الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

مقاومة الضم وفرض السيادة ومعضلة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني

نشر بتاريخ: 08/06/2020 ( آخر تحديث: 08/06/2020 الساعة: 12:19 )

الكاتب: د. نايف جرّاد

الاستيلاء على الأرض ركن أساسي تاريخي في الفكر والممارسة الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية، والسيطرة الإسرائيلية على كل أرض فلسطين التاريخية اليوم واقع مفروض بالقوة، وإن ضم ما تبقى من أرض في الضفة الغربية واحكام السيطرة عليها وفرض القانون والسيادة الإسرائيلية عملية جارية على قدم وساق، وقد ازدادت وبشكل ممنهج في الأشهر الأخيرة في اطار تطبيق صفقة القرن بموافقة ومباركة وشراكة أمريكية، وهي تجري وسط خلافات بين المستعمرين الصهاينة ليس على ضرورتها و"شرعيتها"، فالكل متفق على ذلك، بل على وتيرتها وتوقيتها، وحجمها وهل يجب أن تشمل كل الضفة الغربية أم جزء منها وهل تسمح بوجود كيان فلسطيني ما في المعازل المحددة المتفق عليها بالخرائط المشتركة مع الامريكان، يمكن أن يتطور لجزء من "دولة" بعد 4 سنوات حسب صفقة القرن ودون أن يتمتع بالسيادة والسيطرة الأمنية، أو لا تسمح، وكيف يمكن تمريرها واتمامها بأقل الخسائر ودون ردات فعل فلسطينية وعربية ودولية كابحة، بما فيها تأثيرات سلبية محتملة على إعادة انتخاب ترامب الشعبوي المأزوم لولاية جديدة في نوفمبر القادم.

بالاستناد الى حقل دراسات الاستعمار الاستيطاني ومحاولة استعادة الإطار الكولونيالي الاستيطاني كإطار تحليلي لفهم الحالة الاستعمارية في فلسطين، سأحاول في هذا المقال قراءة مخططات الضم وفرض القانون والسيادة الإسرائيليين على الضفة الغربية، واستشراف مآل الصراع في فلسطين. وهو مقال جزء من دراسة أشمل، ستنشر قريبا.

فمن "أرض بلا شعب" و"العمل العبري" و"احتلال العمل"، والتطهير العرقي عام 1948، مرورا بما زعم عن استعادة "يهودا والسامرة" في حرب حزيران عام 1967 وما رافقها من تهجير قسري جديد، و"إدارة السكان" و"استيعابهم“ بعد عام 1967 بناء على خطط موشي ديان وإيغال ألون، وحملة الاستيطان المحموم في الضفة الغربية واحتلال التلال، وعزل القدس وتهويدها، وفصل وحصار غزة، وصولا الى قانون القومية اليهودية عام 2018، وإعلان ما يسمى ب"صفقة القرن" في كانون ثاني/يناير 2020، وأخيرا الإعلان عن برنامج حكومة نتنياهو – غانتس في أيار 2020 المتضمن لمخطط الضم وفرض القانون والسيادة الإسرائيليين على المستوطنات وأجزاء واسعة من الضفة الغربية مع بداية تموز القادم 2020، يتضح جليا بناء على كل ذلك، ودون أدنى شك، أن المشروع الصهيوني في فلسطين يتمدد كمشروع استعماري استيطاني، يريد الاستيلاء على كل فلسطين، ولا يعير أي اعتبار لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بحرية على أرض وطنه، وبهذا فإن العلاقة مع دولة الاحتلال باتت واضحة وجلية، وبالتالي يجب ان يعاد تعريفها من جديد، لتأخذ صفة الصراع مع مشروع كولونيالي استعماري استيطاني من نوع خاص، يقوم في جوهرة على مبدأ الاستيلاء على الأرض ومنطق الإبادة (Elimination)، وعلى أساس لعبة المعادلة الصفرية مع السكان الأصليين (zero sum game) من خلال إجراءات الضبط والسيطرة والابادة (Wolfe, 1994). وهو مع الهيمنة على القدس الموحدة كعاصمة "أبدية" وتهويدها، ومع قانون القومية وصفقة القرن وتطبيق الضم وفرض السيادة، يكاد يصل إلى الطور الأخير من مشروعه، محاولا حسم صناعة وجوده واستمراريته بالسيطرة على كامل أرض فلسطين التاريخية بشتى الوسائل وصولا الى فرض نتيجة للمعادلة الصفرية التي ينتهجها كاستعمار استيطاني باستحواذ القوي المنتصر على كل شيء (the winner takes all)، وبالتالي الانتقال إلى مرحلة "ما بعد الاستعمار" إذا ما استتب له الأمر، أي نهاية اعتباره استعمارا من خلال تكريس احتجاز وعزل سكان البلاد الأصليين (carceration) والانتقال الى استيعابهم وتذويبهم (assimilation) (Veracini, 2015) وإضفاء الشرعية على ذلك بقبول محلي وإقليمي ودولي.

فهل سينجح المشروع الاستعماري الصهيوني في تحقيق هذا الهدف، فيبقى ويتأبد؟ وكيف يمكن افشال هذا المشروع وهزيمته؟

في هذا المقال، أجادل معتقدا بغير ما ذهب اليه بعض منظري الاستعمار الاستيطاني في حالته الصهيونية بفلسطين، مثل Wolfe (2006) وSalamanca (2012) وVeracini (2013؛ 2015 ) وLloyd (2012) ونديم روحانا (2014)، من أنه مشروع لن ينتهي، وزعمهم بإن انتهائه غير قابل للتخيل، مؤكدا أنه يمكن عرقلة ديمومة هذا المشروع على طريق هزيمته وتفكيك الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. وانني أتفق هنا تماما مع ما ذهبت اليه الباحثة ميساء شقير (2017) من نقد واتهام لبعض من لجأ لاستخدام الإطار الكولونيالي الاستيطاني لتعزيز سرديات الإبادة واستحالة التغيير والتحرر من الاستعمار الاستيطاني، عبر تمرير رواية الآخر بأنه جاء ليبقى وأن إسرائيل أبدية لأن ليس لليهودي المستوطن وطنا أم يعود إليه، وأنها باتت من القوة والتطور الذاتي بحيث تستغني عن الدعم المقدم من المركز الامبريالي، وهو ما يعني حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني باستدخال روح الهزيمة واليأس وفقدان الأمل لدى الفلسطينيين والعرب ودعوتهم للاستكانة والاستسلام أمام المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. وبهذا الفهم، لا أرى ان إعادة تعريف المشروع الصهيوني كمشروع استعماري استيطاني وضرورة التعامل معه على هذا الأساس من الادراك المعرفي، وما يستدعيه ذلك من احداث تغيير في المشروع الوطني الفلسطيني التحرري وأهدافه وادواته وآلياته، يعني القبول بأبدية هذا المشروع، وأنه غير قابل للهزيمة والتفكيك. وبالتالي، فإنني في نفس الوقت، أؤكد انه يمكن استخدام إطار الاستعمار الاستيطاني كإطار تفسيري وتحليلي وتخطيطي دون الوقوع في اشكاليته الأساسية التي، كما تقول محقة ميساء شقير، تقدم حلولا لبقاء العدو لا التحرر منه، مما يبعد البصيرة التحليلية عن رؤية تشققات وأزمات البنية الاستعمارية.

وقد يتبادر لذهن القارئ مباشرة سؤال: كيف يمكن القول بأن المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني قابل للتفكيك وهو يكاد يحسم صناعة وجوده (كما ذكر آنفا) وانتصاره الحاسم على الفلسطينيين المهزومين باستيلائه على ما تبقى من فلسطين وحصر الفلسطينيين في معازل أشبه بمحميات الهنود الحمر والسكان الأصلانيين في اميركا وأستراليا؟

نعم إنه سؤال منطقي. ولكن الجواب عليه، وهو محور هذا المقال، هو أن عملية الضم والاستيلاء الكلي على كل فلسطين التاريخية لما تتم وتنجز بعد، وأنها تواجه بمقاومة من الشعب الفلسطيني، يمكن أن تتطور، إذا أحسن استخدام كل ممكنات القوة المتوفرة والكامنة لدى الشعب الفلسطيني، وأن الشعب الفلسطيني أصلا، لم تتوقف مقاومته لهذا المشروع الاستعماري الاستيطاني طوال تاريخ الصراع على مدار 139 عاما منذ قيام أولى المستوطنات في فلسطين وحتى الآن، ولن يقبل ان يكون مصيره خادما للمستوطن في المحميات وواحات المتعة والقمار والكازينوهات. ومن المهم للسائل أن يعي ويدرك، أن الشعب الفلسطيني، الذي أريد له ان يُصفى ويُباد من قبل الحركة الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية، بقي على أرضه، وهو اليوم في فلسطين التاريخية، يعد تقريبا (7) ملايين إنسان، أي ما يفوق عدد اليهود المستوطنين الذين جئ بهم من شتى أنحاء العالم، أي لم ينته وجوده الفيزيائي، ولم يستسلم لمحاولات تهويد المكان والزمان، وقد طور ويطور روايته التاريخية البديلة ويعبر عن تاريخه وثقافته وتميزه القومي والوطني ليس كمتحف تراثي او فلكلور وتقاليد، بل كصاحب أرض وساكن لها لم تنقطع صلته التاريخية بها، وكوارث لكل تاريخها وتراثها العربي الإسلامي المسيحي، ولم يتحول الانسان الفلسطيني الى "انسان جديد" و"كندي" مسالم وخانع راضي بهندسة وجودة ك"غائب حاضر"، أي لم تتم تصفيته كشخصية قومية وثقافة، كما حال الشعوب الأصلانية. وإضافة إلى ذلك، فإن جيش الاحتلال الذي قيل عنه لا يقهر، قد تم قهره في أكثر من معركة، واضطر لسحب مستوطنيه وتفكيك مستوطناته من غزة تحت وطأة المقاومة وعقدة الخوف الديمغرافي، وأن المستوطن الذي أراد طرد السكان الأصليين أهل البلاد أضطر لإقامة جدران الفصل والأبارتهايد، ويخطط لتوسعة اقامتها حتى تشمل ما يخطط له من معازل للفلسطينيين وعلى طول نهر الأردن (من المتوقع أن يصل طول الجدار بين فلسطين المتخيلة المحصورة والكيان الصهيوني بعد إتمام الضم المخطط له إلى حوالي 1700 كم). وإضافة إلى ذلك، فإن الرد الفلسطيني على مخططات الضم واضح وجلي بالرفض، وأن التحلل من الاتفاقيات الموقعة مع الإسرائيليين والأمريكان والالتزامات والتفاهمات معهما، ورفض صفقة القرن، والتمسك بالحرية والاستقلال هو أمر ماثل وحقيقي لا يقبل الشك، إلا من البعض الذين لا يريدون للموقف الفلسطيني أن يتماسك ويستعيد عافيته بالعودة الى منطق الصراع الوطني التحرري. وإلى جانب ذلك، وعلى الرغم مما لحق بالشتات الفلسطيني من تهميش، إلا ان مؤشرات الواقع الفلسطيني الموضوعية في مختلف أماكن تواجد الشعب والجاليات الفلسطينية خارج فلسطين، تؤكد التمسك بحق العودة الى الوطن، وعدم التنازل عن الحق بفلسطين وهدف تحريرها من براثن المحتل المستوطن. أما على الصعيد الإقليمي، ورغم الانحدار الكبير للأنظمة العربية وتخليها الواضح عن القضية الفلسطينية مقابل تحالفها من دولة الاحتلال وتطبيع العلاقات معها لمواجهة الخطر الايراني المزعوم، إلا ان القضية الفلسطينية وعدم حلها حلا عادلا يقبل به الفلسطينيون لا زالت تؤرق كل الأنظمة العربية وخاصة المحيطة بفلسطين، وتكشفها أمام شعوبها التي لا زال لفلسطين مكانة سامية في وجدانهم، وثمة استشعار للخطر المحدق بهذه الدول وشعوبها جراء تصفية القضية الفلسطينية التي تستهدفها صفقة القرن ومخطط الضم، وخاصة في الأردن حيث التواجد الفلسطيني الكبير وحيث الأطماع الصهيونية التاريخية بالأردن والنظر اليه كوطن بديل للفلسطينيين. ولئن كانت دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني قد قامت واستمرت بتحالفها مع المركز الامبريالي باعتباره "الدولة الأم" للمستعمرين الصهاينة، والذي انتقل من بريطانيا لفرنسا واستقر في حضن الولايات المتحدة الأمريكية التي يحكمها الصهاينة والافنجليكانيين المتصهينين اليوم، فإن هذا المركز ليس أبديا في قوته وعظمته، والعالم يشهد تحولات جيوسياسية استراتيجية قد تقلب موازين القوى والتحالفات، ولن تبقى أميركا بذات جبروتها وعظمتها التي يجري الاستقواء بها لحسم صناعة الوجود الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. وها هي الأصوات والآراء في مختلف قارات وبلدان العالم، تعلو لرفض الضم، وضد التمييز والفصل العنصري والأبارتهايد، وتزداد حركة مقاطعة إسرائيل قوة وانتشارا رغم كل محاولات مقاومتها وشيطنتها، والفلسطينيون يطرقون الأبواب لملاحقة الاحتلال على جرائمه في محكمة الجنايات الدولية وغيرها من المنابر والهيئات، هو ما يعني أن دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لن تبقى إلى الأبد خارج وفوق القانون.

وفي ضوء ما تقدم، أرى ان الضم المخطط له ليس قدرا، وأن المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين يمكن ان يهزم، ومفتاح هزيمته رفض الضم والتهويد ومقاومة فرض القانون الإسرائيلي والسيادة، من خلال لحمة وطنية متماسكة تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، المفترض أن تحيى وتفعل لتستعيد دورها الوطني التحرري كقائدة للشعب الفلسطيني وممثله الشرعي الوحيد في كافة أماكن تواجده، وعلى أساس رؤية وبرنامج وخطة موحدة لادارة الصراع مع المحتل وباستخدام مختلف أساليب وأشكال النضال المشروعة المتوائمة مع طبيعة المرحلة، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية التجمعات الفلسطينية المختلفة وظروفها وامكانياتها، وبالتالي استمرار الموقف برفض التفاوض على صفقة القرن وعدم الانجرار لمحاولات كسر شوكة الموقف الفلسطيني وصموده تحت الضغط السياسي والمالي واغراءات التفاوض على الدولة والتخويف من دويلة غزة الاسلامية، مع التمسك ببقاء مؤسسات السلطة، والحذر من دعوات حلها وتحويلها إلى مؤسسات خدماتية لأن هذا أصلا هو مطلب إسرائيلي وأمريكي تتضمنه صفقة القرن التي تريد تحويل السلطة الى سلطة بلديات، بل تغيير وظائفها لتصب أساسا في تعزيز صمود المواطن الفلسطيني في أرضه ومواجهة ومقاومة الاستيطان والضم بوحدة وطنية وشعبية، على المستويين السياسي والميداني، والمواجهة الصارمة لكل محاولات خلق البدائل التي يعمل الاحتلال والأمريكان على تشكيلها.

ان الاستعمار الاستيطاني ينتصر بوقف مقاومة الشعب المحتلة أرضه وقبوله بشرعية وجود المستعمر المستوطن، وإن استدامة المقاومة وتفعيلها بوسائل وآليات وأساليب ناجعة، والتي تجعل من مشروع الاحتلال مشروعا خاسرا، هي مفتاح منع المشروع الاستعماري الاستيطان الصهيوني من الانتصار، والبوابة الكبيرة، والسلاح الأمضى في سبيل نزع الشرعية عنه على طريق تفكيكه. وإن المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني الذي يحاول ان يحسم صناعة وجوده واستمراريته، ورغم استثماره للظرف المحيط غير المواتي للفلسطينيين، لن يكون بمقدوره أن يصفي الشعب الفلسطيني مهما تجبر واستكبر، أو أن يفرض عليه الاستسلام، وأن يحتجز تطوره إلى الأبد ويفرض عليه، كما تستهدف صفقة القرن، أن يتطور على مقاس الحاكمية الأمريكية المعولمة فيما أسمته ب"فلسطين الجديدة"، بل ان وجود الشعب الفلسطيني وصموده على أرض فلسطين التاريخية، واستعادته لروحه الكفاحية التحررية الوطنية، سيكون العامل المقرر في عدم تحول دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيونية الى دولة يهودية خالصة، وستنتفي عنها أي صفة للديمقراطية ما دامت تتعامل بتمييز وفصل عنصري مع الشعب الفلسطيني، ولن يستطيع المستعمر المستوطن الغريب عن هذه الأرض ان يتحول إلى صاحب المكان (حباس، ب.ت). ولا شك ان عملية تفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين تبدأ من هنا، من صمود الشعب الفلسطيني على أرضه وإدامة مقاومته للاحتلال والاستيطان والأسرلة والتهويد والتمييز والفصل العنصري ومواجهة الرواية الصهيونية بوعي وطني ورواية وطنية متماسكة تفند كل الادعاءات والزيف الاستعماري الاستيطاني. وهو ما يتطلب استراتيجية شاملة وواضحة، وأدوات كفاحية قادرة على الفعل والتأثير.