصل بين اليهود والعرب فى كل البلاد، وبسرعة، فمن الواضح أن أغلبية عربية ستؤدي إلى تقزيم الطبيعة اليهودية فى البلاد".
وجاء في الوثيقة الصادرة عن "مؤتمر هرتسليا"عام 2001 بما يخص التهديد الديمغرافي الفلسطيني وسبل مواجهته؛ أن الشعب الفلسطيني يُضاعف نفسه مرة كل عشرين سنة، حيث تبلغ نسبة زيادته السنوية 4.2% وهي من أعلى الزيادات في العالم. وأن نسبة الولادة في أوساط الفلسطينيين في إسرائيل (4.6) مولود للمرأة. وهذا يكاد يكون ضعف نسبة الولادة عند اليهود (2.6) مولود للمرأة. ينطوي هذا الوضع، حسب توصيف الوثيقة، على مغزى أمني خطير يتعلق بحيوية إسرائيل كدولة يهودية، كما ينطوي على مغزى اقتصادي، فالوسط العربي المتكاثر في إسرائيل له مميزات وخصائص اجتماعية واقتصادية تحوله إلى صخرة تثقل على تطور إسرائيل ورفاهيتها، وذلك لأن نسبة المشاركين في قوة العمل في أوساط الفلسطينيين في إسرائيل منخفضة (النساء والأطفال لا يعملون). وفي المقابل يستهلك السكان الفلسطينيون خدمات عامة (تربية، صحة، تأمينات) بدرجة تفوق بشكل ملموس نسبتهم من مجموع السكان.
في ضوء ذلك أوصت الوثيقة، بإلغاء مخصصات التأمين للعائلات الفلسطينية كثيرة الأولاد، كما أوصت بتوطين سكان يهود في مناطق الكثافة الفلسطينية، وبخاصة في الجليل والنقب، لمنع نشوء تواصل جغرافي لأغلبية عربية في هذه المناطق.
كذلك إقترحت الوثيقة، ترحيل سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي هذا السياق جاء في الوثيقة: "ستكون هناك حاجة لإيجاد مخرج في مكان غير إسرائيل ربما في شرق الأردن، لتوطين السكان الفلسطينيين في الضفة إذا لم يكبحوا من وتيرة تكاثرهم". وطالما يخطط الفكر الصهيوني لتحشيد عشرة ملايين يهودي في فلسطين، وطالما مصادر المياه والأرض محدودة، فخيار "الترانسفير" قائم في جدول الأعمال الصهيوني.
وباعتراف الصحافي الإسرائيلي "مئير شيلح"، فإن وثيقة هرتسيليا للعام 2001: "مذهلة في توصياتها، مذهلة في روحها العامة، وهي تتلاءم مع توجه اليمين المتطرف ورؤيته، لا بل أن اليمين الصهيوني المتطرف، ما كان بمقدوره أن يصوغ توصيات تعكس فكرة البوهيمي الجامح على نحو أفضل مما صاغتها هذه الكراسة".
رموز الترانسفير في سدة الحكم:
مع وصول "شارون" إلى رئاسة الحكومة، بات رموز "الترانسفير"، يجلسون على سدة القرار السياسي والأمني في إسرائيل، حيث شهد عهده خروج موضوع "الترانسفير" إلى السطح. وبات جزءاً من النقاشات الداخلية الدائرة بين الأحزاب الصهيونية. وحين طالب حزب العمل بتنحية رموز التطرف في التشكيل الوزاري، وفي مقدمتهم "رحبعام زئيفي"، لأن حزبه يتبنى رسمياً خيار "الترانسفير" تصدى لهم "زئيفي"، موضحاً أن "الترانسفير" سياسة إسرائيلية ثابتة، وليست مواقف حزب أو حركة سياسية، مورست منذ إنشاء إسرائيل، وحتى الآن ما زالت مستمرة. وقد مارسها حزب العمل لسنوات طويلة. لذلك اعتبر "زئيفي" حزبه "حركة موليت" استمراراً للتراث الإسرائيلي وليس طارئاً عليه". وقال "زئيفي" في مقالٍ له نشرتها صحيفة معاريف عام 2001، "نحن نتبنى فكرة "الترانسفير"، وما الخطأ في ذلك؟ إن "الترانسفير" الذي نقترحه هو ترانسفير طوعي، أو بالاتفاق. هو إنساني، بينما تبنى حزب "ماباي" الترانسفير بالإكراه". ويستذكر "زئيفي" عملية "الترانسفير" القسري ضد أهالي اللد والرملة خلال نكبة 1948، فيقول: "حين تحررنا لم نعرف كيف نتصرف مع السكان المدنيين، وسألنا القيادة فأمرنا المقدم "إسحق رابين" أن نبعدهم. وقال هذا أمر صادر عن "بن غوريون" رئيس الحكومة ووزير الدفاع (آنذاك)، لقد فعلنا ما أمرنا به. هل يعرف حزب العمل ذلك؟"، وأنهى "زئيفي" مقاله متسائلاً ومتحدياً قيادات حزب العمل برد ما، إذا كانت لديهم فكرة حقيقية لحل الصراع العربي-الإسرائيلي، باستثناء فكرة "الترانسفير".
أصدرت "حركة موليدت"، نهاية شهر آذار عام 2002، وثيقة عن "الترانسفير"، الذي يتصدر برنامجها منذ تأسيسها. تبدأ الوثيقة، بمقدمة تُوضح طبيعتها وأهدافها، كمجموعة من أبحاث واقتباسات هدفها إزالة الغموض والجهالة، ورفع الخطر الذي يمنع إجراء نقاشاً جدياً حول خطة السلام التي تطرحها "موليدت"، انطلاقاً من الشعار الذي طرحه "زئيفي" في انتخابات الكنيست الثاني عشر: "فقط "الترانسفير" هو الذي يقود إلى السلام". بعد ذلك تنتقل الوثيقة، للحديث عن أصناف "الترانسفير" حسب أسلوب تحققه؛ مثل "الترانسفير" الطوعي: من خلال تشجيع هجرة عرب الضفة الغربية وقطاع غزة بمساعدات مالية وغيرها.
و"الترانسفير" من خلال القتال: "لقد أثارت "حرب الاستقلال"، تغييرات جغرافية وديموغرافية، حين قاد الزعماء العرب أبناء شعبهم إلى النكبة المؤلمة. على الزعماء العرب أن يعرفوا اليوم أنه لا توجد حرب نظيفة، وأن من يشن الحرب ضد شعب إسرائيل سيدفع مقابل ذلك نزوحه عن بيته ومكان سكنه. وإذا لم يكونوا قادرين على العيش هنا، معنا بـ "سلام" فإنهم لن يعيشوا أبداً. إن قوة الردع الإسرائيلي لن تعود إلا إذا كان واضحاً لجيراننا أن الإرهاب سيؤدي إلى خسارة أرضهم مثلما حدث عام 1948، النكبة لهم، والاستقلال لنا".
و"الترانسفير" بالاتفاق: "هذا "الترانسفير" يجري حين تتوصل دولتان فيما بينهما إلى اتفاق يقضي بنقل سكان مدنيين إلى مكان آخر من أجل السلام. هكذا للأسف اُقتلع اليهود من سيناء ورفح في إطار اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر، وهكذا دول كثيرة في العالم. وإذا شئنا نستطيع أن نُطبق هذا عندنا وإقامة -باتفاق دولي- دولتين لشعبين على ضفتي نهر الأردن".
بعد ذلك تتطرق الوثيقة إلى فكرة "الوطن البديل" وتسهب في الحديث عنه، انطلاقاً من مقولة "ضفتا الأردن هذه لنا وتلك لنا أيضاً". لكن وللأسف –حسب تعبير الوثيقة- لا تزال الشرقية دولة عربية فلسطينية. فضفتا الأردن كلاهما "أرض إسرائيل التاريخية". وتعيد الوثيقة ذلك إلى ما تسميه الخطأ التاريخي الذي أرتكبه "تشرشل"، حين توج العائلة الهاشمية على فلسطين الشرقية، وأنشأ دولة الأردن من لا شيء، الأمر الذي ينفي الحقائق الواقعية بأن أكثر من 70% من مواطني شرقي الأردن اليوم هم من الفلسطينيين.
وفي ضوء الاعتقاد أن الأردن هي فلسطين، تقول الوثيقة؛ يمكن ترحيل السكان العرب في الضفة الغربية وتحويلهم، وحتى بدون اقتلاعهم من بيوتهم إلى مواطني الدولة الفلسطينية التي عاصمتها عمان. وذلك شريطة أن يتم إعادة توطين سكان مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، والدول العربية، ويستطيع مواطنو إسرائيل العرب الذين يفضلون عدم الإعلان عن ولائهم لدولة اليهود أن يصوتوا للبرلمان الفلسطيني في عمان، وذلك بدون أن يُقتلعوا من بيوتهم. وإذا عاد عرب المناطق لشن حرب علينا يتم إبعادهم إلى دولتهم وراء الأردن.
لكن "موليت"، ترفض الانتظار حتى تحصل الحرب، لذلك تطرح في الوثيقة دعوة أو مبادرة صهيونية لاستباق الأمور من خلال الترحيل الذي هو نقل عرب الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الدول العربية، على اعتبار أن أي حل للنزاع الإسرائيلي-العربي والسلام بينهما لا يتحقق إلا من خلال الفصل بين الشعبين. اليهود في أرض إسرائيل، والعرب في الدول العربية. وستكون هذه المرحلة التالية من تبادل السكان التي بدأت مع الهجرة اليهودية من الدول الإسلامية إلى إسرائيل، وهكذا حسب الوثيقة سيختفي الخطر الديموغرافي وتتحقق الشروط للضم والسيطرة على مناطق الوطن المحررة.
بالطبع لا يتفرد "رحبعام زئيفي" بالدعوة العلنية إلى "الترانسفير"، بل يُشاطره حتى أقطاب التيار الصهيوني، ومن يسمون "أنصار معسكر "السلام الإسرائيلي"". من هؤلاء مثلاً، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية (آمان)، الجنرال المتقاعد "شلومو غازيت"، حيث قال: "اتضح لي من قراءة وسماع توقعات الديموغرافيين، أنه في السياق الحالي، وإذا لم تُتخذ الخطوات المطلوبة والحيوية، ستكف إسرائيل عن البقاء كدولة يهودية بأغلبية يهودية واضحة، ومضمونة". ويتساءل "غازيت": "ما الذي يتوجب فعله؟" ويجيب على ذلك السؤال: "أولاً، الاعتراف بوجود الخطر والحاجة إلى سياسة طوارئ وطنية، ثانيا"، اتخاذ خطوات تمنع زيادة فلسطيني 1948 داخل الدولة. ثالثاً، اتخاذ خطوات لزيادة السكان اليهود في الدولة من خلال الهجرة والتهويد الجماعي لكل من هو غير يهودي ويرغب في ذلك". ويعتبر "غازيت" أن العيش في جو الطوارئ واتخاذ إجراءات الطوارئ، ضرورة حتى يقدر الكيان الصهيوني على الخلاص من عرب فلسطين.
أما "رافي إيتام" زعيم حزب المفدال الديني الصهيوني فقال: "إن العرب فى إسرائيل يشكلون قنبلة توشك أن تنفجر من تحت النظام الديموقراطي فى إسرائيل، وأضاف؛ فى النقب والجليل تتكون على أرض الواقع مناطق حكم ذاتي للعرب وهذا يستبطن تهديداً وجودياً، لا يمكن الاستحواذ عليه فهو كمرض السرطان".
وفى محاضرة له بإحدى مستوطنات الضفة الغربية عام 2006؛ قال "إيتام"؛ دون أن يعلم أن ميكرفون إذاعة الجيش مفتوحاً، أنه "لا بد من إجلاء أغلبية الفلسطينيين فى الضفة الغربية كما لا بد من إقصاء العرب من الجهاز السياسي الإسرائيلي بعدما اتضح أننا ربينا طابوراً خامساً بيننا وعصبة من الخونة".
واقترحت "جیئولا كوهین" عام 1989، فكرة "الترانسفیر" باعتبارها حلاً لمواجهة الانتفاضة، وقالت:" ثمة خطأ قد وقع في عام 1967، عندما لم تستغل حكومة إسرائیل حرب الإبادة التي شنتها علینا الدول العربیة، لكي تنقل إلى الضفة الشرقیة عشرات ومئات الآلاف من سكان الضفة الغربیة، الأمر الذي عرفنا كیف نقوم به، ولكن بالقدر الضئیل جداً وبتردد أكثر من اللازم خلال حرب الاستقلال".
أما "دونا آزرت" وھي محامیة یهودیة أمریكیة من أصل روسي، وناشطة في تهجیر الیهود الروس لإسرائیل، اقترحت في العام 1997، خطة تنظیف عرقي جیدة، بحیث تُعید ترحیل اللاجئین إلى منافي نهائیة، لا تؤثر سلباً على أمن إسرائیل، ولا على مشاریع هجرة جیدة للیهود إلیها، ونشرت هذه الخطة التي تنتهك القانون الدولي في كتاب أصدره مجلس العلاقات الخارجیة الأمریكیة.
التوراة آمنت بالترانسفير:
انشغلت أيضا أوساط الحاخامات بموضوع ترحيل الفلسطينيين بشكل أوسع وبوتيرة متزايدة منذ بدء الانتفاضة الثانية، وتعج صحف ومنشورات ومدونات رجال الدين اليهود خاصة المتدينين الوطنيين بجدل مستفيض فى المستوطنات وخارجها حول شرعية الترحيل، للدرجة التي جعلت صحيفة هآرتس تنشر فى 25/3/2002، تقريراً بعنوان: "التوراة آمنت بالترانسفير فهل هذه فكرة سارية المفعول"؟
فقد نشر أحد قادة حاخامات المستوطنين وهو الحاخام "أليغازر ملاميديف" مطلع فبراير 2002، مقالاً فى مجلة "القليل من الضوء" أكد فيه واجب اليهود بطرد العرب من البلاد، لأنهم لا يقبلون بسيادتهم عليهم. وفى المجلة نفسها دعا الحاخام "يوآب شوريك" من "مستوطنة عوفرة" إلى ضرورة العودة إلى نابلس والخليل، وطرد كل العناصر المعادية منهما حتى لو زاد عددهم عن نصف السكان، مبرراً ذلك بـ "العقاب" دون علاقة بالمسألة الديموغرافية.
ورأى الحاخام "شلومو أفنير" رئيس المدرسة الدينية "عطيرت كوهنيم" وحاخام "مستوطنة بيت إيل"، أن الحل للمشكلة الأمنية يكون بطرد العرب إلى واحة من الدول العربية فى حال لم يرضخوا للقانون الإسرائيلي، وذلك كما جاء فى مقال نشرته مجلة "مباط حوفشي" فى يناير 2002، وقال حاخام مدينة صفد "شموئيل إلياهو": "يحظر على الأغيار السكن فى هذه البلاد حتى لو سلموا بهيمنتنا وسيادتنا عليهم".
وتجاوز الحاخام "زلمان ملاميد" سابقيه بقوله؛ "يُخطئ من يدعو إلى ترحيل الفلسطينيين لشرق الأردن، إذ ينبغي نقلهم لمكان آخر كالسعودية والكويت واليمن، لأن الأردن والعراق جزء لا يتجزأ من مملكة إسرائيل الموعودة القائمة من النيل للفرات كما جاء فى سفر التكوين (آية 18)". أما الحاخام "إسحاق غينتسبورغ" فيؤمن بحتمية توسيع "أرض إسرائيل" نحو العالم برمته بواسطة الحرب وإخضاع شعوبه لواحد من خيارين، إما القبول بفرائض "بني نوح" وإما القتل. ورغم كل هذا الانشغال الظاهر بفكرة الترحيل فإن أغلبية الحاخامات ما تزال تُفضل بحث هذه المسألة فى الخفاء.

ناقوس خطر بالاتجاه المعاكس:
في هذا الجو الملبد بالتطرف والعنصریة، ظهرت اتجاهات ناقدة ومحذرة من عواقب ما قد يحدث جراء استمرار التحريض ضد الفلسطينيين، فقد قال "أبراهام بورغ" رئیس الكنیست ورئیس الوكالة الیهودیة سابقاً : "لو أرادت إسرائیل أن تحافظ على ما تبقى لدیها من دیمقراطیة، فعلیها أن تنسحب لحدود عام 1967، أو منح أكثر 3.5 ملیون فلسطیني المواطنة الكاملة، وهذا سیحكم على دولة إسرائیل بالنهایة الافتراضیة"، وفي معرض انتقاده لتنامي ظاهرة العنصرية في إسرائيل قال "بورغ": "یبدو لي أننا لا نقوم باقتلاع هذه المظاهر كما یجب، أسمع الأصوات التي تصدر في "سدیروت": سنهدم الحي! وسنهدم المدینة! سنبید ونقتل ونطرد! وهناك حدیث عن ترانسفیر في الحكومة، لقد تجاوزنا الكثیر من الخطوط الحمراء في السنوات الأخیرة، والسؤال الآن ما هي الخطوط الحمراء القادمة التي سنتجاوزها؟"، وتحدث "بورغ" عما سمعه في الكنیست: " سمعت مؤیدي السلام یقولون أنهم یرغبون بالسلام لأنهم یكرهون العرب، ولا یستطیعون رؤیتهم أو تحملهم، سمعت تصریحات (كهانیة) من الیمین، (الكهانیة) موجودة في الكنیست، لقد تم شطبها كحزب، ولكنها ممثلة بنحو 10% وربما 20% من الكنیست، هذه أمور لیست بسیطة"، وأكد "بورغ" بأن هذه العنصریة موجودة حتى لدى الیسار الصهیوني.
"التراسفير" وفرض الحقائق الاحتلالية على الأرض:
تواصل إسرائيل سياسة الترانسفير والتطهير العرقي الصامت، وذلك من خلال مصادرة أراضي الضفة الغربية والقدس وبناء المستوطنات الإسرائيلية عليها، وبناء جدار الضم والتوسع وتعمد مروره داخل بعض القرى لتقسيمها (بحيث يصبح العيش في الجانب الغربي منها صعباً) أو فصله لأراضٍ زراعية عن منطقتها السكنية (بحث لا يصبح لأصحابها المزارعين مصدر دخل)، وتشديد الحصار على قطاع غزة، واستمرار هجمات وإرهاب المستوطنين على القرى الفلسطينية بحماية جيش الاحتلال الذي لا ينفك عن اقتحام الأراضي الفلسطينية ويمارس سياسة الخطف والاعتقال والقتل وهدم منازل الفلسطينيين بغطاء من المحكمة العليا الإسرائيلية، وغيرها الكثير من الممارسات والاعتداءات الهادفة للتضييق على الفلسطينيين وإجبارهم على الرحيل!!
ومن جانب آخر، فقد نشر الموقع الإلكتروني لصحيفة "يديعوت أحرنوت" (واينت) مؤخرا، نقلا عن مصدر مقرب من رئيس الحكومة الإسرائيلية، يفيد بأن إسرائيل سعت لتهجير سكان قطاع غزة من خلال فتح باب الهجرة، واستعدادها لتمويل رحلات جوية وفتح معابر قطاع غزة، والسماح للغزيين بالسفر جوا منها، في حال توفرت دولة يمكنها استيعابهم؛ وقال المصدر المسؤول إن "إسرائيل توجهت إلى عدة دول بما في ذلك بعض الدول في الشرق الأوسط وخارجه لاستيعاب رحلات "المهاجرين" التي ستنظمها مؤسسات النقل والطيران الإسرائيلي، لكنها لم تتلق إجابة حتى الآن".
وقد أقر وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، غلعاد إردان، بأن الحكومة الإسرائيلية ناقشت تهجير سكان قطاع غزة من خلال تشجيعهم على المغادرة بواسطة رحلات جوية منظمة، مدعيًا أن "المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت)، بحث هذه التفاصيل وناقش المقترحات، لكن النقاشات لم تشر إلى عملية (تهجير) على نطاق واسع. فيما اعتبرت زعيمة حزب اليمين الإسرائيلي الجديد، إيليت شاكيد، أنَّ هجرة سكان غزة مصلحة إسرائيلية في المقام الأول، ودعت لمنح الفرصة لمن يريد الهجرة من غزة، وتسهيل حدوث ذلك، لأنَّ غزة تعاني انفجاراً سكانياً، وازدحاماً شديداً، وحان الوقت لإسرائيل أن تستيقظ، وتسمح لأولئك الذين يريدون الهجرة بالرحيل، وفق تعبيرها.
مهما يكن من أمر، ورغم المحاولات الإسرائيلية على مدى أكثر من سبعين عاما لتفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها الأصليين، فثمة حقيقة ساطعة بأن الشعب الفلسطيني (وبلغة الإحصائيات والأرقام المنشورة) لا زال صامدا ومتجذرا في وطنه، ومتمسكا في حقوقه السياسية، وصولا لتجسيد تطلعاته بالحرية والاستقلال والعودة.