الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

التقارب العربي-الإسرائيلي كمظهر لذات الاستبداد

نشر بتاريخ: 17/02/2020 ( آخر تحديث: 03/04/2020 الساعة: 05:09 )

الكاتب: د. حسن أيوب

ليس من السهل من النواحي السيكولوجية، والسياسية، وحتى الأيديولوجية إدخال تعبير جديد إلى قاموس العلاقات العربية الإسرائيلية. فالكاتب، والقارئ والسامع العربي قد اعتاد لعقود على تعبير الصراع العربي-الإسرائيلي. وفي سياق هذا التعبير بمحتواه السياسي والأخلاقي والقومي جرت مقاومة التطبيع وتجريمه على المستويات الشعبية والرسمية العربية، وتمحور الخطاب السياسي العربي والفلسطيني حول فهم العلاقة مع "إسرائيل" كعلاقة صراع قومي ووطني. فما الذي حدث لكي ننتقل من محاربة التطبيع إلى التقارب، ويمكن القول في بعض الحالات إلى التحالف مع "إسرائيل"؟
لقاء رئيس المجلس السيادي في السودان برئيس الحكومة الإسرائيلية أثار موجة من السخط الشعبي. إن التعليقات التي تناولت الموضوع لم تذهب أبعد من اللحظة الراهنة في تفسير الحدث، حيث بات من الواضح بأن ثمة أنظمة عربية تلعب دور العراب في فتح أبواب العلاقات والتقارب العربي الإسرائيلي. وهذا معطى بطبيعته لحظي يتعلق بالواقع الراهن في المنطقة العربية. إن الظواهر الكبرى في التاريخ الإنساني، وفي علاقات الدول وإن بدت بأنها وليدة ملابسات بروزها، إلا أن دينامياتها وعللها تتعلق بمتغيرات ليست انية بل بعيدة المدى، ولا تُفهم بمعزل عن سياقها التاريخي. وهذا ينطبق على التحول في العلاقات العربية الإسرائيلية من القطيعة والعداء (الظاهرَين على الأقل)، إلى التقارب والتحالف. هناك ثلاث مراحل في تاريخ الدولة العربية الحديثة (أي دولة ما بعد الاستعمار) استخدمت فيها قضية التحرر الوطني، وبشكل خاص القضية الفلسطينية كمبرر للاستبداد وكتسويغ للعلاقات العربية بقوى الاستعمار الجديد، بما فيها "إسرائيل" : مرحلة هيمنة خطاب "الأمة" بعد العام 1948؛ ومرحلة الارتداد إلى القطرية المفرطة بعد حرب الخليج الثانية؛ ومرحلة ثورات الربيع العربي، والتحالفات الجديدة.ما ينبغي قوله قبل تقديم تشخيصنا لهذه المراحل، هو أن ثمة انقطاع موضوعي، ليس زمني فحسب، بين المرحلة الأولى والمرحلتين التاليتين، بينما يقوم ترابط وتعاقب زمني بين المرحلتين الأخيرتين من حيث طبيعة القوى والعوامل التي شكلتهما، واستمرارية التحول خلالهما نحو التقارب العربي-الإسرائيلي.
مرحلة "الخطاب القومي"
لم تكن كل الأنظمة العربية التي ورثت الاستعمار بعد "التحرر" منه، أنظمة قومية. أي أنها لم ترفع شعارات ولا هي تبنت مشروع القومية العربية. يستثنى بطبيعة الحال من ذلك مصر، والعراق ، وسورية. وقد كان القاسم المشترك بينها جميعا هو تبنيها لخطاب ومبررات ذات صلة "بالأمة" ومصالحها وأولوية مواجهة العدو المشترك. لقد استخدم هذا الخطاب لتبرير قمع الحريات السياسية ومطالب الديمقراطية، وبفعله لم تنشأ في بلدان الوطن العربي علاقات مجتمعات وشعوب "قطرية" بأنظمتها كدول قومية Nation-States بالمعنى الدقيق للكلمة. بهذا المعنى فإن الشعوب العربية لم تدرك لا مشروعا قوميا وحدويا حقيقيا، ولا هي تمكنت من بناء دولها القومية على أسس عصرية. فانتهينا إلى دول ليست مثل الدول: الدولة-العائلة، الدولة-القبيلة، الدولة-الفاشلة، الدولة-النفطية، الدولة-العسكرية...الخ
بذات الوقت لم يتحقق لمشروع القومية العربية أي قدر من النجاح. فالأنظمة التي تبنته أفرغت القومية من مضمونها بحكم القمع السياسي والإقصاء والهزيمة أمام المشروع الصهيوني. أما تلك التي استخدمت خطاب "الأمة" في إسباغ الشرعية على استبدادها فقد حسمت خياراتها "القومية" باتجاه التحالفات الخارجية في مواجهة الأنظمة القومية. وفي كلا الحالتين استنفذت الأنظمة العربية مواردها السياسية وغير السياسية في سلسلة طويلة من الانقلابات والصراعات التي شكلت المدخل الأساسي للتغلغل الغربي وبخاصة الأمريكي في المنطقة، وتعزيز مكانة "إسرائيل" فيها. ليست فلسطين وقضيتها هي التي استنزفت موارد "الأمة" كما يحلو للبعض أن يدعي. صحيح أن الحروب العربية-الإسرائيلية استنزفت الكثير من الموارد العربية، لكن صحيح كذلك بأن هذه الموارد قد أهدرت بفعل الصراعات البينية، والفساد، وسوء التصرف بالموارد. مثلما هو صحيح أيضا بأن الأنظمة العربية هي التي تتحمل المسؤولية الأولى في وصول الصراع العربي-الإسرائيلي إلى ما وصل إليه، ومع ذلك استمرت في اعتباره عربيا-إسرائيليا، ولو من باب الحفاظ على ماء الوجه.

مرحلة القطرية المفرطة
بحلول العشرية الأخيرة من القرن الماضي دخل العالم من حولنا في عمليات تحول كبرى أطلقها تفكك أحد قطبي النظام الدولي في العام 1991. لقد كان نصيبنا في العالم العربي أن نعيش أكثر تداعيات ذلك التحول وحشية وعنفا مع حرب الخليج الثانية وما ترتب عليها من نتائج كارثية. تلك الصدمة أسست لما تبعها من تحولات على بينية ووظائف وأدوار النظام الرسمي العربي في سياق القناعة (قناعة لا تعكس بالضرورة الواقع المعاش) بأن الخيار الوحيد المتاح أمام الأنظمة العربية هو تبني الأجندة الأمريكية بلا شروط؛ أي التحول إلى صيغة الاقتصاد النيوليبرالي، والدخول في تسويات سياسية مع "إسرائيل"، وتقديم التعاون الاقتصادي والأمني على القضايا السياسية والقومية العربية. ترافقت تلك التحولات مع إصلاحات سياسية محدودة تلبي الحاجة إلى اقتصاد السوق، ومعها برزت نخب جديدة في المجتمعات العربية، وفي قلب وعلى هوامش أنظمتها السياسية، تتبنى خطابا وأجندات سياسية مفارقة تماما للخطاب القومي والتحرري، على شكليته وعجزه.
إن شعار "الدولة X أولا" يختصر ما اعتمل من تحولات في هذه المرحلة نحو قومية قطرية مفرطة ومشهدية استخدمتها النخب الجديدة لحشد وتعبئة الجماهير خلف شعارات هي أقرب إلى الشوفينية، ولكنها تفتقد إلى قوة الدفع لسببين: الأول هو أنها لم تقم على وجود حزب جماهيري قادر على لعب هذا الدور التعبوي على خلفية أيديولوجية مركزية وجاذبة، والثاني: هو أن النموذج الاقتصادي المتبنى لا يقدم مساحة مناسبة لمثل هذا التحول الأيديولوجي. لهذه الأسباب بحثت الأنظمة ونخبها التي أصبحت امتدادات للعولمة والأمركة في ان معا، بحثت عن مصادر شرعية تستند إلى الإصلاحات السياسية، ووعود التنمية. ومن جديد لم تتحقق لا هذه ولا تلك: فوعود التنمية أفضت إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والمديونية القومية والبؤس الاجتماعي، مضافا إلى الاستبداد السياسي. والحال هذه، وبحكم التورط في التسوية السياسية غير المتوازنة مع "إسرائيل" أصبح الشعار الأساس للأنظمة حول القضية الفلسطينية هو: "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون". كيف لا وهي مرحلة التمركز حول الذات، والانكفاء إلى أهداف مرتبطة بالسوق، والأمن، والمصالح المعولمة التي لا تستقيم معها، ولا تتقبل، القضايا ذات الصلة بالمسألة القومية أو التحررية وفق قيم وأعراف السوق، والنظام الدولي الجديد وترتيباته الإقليمية. إن هذا الواقع هو الذي مهد لمقولة "ما لنا وما للفلسطينيين" التي نسمعها اليوم في زمن ثورات الربيع العربي، الذي لا تتحمل وزره هذه الثورات.
مرحلة ثورات الربيع العربي
ترتب على تفاقم الواقع العربي عبر قرابة ثلاثة عقود من غياب التضامن العربي، والانقسامات العربية بفعل وعقب حرب الخليج الثانية، والمعضلات الاجتماعية الناتجة عن اقتصاد السوق والمصاحبة له، نتيجتان: الأولى هي إمعان الولايات المتحدة و"إسرائيل" في إضعاف الواقع العربي عبر بوابة حرب العراق الثالثة عام 2003، ومن خلال فرض شروط مذلة على الفلسطينيين لقبول ما يقدمه الطرفان عقب الانتفاضة الثانية واعتبار الراحل ياسر عرفات غير ذي صلة؛ والثانية هي وصول مشروع "الدولة X أولا" إلى نهايته الكارثية بسرعة قياسية بحكم مراكمة الفشل التنموي والسياسي متلازما مع تعميق التناقضات الاجتماعية والتفاوت الطبقي الحاد. هذا المزيج هو ما أفضى إلى ثورات الربيع العربي التي تتنازعها اليوم قوتان:
الأولى هي الأنظمة الاستبدادية ذاتها ونخبها الجديدة التي تمكنت من تحقيق مكاسب مضادة للثورات. وفي سعيها لمنع تمدد الموجة الثانية من الثورة -والتي تشهدها اليوم لبنان، والسودان، والجزائر والعراق- لجأت هذه الأنظمة إلى بناء تحالف أمني-مالي-عسكري على طريق تشكيل ما يعرف باسم "الناتو العربي". إن ما يجمع هذه الأنظمة المستبدة اليوم مع "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية هو الرعب المشترك من أن تحقق هذه الثورات نهاياتها الديمقراطية والتحررية المدنية. والثانية هي القوى المدنية الديمقراطية والوطنية التي ترفض استمرار حكم العسكر، والأنظمة المستبدة على تنوعها بين جمهوري، وطائفي، وملكي. وهذه القوى تعلن وبإصرار انحيازها لقضايا العدالة الاجتماعية والديمقراطية، ولقضايا الأمة العربية وأولها القضية الفلسطينية.
إن مقولة "ما لنا وما للفلسطينيين" هي التعبير الأكثر فظاظة وصلفا عن تحالف قوى الاستبداد المضادة للثورات، التي تستنفر كل مواردها وتستنزفها عبر كل أشكال التدخل لمنع تمدد الثورات أو للتحكم بمخرجاتها. وهذه هي البيئة الخصبة التي أنتجت وتشكل الحاضنة لافتراضات محددة تتحرك وفقها الأنظمة ونخبها: الافتراض الأول هو أن مصدر عدم الاستقرار في المنطقة هو ثورات الربيع العربي المدعومة من إيران وقوى خارجية، وينبع منه التحرك المشترك لهذه الأنظمة لنزع الشرعية عن الثورات وإشاعة الذعر الجماعي لتبرير استمرار الاستبداد الذي ترعاه واشنطن علنا وبلا مواربة، والثاني هو أن العلاقة مع مصدر الحماية والشرعية الخارجي للدكتاتوريات العربية متمثلا بالأنظمة المحورية في المنطقة ومن خلفها الولايات المتحدة، هذه العلاقة مشروطة بفتح أبواب التقارب مع "إسرائيل" بحكم التقاء المصالح في سياق باتت "إسرائيل" فيه هي عراب وحاجب البيت الأبيض؛ والافتراض الثالث هو أنه لا يوجد تناقض بين التقارب مع إسرائيل وبين الاستمرار في دعم الفلسطينيين. وهو التعبير الأكثر تجميلا عن ذات مقولة "ما لنا وما للفلسطينيين" الذي ترفعه نخب سياسية وإعلامية، وسياسية نافذة. إن افتراض غياب التناقض هنا يعني بأفضل الأحوال أن الأنظمة المعنية لن تذهب أكثر من الدعم اللفظي والإعلامي للفلسطينيين، وبأن هذا الدعم لم يعد مكلفا ولا يتطلب أية مواقف تمس بتحالفاتها انفة الذكر. إن سلوك أنظمة الاستبداد العربية على سقوطه الأخلاقي والسياسي يسهم وبشكل غير مقصود في تذكير الفلسطينيين قبل سواهم بأن القضية الفلسطينية مرتبطة بحكم التاريخ وبحكم سيرورة التغيرات انفة الذكر ببقاء أو رحيل هذه الأنظمة وتحالفاتها الإقليمية والدولية.